عبد الرحمن إبراهيم
يكمن جوهر الرواية التاريخية في أنها ليست توثيقا لأحداث التاريخ، بل في أنها تخضع لأدوات الرواية في صيغتها الجمالية، وأيضًا في ترك مساحة أكبر للخيال لسرد ما لم يحدث، أو للأدق لسرد المسكوت عنه؛ ففي روايته رسم العدم (والصادرة عن منشورات تكوين) يسرد الكاتب السعودي “أشرف فقيه” تاريخ عالم الرياضيات الإيطالي ليوناردو فيبوناتشي، ورحلة تعلمه وإتقانه لعلوم الأرقام والحساب العربية، ليس فقط ليؤرخ سيرته عبر ملخص لرحلته، بل ليدرك فلسفة فيبوناتشي في رؤيته للعالم عبر الرموز العربية المعدمة في صيغة العدد والحساب، وليمنحها معنى عبر مفردات اللغة.
صراع الكنيسة والسلطة
هنا يروي الكاتب أشرف فقيه حكاية ليوناردو فيبوناتشي من الطفولة إلي الشيخوخة، ساردًا منذ اللحظة الأولى تفاصيل نشأته وكأنه كان شاهدًا عليها منذ البداية، وليمنح بطل سيرته الروائية والتاريخية بعدًا آخر لحكايته، ليس فقط كشخصية تاريخية ولكن كشخصية فنية، تترك مساحة للتفكير والبحث في حكايتها عبر ما يمنح وعي المتلقي حكاية استثنائية في جوهرها.
تبدأ عتبة الرواية بمشهد بلوغ ليوناردو فيبوناتشي مبنى كاتدرائية بيزا بتوسكانيا عام ١٢٥٠ ميلادي، بعد أن استدعاه الكاردينال دي مورا ليقف أمام القضاة لمحاكمته وهو في سن الشيخوخة، كأن الكاتب أراد أن يبدأ روايته من لحظة الذروة في حياة ليوناردو فيبوناتشي، فيما يتم سؤال عن التهمة الموجة له عن علاقته بالإمبراطور الروماني السابق فريدريك هوهنشاوفن والملقب بفريدريك الثاني، حاكم صقلية في ذلك الوقت والذي كان منبوذًا من قبل رجال الدين والقساوسة بسبب سعيه للسيطرة على إيطاليا، وقد توج ملكًا على القدس عام ١٢٢٩ ميلادي، وكان ذلك سببًا في خلاف كبير وقع بينه وبين رجال الدين، لذلك اتهموه بالكفر والهرطقة في ذلك الوقت، فكانت علاقته بالإمبراطور شبهة في عقيدته الدينية وجريمة فادحة.
متوالية الزمن
فيما بعد، يرجع الكاتب بالزمن إلى الوراء أي قبل مثول فيبوناتشي أمام الكاردينال، ليروي حيثيات الحكم أثناء تولي فريدريك الثاني، ليرصد الرابط القوي بين إعجاب الإمبراطور بشخصية وعقلية ليوناردو الفذة في الرياضيات، ولأن فريدريك هوهنشاوفن كان محبًا للعلم والمعرفة وكان يحتضن بين حاشيته الكثير من العلماء في جميع مجالات المعرفة من الفلسفة والطب والرياضيات، وأيضًا يوجد رابط لم يتم الإشارة له أثناء الرواية بطريقة مباشرة، هي أن طفولة الإمبراطور فريدريك يوجد فيها جزء شبيه بطفولة ليوناردو فيبوناتشي، في أن كلاهما كان يسعى لنيل المعرفة، وأيضًا امتلاك كل منهم العديد من اللغات، والتنوع الثقافي.
