الأوراق المجهولة للويس عوض

لويس عوض
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إيمان علي

الدخول إلى عالم لويس عوض (1915 – 1990) لم يكن بالأمر السهل. فالعالِم الذي وصف نفسه بأنه “تلهبه شهوة لإصلاح العالم” كان التلف أو الضياع مصيرا للكثير من مخطوطات كتبه، حتى إن كتابه بالعامية “مذكرات طالب بعثة” مثلا صدر في منتصف الستينيات عن سلسلة الكتاب الذهبي في روزاليوسف واحتاج أن ينتظر كل هذه السنوات منذ كتابته في مسودته النهائية في 1942، ذلك لأن المخطوطة ظلت مع صحفي لمدة عشرين عاما.

في ذكرى وفاته الـ29، تكشف سطور أوراقه الناجية من التلف حكايات مجهولة خلفها.. حكايات تنفض حالة الإرهاب الفكري التي صاحبت مسيرة “كاتب الأضداد” كما وصفه أحد الكتّاب الكبار. بعد كل هذه السنوات؛ تعود مخطوطة كتابه الجدليّ الممنوع “فقه اللغة” من بين الأوراق الناجية لتردّ للمفكر الكبير قيمته وجهده، وتفتح الباب من جديد للمناقشة والنقد، ومحاولة للفهم عن قرب.

لويس عوض بريشة جورج بهجوري
لويس عوض بريشة جورج بهجوري
  • مخطوط “فقه اللغة”: العامية انتقت المألوف في المصرية القديمة

“إن جوهر القضية كما يراها المؤلف هي: مصر إلى أين؟ إلى الخُمينية أم إلى الحضارة والمعاصرة ودور العلم والعقل؟”.. تكاد تكون الجملة السابقة هي الردّ الوحيد والموثّق للويس عوض على أزمة مصادرة كتابه “مقدمة في فقه اللغة العربية”.

مخطوطة الكتاب التي عثرنا عليها من بين الأوراق الناجية من غرق مكتبة لويس عوض هي دفتر وحيد يبدو واحدا من دفاتر عديدة للكتاب. بخطّه المنمّق المعتاد، تبدأ أول صفحة من الدفتر/ المفكّرة بمبحث في “أسماء الحيوان” واشتقاق الكلمات العربية للحيوان من لغات أقدم. المفكرة غير مكتملة، بها صفحات غير مكتوب فيها. وقبيل صفحات غير قليلة متروكة بلا كتابة، تنتهي المفكّرة بالكلمات الدالة على “العقل” ضمن مبحث مفصّل بصورة أكبر من مبحث أسماء الحيوان، اسمه “أعضاء الجسم”. وفيه تفصيل بالكلمات الدالة على كل عضو من أعضاء جسم الإنسان، وجذره في المصرية القديمة واللغات الأوروبية، الإنجليزية والفرنسية.

في إحدى صفحات النوت غير المرقّمة، يكتب لويس عوض هذه الخاطرة التي يمكن اعتبارها الفكرة المحورية للكتاب ككل: “ومما ينبغي ملاحظته أن العامية المصرية انتقت من المفردات العربية أقرب الألفاظ العربية إلى ما ألفته في المصرية القديمة والقبطية. فلسبب ما لا نجد أثرا لفعل “ذهب” في أي صورة في العامية المصرية التي تستخدم “راح” وحدها، وهي عربية ولكن اختيارها من دون سواها دليل على أنها أقرب مفردات الذهاب إلى اللغة التي بادت”.

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 10

في كتاب “مقدمة في فقه اللغة العربية”، حاول لويس عوض أن يُثبت أن الأمة العربية حديثة الظهور نسبيا وأن اللغة العربية هي أحد فروع الشجرة التي خرجت منها مجموعة اللغات الهند أوروبية. وهو ما انتفض ضده الأصوليون والمحافظون، اعتبروه تعدّيا على حرمة لغتهم وطعنا في أصالتها.

