“دراويش الموصلية” قراءة في أمطار صيفية

"دراويش الموصلية" قراءة في أمطار صيفية
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

سارة طوبار 

"-أنت تؤمنين بالتكنولوجيا، كإيماننا بالله!

ضحكت زينة، ثم علقت ببساطة: الله! الحقيقة أني لست متأكدة، أوقل إني غير مهتمة، لست في حاجة لمرجعية كبرى ألتجئ إليها حين يستغلق علي لأمر، مرجعيتي هي العقل والمنطق، وأؤمن بكل ما يمكنني اخضاعه للتجربة، كما أؤمن بقدرة الانسان على إحداث المعجزات، حين لا ينتظر هبوطها من السماء. 

-أما أنا فأؤمن بقوة الروح، بقدرتها على تجاوز حتى المعجزات العلمية التي تشيرين إليها، لو استطعنا من خلالها أن ننفذ إلى الله، لنستمد منه القدرة مباشرة

-ستعالج ذراعك باليوجا إذا!

-بل بإيماني بأهمية ما أقوم به، وبمعونة الله لي، طالما أمنت به….”

أمطار صيفية رواية للكاتب أحمد القرملاوي، فازت بجائزة الشيخ زايد فرع الشباب للعام 2018، أعماله السابقة ما بين القصة والرواية.

الرواية ذات طابع صوفي، تدور أحداثها في وكالة الموصلي، التي يتبع مريدوها منهج عبادة الموصلي عازف العود العراقي الذي جاء مصر في العصر المملوكي، يأخذنا الكاتب بين فصل واخر لحكاياته وحياته، سنعرف أن من ألهمه الطريقة فتاة صغيرة يتيمة، أحبت العود والانشاد، فعلمها ثلاثين لحنا، وعلمته التسبيح كما عرفت من أبيها فكانت البداية حين قال لها ” سبحي ثلاثين، بينما تعفقين الثلاثين، فلا تشعرين بألم التشقق”.

يدور الصراع حول مصير الوكالة كأثر تاريخي إسلامي، فمن جهة يرى السلفيين أنه يجب تطهير الأثر الإسلامي من “ورشة المعازف”، فيتوددون لذاكر رسلان الوريث الأخير للشيخ الموصلي، ولتوازنات يعتقد انها تصب في مصلحة الوكالة ، يمكنهم مساحات منها للصلاة، إلا ان أطماعهم تدفعهم لمحاولة السيطرة عليها بشكل كامل.

ومن جهة أخرى تظهر زينا الموسيقية النصف مصرية لأم ألمانية، بمشروع عصري لمزج موسيقى الشرق والغرب، لتطوير الوكالة واستغلال اجوائها وطابها التاريخي لتصبح مركزا لمشروع عالمي إلا أن ذاكر رسلان يرفض، متمسكا بأجواء الوكالة الروحانية وايمانا منه بالطريقة وشيخها.

تتدهور حالة رسلان الصحية فيوكل إدارة الوكالة ليوسف عازف العود وأقرب تلاميذ إليه، لكن يوسف يقع في شكوك حول وجود الشيخ الموصلي من الأساس، بسبب إصرار وينة ان الموصلي خرافة لا أصل لها، وتحاول إقناعه بمشروعها، فتفتح له أبواب علم وفرص عمل لم تكن لتظهر دونها ،فتبدأ مشاعره تتأرجح بينها وبين رحمة ابنة أستاذة، الصوفية الحالمة وزميلته في الطريقة، والتي تبادله هي الأخرى مشاعرها على استحياء وقلق احتراما لوالدها.

يزداد صراع يوسف بين ما هو روحاني وما هو منطقي، يقف في منتصف الطريق عالقا بين ما يؤمن به، وما استجد عليه بسبب دخول زينا حياته، و بين محاولاتها لاستمالته، ورفض أستاذه محاولاته لتطوير الطريقة الموصلية وتدريبات العود، يجد يوسف نفسه غير قادر على الاهتمام بأمر الوكالة بعد غياب رسلان، فيلجأ لزياد صديق دراسته، وزميله في الطريقة.

