رنا

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 53
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الله ناصر

في الطريق إلى محافظة الخرج جنوب شرق الرياض. المسافة أقل من ١٠٠ كم ولو غنى محمد عبده لصارت ٥٠ كم. الطريق ينبسط مثل راحة يد، لا جبال ولا أودية، فقط بعض المنعرجات حتى لا يداهمنا النعاس. 
يقود زميلي سيارة العمل وأحدق في النافذة مثل سجين. مصانع ومزارع ومحطات وقود ومدينة ألعاب مهجورة. “وتلفتت عيني فمُذ خفيتْ عنها الطلولُ تلفتَ القلبُ”. كانت هذه الملاهي ومثيلاتها حلم الطفولة، كنا صغارًا حين حضّني ولد الجيران على سرقة أبوينا، قال مئة ريال تكفي، ولا أتذكر ما الذي منعني بالضبط. أهو الخوف أم تربية أبي أم جيوبه الخاوية.
محدقًا في النخيل، تبدو نخلات الخرج، على غير العادة، قصيرات كأنهن بنات اليوم. ينبغي للرجل أن ينحني بشدة لملامستهن كما ينحني أمام الثلاجة لتناول الكولا من الرف السفلي. لقد كذب درويش حين جاملهن ولعله يحاسب الآن حسابًا عسيرا. 
كتب أحدهم “رنا” على جدار بيت. كتبها أيضًا على سور مزرعة. رنا البستان والسكنى، أظنه كتبها على جدار مسجد ولم يلبث أن خاف فشطب اسمها وهو يستغفر. لا بد أن يحب الرجل رنا واحدة على الأقل في حياته فإن لم يجد فلا بأس لو أحب رشا. كل شوق لغير رنا يسكن باللقاء ولا يعول عليه. رنا ضرورة مثل الغربة تماما. لما رنا حدثتني النفس قائلةً يا ويح جنبكَ بالسهمِ المصيبِ رُمي، رحم الله شوقي كم كان يحبه أبي، يا ناعس الطرفِ لا ذقتَ الهوى أبدًا أسهرتَ مضناكَ في حفظِ الهوى فنمِ. في العشرينات قلت هذا البيت لكل الصبايا ردًا على “تصبح على خير” وما إن يغلقن الهاتف حتى أسبح في النوم. للبيت ربٌ يحميه.
قلت لزميلي: “رنا لا تسكن في الدلم بل في الهياثم، وتدرس اللغة العربية في جامعة الإمام في الرياض، وكلما ركبت الباص وشاهدت اسمها باللون الاحمر يقرص الخجل قلبها وخدّيها ولأنها تغطي وجهها لا ينتبه من في الباص. أما لماذا لم يكتب اسمها في الهياثم فلأنه لا يريد أن يفتضح أمرها. فكرَ أن الهياثم صغيرة وقدّر أن لجدرانها آذانًا رهيفة وألسنةً حادة، وليس في الهياثم كلها غير رنا. لم يعرف أنه كتب اسمها بالقرب من بيت ابنة خالتها رقية. لكنها أقسمت أن تحفظ السرّ. كانت قد يئست أن يكتب أحدٌ اسمها على الجدران وهكذا صارت قصة رنا قصتها بشكلٍ أو بآخر.
رنا نحيلة بل شديدة النحول، ويزعجها منظر نهديها الصغيرين وأضلاعها البارزة تحتهما، لكن في الوقت نفسه ما كانت لترضى أن تغيّر في جسدها شيئا. أما العاشق فيؤرقه النهدان الصغيران بل وحتى أضلاعها البارزة، ويقضي شطرًا من الليل في تخيل ذلك المنظر، وشطرًا آخر في تخيل الملمس والرائحة حتى تطلع الشمس ولسان المسكين يتدلى في الهواء، يطلي الفراغ بلا هوادة. لن يتزوجها في الغالب، لا لشيء ولكن لتدوم التعاسة. سيجبن في اللحظة الأخيرة أو يرفض أبوها. لو تزوجها لسارع إلى طمس اسمها من سور المزرعة. هكذا يفعل المتزوجون. لا يتباوسون في المطاعم ولا يتلامسون في المصاعد. لا يقاطعها حين تصلي مرددًا أحبك حتى تضحك وتقطع صلاتها، ولا تقاطعه هي أيضًا فتقضم أذنه كلما هاتف أمه. الحماقة الأخيرة التي يتذكرها الأزواج هي الزواج ثم يغدون فجأةً آباء وينشغلون بالدوام وأعمال أخرى ليسددوا القروض ويقترضوا مرةً أخرى، يتمرغون في عفن الحياة..” وقبل أن أواصل حديثي انتبهت أننا قد وصلنا منذ مدة على ما يبدو. قال زميلي: “هلّا حدثتني عن المدير الجديد قبل الاجتماع؟”. قلت إنه شرس وصعب المراس كأنه والد رنا، بل أظنه هو.
لسماع النص:

مقالات من نفس القسم