في دفاعه عن بحثه، وهو المجهود الموسوعي الضخم بحقّ، اكتفى لويس عوض، ذلك العنيد، بمذكرة أولى ووحيدة أرسلها إلى المحكمة في أثناء نظر الدعوى المُقامة ضدّه بعد نشر الكتاب. وترفّع بعد ذلك في الصحافة وبين الأوساط الأدبية عن التعليق والمناقشة والردّ على خصومه، وعلى رأسهم صاحب الدعوى العلّامة محمود شاكر، الذي خصّ لويس وكتابه بالهجوم والدعوى بالمصادرة في كتاب بعنوان “أباطيل وأسمار”.

نحن في عام 1983، بعد عامين من صدور الكتاب، حيث قُدّمت مذكرة الأزهر ضد الكتاب بعد عامين من صدوره. بينما يرى لويس عوض نفسه أن كتابه كان ضحية ما عُرف بـ”خريف الغضب” في أكتوبر من عام 1981، عام صدور الكتاب عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، مع حملة الاعتقالات الشهيرة لرجال الدين الإسلامي والمسيحي.

كتب لويس عوض عن نفسه في المذكرة التي قدّمها إلى المحكمة، وهي الوثيقة التي يعرضها نسيم مجلي في كتابه التفصيلي الشامل عن القضية “لويس عوض ومعاركه الأدبية” من إصدارات الهيئة العامة للكتاب أيضا. كتب عوض: “حتى 1965، لم أكن أتصوّر أني أمثّل كل هذه الخطورة في الثقافة العربية أو على الثقافة العربية”.

تدخّلت النيابة العامة بناء على مذكرة من لجنة البحوث بالأزهر وصادرت الكتاب فانقطع سياق الحوار العلمي مع ما جاء به لويس.

وذهب كثيرون إلى أن قبطية لويس عوض زادت من أمر الهجوم عليه والتشكيك فيه. وانكروا عليه أن يبحث في الأدب العربي واللغة العربية ميراث الإسلام، فهو لا يحق له.

كان كتاب فقه اللغة قد واجه موجات متتالية منذ صدوره من الهجوم والاستنفار على حد تعبير لويس نفسه. وها هي مجلة  الإذاعة والتليفزيون تنشر على مدار الشهور الأولى من 1981، ثلاثة عشر مقالا بقلم مدرّس في جامعة أسيوط هو الدكتور البدراوي زهران، انحرف فيها صاحبها تماما عن مناقشة القضايا اللغوية إلى إثارة القضايا الدينية.

لويس عوض الذي آمن بالقومية الفرعونية لمصر، واجه اتهامات بعد نشر كتابه هذا بمهاجمة الإسلام، وهدم قدسية اللغة العربية. ولم يتزعّم البدراوي وحده الهجوم على لويس. فهناك كتاب “الغزو الفكري” لجلال كشك، “أباطيل وأسمار” لمحمود شاكر المذكور سابقا، و”دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي” للبناني حسن مروه.

بالنسبة إليه؛ آمن لويس عوض بأن “الحقيقة تُقال لا أن تُعلَم”. وواجه حملات التطرّف والتعصّب بجملة واحدة، ثم صمت حتى وفاته: “أنا أقف في صف التقدّم والحرية والإنسانية، وشططي هو شطط الاجتهاد”.

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 09

المعنى الاشتقاقي وليس معنى المعاجم

ترد هذه الجملة كثيرا في مخطوطة “فقه اللغة” الناجية والتي لا يحذف أو يشطب منها لويس كثيرا، تقول الجملة “لن نهتدي إلى حكم قبل أن نعرف المعنى الاشتقاقي للكلمة لا معنى المعاجم”. وهي باختصار جوهر منهجه في هذا الكتاب.

لم يحظ كتاب “مقدمة في فقه اللغة” بمناقشات علمية تحاجج ما جاء به مؤلفه. المخطوطة تمنح فرصة حميمة لقراءة هادئة ومحاولة للفهم بعد كل هذه السنوات.

كيف نفهم منهج لويس عوض في هذه الموسوعة اللغوية اليوم، وكثيرا ما نسمع عن “الوحدة الايتمولوجية بين الإنجليزية والعربية وبينهما وبين الألمانية والفرنسية”؟

في البحث عن جذر “كلى”، “كليه” Kidney  الإنجليزية، ممكن أن يقترب إلينا المعنى. يقول لويس أن علماء اللغة يجهلون أصل كلمة كلى ويرجعونها إلى معنى كلمة بيضة بالإنجليزية. لكن لويس عوض لا يرى مع “وبستر” أنها ترجع إلى بيضة، بل إلى “صيغة فاسدة من كلمة neiros اليونانية بمعنى الماء، ولا استبعد أن يكون معناها الايتمولوجي قريبا من “مصفاة الماء”.