الصراع ذاته وقع فيه رسلان قبل أكثر من ربع قرن حين قرر أن يترك زوجته الألمانية ومجده الموسيقى يعود لمصر يستلم ارثه بمساعدة زوجته الألمانية ويتبع الطريقة الموصلية ويتزوج امرأة أخرى.

زينا ورحمة وجهي الصراع، الصراع الذي يفرضه الزمن والتطور السريع للتكنولوجيا، الصراع بين ما هو مادي وروحاني،

ربما لا تستطيع أن تحسم مشاعرك تجاه أبطال الرواية، خاصة وان الكاتب أجاد رسم خلفياتهم النفسية بالقدر الذي يبرر تناقضاتهم وشرهم أحيانا، فرسلان يبدو شخص متناقض إلى الحد الذي جعله غير قادر على مواجهة المجتمع بزينا كابنة قادمة من ماضيه البعيد الذي خلفه وراء ظهره منذ اكثر من ربع قرن، بالرغم من احتياجه الدائم لأمها التي تدير مؤسسة تقدم تمويل لوكالة الموصلي.

أما زياد فلديه صراعه الخاص مع العالم أجمع ، بسبب علاقته بوالديه ، أجاد الكاتب إيضاح خلفيته النفسية وكيف أن توحشه وشره نتاج لمعاناته في طفولة وحيدة بائسة جراء أبوين لا ينشغلان بكونه ابنهما، تعملقت مخاوفه فهزمها بالانتهازية والاستغلال، لاحتياجه المال سرق عود التدريب وقام ببيعه، واستغل أجواء الوكالة لتصوير فيلم لصديقته التي لا يتوقف عن استغلالها هي الأخرى ،مما أساء لسمعة الوكالة.

برأي لم يكن أحد مخلص للطريقة ومتسق مع أجواء الوكالة غير عم عبيد صانع الأعواد الذي أفنى من عمره أربعين عاما فيها ولها، حتى أنه في النهاية مات محترقا في ورشته وكأنما لا مكان له بعد زوالها، الأمطار الصيفية ذكرت في موضعين بزمنين مختلفين، على لسان عبادة الموصلي امام الطريقة، ثم على لسان عبيد في موقف مشابه بعد مئات السنوات

كان يتداعى بينما يعبر الشارع، تورمت قدمه حتى كادت تنفجر، عاد إلى الداخل، عبأ السطل بالمياه الدافئة، حمله وجرجر رجليه لداخل الورشة، أغلق الباب وجلس في مكانه الأبدي خلف البنك، مدليا قدميه في جوف الماء، صارت الدموع تنساب على وجنتيه، فلا يدرك ما أوعز فيها، أهو الألم أم الخوف؟! عاودته ذكرى بكاء الموصلي والأمطار الصيفية، نظر إلى السماء المحتجبة فوق سقف الورشة، وعلم أن ميتة ستقع لا محالة“.

الاهداء خادع، وظفه الكاتب في حبكته، وتداخل زينا بين الفصول أضاف للرواية وجهة نظر مغايرة للراوي الذي اختارته زينا لتدوين حكاية الوكالة، وكيف تمكنت منها في نهاية الامر لتقيم مشروعها الذي يتوافق مع روح العصر وتطوره.

اما عن اختيار الأسماء فلا أعرف هل كان مقصودا التضاد بين اسمي زينة و رحمة، وما يعنيه الأول من ظاهر الأمر، والاخر باطنه، اسم يوسف ومحنته.

الرواية سلسة دون تعقيدات ومفاجأت كبيرة، واللغة هادئة وعزبة كعزف يوسف، أحداثها متماسكة وتطورها منطقي.

وفي النهاية كان مشهد الحريق بسبب خطبة تحريضية للسلفين، التهمت النيران ورشة المعازف وروح الطريقة، تمكنت زينة من الوكالة وأقامت مشروعها الموسيقي كما خططت له، انتصر ما هو مادي وحداثي في جولة تبدو أخيرة، إلا أن الصراع ذاته أبدي لن ينتهي .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

كاتبة مصرية

مقالات من نفس القسم