فهنا يرصد أشرف فقيه تأثير ترحال ليوناردو فيبوناتشي بين بجاية في شرق المغرب وبين بلاد الأندلس والعراق، كأن سعيه إلي المعرفة قد أجبره على تيه هويته في ثقافاتهم المختلفة، لأن الزمن الذي رسمه أشرف فقيه لبطله قد اتخذ متواليه تعارض بها متواليه فيبوناتشي، فإن كان ما يستنتجه ليوناردو من قيمة عدد فردي وعدد زوجي قيمة مربع، فأن أشرف فقيه قد استنتج من تاريخه واكتشافاته التي حققها، حكايته التي لم تكتب.
الذاكرة البصرية
أعتمد أشرف فقيه في كتابته للرواية على ذاكرته البصرية، التي خلقت بوصفها الدقيق لأي مشهد إيهامًا بالصورة التخيلية التي كانت عليها تلك الحقبة التاريخية، فاللغة السرد تحتفظ بإيقاع موسيقى ينعش حواس المتلقي في إدراك تلك الصورة الغائبة عن وعيه في سياق الزمكان الذي يحافظ الكاتب على نسجه بإتقان ورؤية ترصد تفاصيله المدهشة، رغم أنها كتابة مليئة بالأحداث والتحولات الجذرية في حياة بطلها ليوناردو فيبوناتشي إلا أنها ما تزال تترك مساحة أكثر للصمت.
هنا لا يتكأ أشرف فقيه في رواية سيرة فيبوناتشي على منجزة من مؤلفات حول علم الأرقام والحساب فقط، بل ليرصد صراعاته على هامش الأيدلوجيا التي كانت تسود تلك الحقبة التاريخية التي عاشها وأيضًا في إلقاء الضوء على الصراع بين الكنيسة والسلطة علي الحكم آنذاك، تكمن رؤية الرواية من حيث أدواتها التي تتجلى في الوصف الدقيق للمكان والزمان في أنها تقدم قراءة تخيلية للتاريخ، عبر شخصية فذة تحاول اكتشاف سحر الأرقام والبحث في دروبها المبهمة، ليس فقط لتمنح معنى يعبر من خلالها إلي حل مسائلها الأكثر تعقيدًا، ولكن للكشف عن ما تحتويه من أسرار.
التاريخ كسيرة فنية
حين كتب ليوناردو فيبوناتشي كتابه الأول “كتاب الحساب” والذي أطلق عليه متوالية فيبوناتشي، واجه سخرية كبيرة من عائلته، رغم انتشار الكتاب وشهرته في جميع أنحاء البلاد، لكن بقيت الأمثلة التي صاغ من خلالها أفكاره موضع سخرية بينهم، مما أدى إلى نكسه أصابته تجاه تدوين اكتشافاته في علوم الحساب، امتدت إلى عشرين عامًا منذ إصدار كتابه الأول، دون العمل على كتاب جديد يحوي أفكاره الفذة التي استنتجها خلال رحلة ترحاله من أجل اكتشاف منابع علوم الحساب في بلاد الشرق عند العرب، ولدراسة الأرقام العربية وتقديمها كبديل للرموز اللاتينية، كونها أكثر سهولة وأقل تعقيدًا، وخصوصًا كون العرب متقدمين في هذا المجال عن الغرب في ذلك الوقت، ولنقل ما تعلمه إلي بلاده، لكن المفارقة، أنه لم يتعلم علوم الحساب فقط بل سعى إلي استنتاج ما يخبئه هذا الصرح من معرفة، وليؤسس متننًا على غرار من سبقوه، يحوي في جوهره أصالة اكتشافاته.
يمكن اعتبار عنوان رواية “رسم العدم” رغم أنه المدخل في جعل قصة ليوناردو فيبوناتشي جديرة بالكتابة، إلا أنه ظل مصاحبًا لهامش القصة، فمفردات أشرف فقيه ظلت ترسم طوال العمل سيرة جديرة بالكتابة وفي نفس الوقت صورة تضمن رؤية لتفاصيل قصة هي في جذورها غير مكتملة، لكنه سعى طوال كتابته للرواية إلى إكمالها.