من المباحث الطريفة فعل انتفخ لا بمعنى النفخ لكن بمجرد البروز، ومنها جاء جذر breast  من كلمة “بز” المصرية العامية، إنما في العربية يعيش في كلمة “برز” و”بورجوس” اليونانية وهي “برج” العربية. بمعنى أن “برج البناء هو ثديه البارز. وسليمان الحكيم حين استعمل التشبيه الجميل في نشيد الإنشاد (ترك الاقتباس فارغا) فشبّه البز بالبرج”.

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12

  • رسالة الماجستير غير المترجمة: دراسة مقارنة الأولى من نوعها

“أسس البلاغة الشعرية في الأدب الإنجليزي والفرنسي” هو عنوان رسالة الماجستير التي حصل عليها الدكتور لويس عوض من جامعة كامبريدج سنة 1943. ونملك نسختها الأصلية على الآلة الكاتبة. وهي لم تترجم حتى الآن. ولا يذكرها لويس بين تتابع سيرته الذاتية في كتاب “أوراق العمر.. سنوات التكوين”.

كان لويس عوض قد عاد إلى مصر بسبب الحرب من دون أن يُكمل الحصول على الدكتوراه. وعمل مدرسا في جامعة القاهرة من دون أن يحصل على الدكتوراه بعد، فقد كان ذلك متاحا. كانت فترة مليئة بالتحقّق والسعادة والفخر بالنسبة إلى الدكتور لويس. يكتب في مقدمة روايته المُتقنة “العنقاء” ويعتبرها النقاد تحفة نادرة: “كان يُعرف عني أني لم أكن مجرد مدرّس جامعي بالمعنى المألوف، وإنما معلّما من طراز عصور الانتقال، حيث تسقط الحواجز بين المعرفة والحياة”.

الأدب والفن للحياة، كان شعار لويس عوض في كل ما يكتبه ويدرّسه. حتى سافر إلى الولايات المتحدة (1951) في منحة من مؤسسة روكفلر حيث حصل على الدكتوراه (1953) عن رسالة “أسطورة بروميثيوس في الأدبين الإنجليزي والفرنسي”، وهي التي ترجمتها الدكتورة فاطمة موسى. وعين لويس بعد عودته أستاذا مساعدا بكلية الآداب جامعة القاهرة، وسرعان ما فُصل (1954) من الجامعة مع عدد كبير من أعضاء هيئة التدريس بالجامعات لأسباب سياسية.

من ملخص رسالة الماجستير الأكاديمية الصرف، نكتفي بترجمة الآتي: “في هذه الرسالة حاولتُ إيجاد تعريف لأساليب البلاغة الشعرية بدءا من أرسطو حتى الوقت الحاضر. هذه الدراسة المقارنة هي الأولى من نوعها، من أهدافها، الموائمة بين طروحات أرسطو وويردزويرث. إذا فُهم ويردزويرث الفهم الصحيح فإنه يُكمل أرسطو ولا يتعارض معه. ومن الأهداف أيضا الموائمة بين لغة الشعر ولغة النثر. وقمتُ بعمل بحث موجز عن طبيعة الاستعارة وإيجاد نظرية للتفكير الرمزي للأدب”.

من بين فصول هذه الدراسة المهجورة والمجهولة والمنسية، سونتات القرن الثامن العشر، ونظرية اللاتينية.

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 11

(3) محاضرة عاصفة في هارفارد: محفوظ ماكر ليس لديه ما يكتبه

كان الدكتور لويس عوض وقت عمله مستشارا ثقافيا لجريدة الأهرام، قد دُعي إلى أمريكا لإلقاء محاضرة في مؤتمر الطلاب الجامعيين العرب. وهي الرحلة التي تحدّث عنها في كتابه “رحلة الشرق والغرب” الذي صدر في سلسلة اقرأ. وأشار إلى أنه ألقى عددا من المحاضرات في عدد من الجامعات الأمريكية حول “التطورات الثقافية في مصر منذ 1952″ و”دور المثقفين في مصر الحديثة”.

إحدى هذه المحاضرات، وقد ألقاها الدكتور لويس عوض في جامعة كولومبيا بنيويورك، أثارت حفيظة عدد من الطلاب والأساتذة العرب والأمريكيين، حتى المعتدلين من الطلاب اليهود، وهي التي “تهجّم” فيها – على حد تعبير الدكتور محمد يوسف نجم أستاذ الأدب العربي بالجامعة الأمريكية ببيروت في مجلة الآداب البيروتية – بشكل صريح على عبد الناصر.

لكن المحاضرة الأعنف في ردود أفعالها بين أوساط المثقفين، كانت تلك التي ألقاها لويس عوض في الواحد من نوفمبر من عام 1971 بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد. في هذه المحاضرة أخذ الدكتور لويس يروح ويجيء على سيرة نجيب محفوظ بالتعريض والنقد الحاد، والاستهزاء والاستهانة بمكانته ككاتب روائي أحيانا.

وهو ما خصّته مجلة الآداب البيروتية بالهجوم والردّ في العدد رقم 11 لعام 1972. حيث وصف لويس عوض أديب نوبل في محاضرته بأنه “ليس كاتبا ساذجا، بل فنانا ماكرا”، “يعرف شغله وقد تزوّج من فنّه” وأنه اتّبع كل الطرق في سبيل حماية فنّه.

كانت أن حصلت مجلة الآداب على شريط مسجّل لمحاضرة لويس عوض في الولايات المتحدة الأمريكية، ونشرت نصّ المحاضرة في عددها الشهري في نوفمبر 1972، بترجمة وتعليق من الدكتور محمد يوسف نجم، الذي اعتبر محاضرة لويس في هارفارد “تزويرا لطيفا في قالبٍ دراميّ”.

ومن الواضح لنا أن مجلة الآداب تبنّت حملة للردّ والهجوم على لويس عوض على إثر هذه المحاضرة. فقد نشرت في أعداد لاحقة ردودا كثيرة على هذه المحاضرة. ومنها العدد التالي مباشرة لنشر المحاضرة، وهو بتاريخ ديمسبر 1972، ونُشرت فيه مقالة لم تقل حدّة للدكتور سامي خشبة يُعقّب فيها على ملاحظات الدكتور نجم، إلى حد اتهام ووصف دكتور لويس باكتساب الجرأة من الجمهور الأجنبي الذي قابل أوصافه الهازءة بنجيب بقهقهة ولمز، وأن الدكتور عوض بدا وكأنه يتحدّث على راحته كأن أحدا لن يعرف أو يسمع في القاهرة بما قاله هناك. ونشرت المجلة كذلك في أعدادها اللاحقة ردودا مطوّلة لمحمد محمود عبدالرازق وغيره، مُعلّقين على المحاضرة ذاتها.

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 13
لويس عوض مع الفنانة سناء جميل وزوجها الكاتب لويس جريس

إدانة لاذعة لتحوّلات المثقفين بعد يوليو 52  

في المحاضرة المعنيّة بهجوم مجلة الآداب، والتي لا يأتي الدكتور لويس على ذكرها في كتابه “رحلة الشرق والغرب”؛ فتح لويس عوض النار على الجميع. استعرض ما أسماه “حالة الآداب المصرية قبل الثورة مباشرة”. وما أسماه اللحظات الحرجة لتاريخ الفكر العلماني في مصر. ووصفها بـ”كانت أياما خطيرة”، يقصد السنوات الأخيرة من الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات.

وأطلق على سنة 1936 “التاريخ غير الرسمي للقضاء على الديمقراطية الأدبية المصرية”. وهي السنة التي شهدت – بحسب ما يستطرد – تطوّر “الجمعيات الفاشية” في القاهرة مع ظهور الأخوان المسلمين. بينما كان ممثلو “الديمقراطية الأدبية” يُجاهدون من أجل كبح جماح هذه الحركات المتطرّفة.

عاود لويس عوض في محاضرته العاصفة تقريعه لأوضاع الحركات اليسارية والشيوعية، وإدانته لتحوّلات المثقفين الجذرية غير المبرّرة في وجهة نظره بعد ثورة يوليو 1952. وكان عوض قد خصص كل أفكاره الاستنكارية النقدية للتجربة الشيوعية والماركسية المصرية في روايته الوحيدة “العنقاء أو تاريخ حسن مفتاح”، نشرتها دار الطليعة البيروتية في عام 1966. بينما كتبها لويس بين القاهرة وباريس من أكتوبر 1946 إلى سبتمبر 1947. وراقب عبرها نتائج استدراج النوادي الثقافية للشباب، بحيث “تجري السياسة وراء واجهة الثقافة”.

في المحاضرة، راجع الدكتور لويس عوض هذه الأفكار مرّة أخرى، ووضع (طه حسين) على رأس ممثلي الديمقراطية الأدبية تلك. ولكنه عاد واعتبر أن طه حسين بعد “مستقبل الثقافة في مصر” قد “بلغ مرحلة الجمود الحقيقي”. وجمع معه العقاد الذي اعتبره في نفس الفترة وبالتزامن؛ “أنهى مهمّته كقائد من قادة الفكر”. في إشارة إلى اتجاه العقاد إلى إنتاج سلسلة في السير الدينية، التي يقول عنها دكتور لويس إنها تحوّلت إلى “بدعة محبوبة في مصر”.

وقال أيضا في المحاضرة: “أظن أن هذا هو الدور المهم الذي اضطلع به طه حسين، لا كمفكر، ولكنه إلى جانب عباس العقاد، حاولا أن يُدخِلا إلى المورثات الإسلامية شيئا من المعقولية ونوعا من المنحى العلمي”. وهو نفس المنوال الذي سار عليه محمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم، وجميع أعلام الأدب المصري الذين كانوا “يحاولون مقاومة ما كان يحدث دون تعقّل في السياسة المصرية”.

بعد معاهدة 1936، استطاعت الديمقراطية العمل بشكل علني بحسب رؤية الدكتور عوض. ظهرت أفكارٌ خاصة بإصلاح الأدب المصري والعربي. وعندما جاءت الثورة، “كان الاتجاه السائد في الأدب المصري هو الاتجاه الواقعي الاشتراكي” يقول عوض.

مرة أخرى نجيب محفوظ. قال أن نجيب محفوظ بدأ “صغيرا” وعلى استحياء في ارتياد مدرسة الواقعية. ومما رآه الدكتور لويس عوض كذلك أن محفوظ لم يستطع أن يجد جمهورا عريضا بسبب أنه “يقف بين القديم والجديد”، ومما قاله في المحاضره في هذا الشأن: “كنّا نحاول أن نقنع الناس جميعا بأن لدينا كاتبا جيدا اسمه نجيب محفوظ ولكن لم يكن أحد يُصدّقنا”.

قبل الثورة، خبى اسم نجيب محفوظ في وجهة نظر لويس عوض خلف “الأدب البرّاق” الذي تزعّمه روائيون برجوازيون برّاقون أمثال إحسان عبدالقدوس وأمين يوسف غراب ويوسف السباعي ومحمد عبد الحليم عبد الله، وخلف الأدباء اليساريون الشباب أمثال نعمان عاشور ويوسف إدريس وسعد الدين وهبة، قال: “كان لديهم جمهورا كبيرا من القراء ولكن قراء نجيب محفوظ كانوا قلة. كان كالعادة غير ملتزم بأي شيء ويعيش في عزلة. موظفا كتابيا صغيرا في دائرة حكومية بوزارة الأوقاف. لا يؤمن بشيء ولا يواجه إنسانا، ولا يدّعي مباديء ولا يلتزم بأي فكرة”.

بعد الثورة، بلغ محفوظ قمة الازدهار، ومما قاله لويس في محاضرته: “نجيب محفوظ قضية صعبة، قوبل بالترحاب من الجميع.. الماركسيون ورجال الثورة، بطريقة ما شوّه وجه ثورة 1919 في ثلاثيته، في “بين القصرين” حيث صورة الثورة في شخص السيد أحمد عبد الجواد.. أخذوا منذ سنة 1954 ينفخون في نجيب محفوظ.. لقد بلغ المنزلة التي أصبح فيها الكاتب الرسمي”.. إلخ.

في هذا الجزء من المحاضرة أدان لويس عوض تيار الروايات الميتافيزيقية الرومانطيقية في كتابة نجيب محفوظ، ورآه تحوّلا غير مبرّر، بينما رآه دكتور نجم مُعاصرَة جديرة بالمدح، خاصة أن دكتور لويس كتب ممتدحا رواية “بين القصرين” التي عارضها لاحقا في مُحاضرته، في مقالة بالأهرام سنة 1962، ووضعها في مصاف روايات الصدق الفني.

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 2

محفوظ بين هيكل ولويس في الأهرام

بعد هزيمة 1967، نجيب محفوظ “لم يكتب شيئا ذا بال” وفق رؤية لويس عوض. وهنا ينقل شهادة خاصة عن فترة عمله مع هيكل في الأهرام. يقول: “لقد حاول محفوظ نشر عدد من القصص القصيرة في الأهرام، ولسوء الحظ لم نتمكن من نشرها”.

يشرح بأن هيكل قلَق من نشر هذه القصص، بينما كانت رغبة لويس هي في نشرها. ويعود يُكمل: “هيكل ككل رئيس تحرير لم يرد أن يظهر بمظهر من يُصادر الأدب وقال إنها فن رديء، وطبعا كانت فنا رديئا”.

يأتي ردّ الدكتور محمد يوسف نجم هنا، بأن هذه “حملة حاقدة على محفوظ”، لأن صاحب الثلاثية نشر خمس قصص في الأهرام سنة 1968، وأربع في عام 1970، وحتى عام 1972، نُشرت قصتان أو ثلاثة.

يستنكر دكتور نجم على لويس عوض تجنّيه على مكانة محفوظ الأدبية. وكتب أن محفوظ في فترة صعود السباعي وإدريس كان استوى على عرش الشُهرة مصريا وعربيا. ولم يكن في حاجة إلى تزكية الدكتور لويس عوض، الذي لم يكن معروفا باهتمامه بالأدب العربي في ذلك الوقت. وأنه لم يكتب باعترافه شيئا عن محفوظ قبل صدور “اللص والكتاب”، وهو يورد ذلك في كتابه “دراسات في النقد والأدب”.

بالعودة إلى أوضاع الثقافة في مصر عقب ثورة يوليو، يرى دكتور لويس عوض أنه حدث في مصر شيء شبيه بما حدث في روسيا سنة 1917. عندما أصرّ لينين وتروتسكي في بداية الثورة الروسية على تنحية ممثلي كل ما هو جديد خوفا على كل ما هو من التراث.

وبالمثل حدث سنة 1955 أن حشد كمال الدين حسين جميع المستميتين المتزمتين وحشرهم في “المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب” بحسب محاضرة دكتور لويس عوض في هارفارد. كان على رأس هؤلاء من وجهة نظر لويس هو نجيب محفوظ.

حافظ محفوظ على التقليدية في كتابة الحوار الروائي باللغة العربية الفصحى، لغة سماها لويس لا تُصدّق بين خادمة وغسّالة. ويذهب لويس في محاضرته إلى ما هو أبعد، أن قرار تدجين “سدنة الثقافة في البلاد” كان من الأسباب الأولى لموت الرواية المصرية وأن “الشخص الوحيد الذي بقى في الميدان منذ ذلك الوقت هو محفوظ الذي ورثته الثورة من العهد البائد”.

استمرّ الدكتور لويس في محاضرته راصدا أدب نجيب محفوظ مبديا آراء صادمة للمحافظين والملتفّين حول سمعة الأديب الكبير. وحظيت “المرايا” بنصيب الأسد من هجوم لويس عوض.

رآها رواية سطحية ومحاولة رديئة جدا في رسم الشخصيات. “إنها ليست رواية وليست قصة قصيرة، إنها لا شيء” قال في المحاضرة ذاتها. واعتبرها محاولة من محفوظ ليقول رأيه في عدد من الشخصيات التي شغلت عالم الأدب والثقافة والسياسة في السنوات العشرين الأخيرة. وختم كلامه عن محفوظ “من المفيد له أن يتمكّن من لجم نفسه ريثما يتغلّب على قلقه، لأن القلق انتقل بسرعة إلى أدبه، وبدأ يتحوّل إلى أدب ذاتي”.

…………….

*نقلاً عن مجلة “روزاليوسف”

 

مقالات من نفس القسم