حواديت القرية.. اللصوص والمطاريد في رواية مصرية

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 37
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

جمال القصاص

يلعب وحيد الطويلة في روايته الأولى «ألعاب الهوى» الصادرة حديثاً عن مركز مريت بالقاهرة، على أزمنة الحكي الشفاهية والتي تتمثل في حواديت وطرائف ونوادر القرية المصرية. ويشكل من دلالاتها الفارغة والاعتباطية والساذجة مناورة سردية شيقة، يردفها بخيال جامح، مسكون بمجاز الحكاية، وروح ساردة نزقة، تشيع جواً من المرح والسخرية في تخوم النص، ولغة هجين تمتح من الفصحى والعامية معاً، وتمزج بينهما في تساوق سلس ومحكم، يكثف من حيوية الحوار ويضفي عليه مسحة من الشفافية البصرية والسمعية.

منذ بداية الرواية يطالعنا واقع هزلي لقرية نائية، جهمة، ضاربة في الحلكة والفقر، وشخوص معظمهم من اللصوص والمطاريد والساقطين من غربال الزمن والحياة، لا يحركهم سوى نوازع الجشع والطمع، مفتقدين أدنى إحساس بالنبالة أو الكرم. وفي المقابل يبدو بطل الرواية «الشيخ حامد» ذا نزعة إبيقورية من نوع خاص، فخياله لا يذهب ـ غالباً ـ أبعد من حدود بطنه، وكأن الطعام متعته، بل مرثيته الوحيدة في الحياة.

حامد، خطيب مسجد القرية، المتعلم في الأزهر لا يكره سوى شيئين: الجوع والموت، لذلك يسخر منهما في أعماق نفسه، ويطاردهما حتى في الحلم، وهو يرى أن العالم خلق في لحظة جوع، وأيضاً سيؤول إلى الفناء في لحظة جوع، ثم إن البشر ـ في رأيه ـ لا يعرفون الشبع، بل هم دائماً مفطورون على الجوع. ويضرب الأمثلة على ذلك بشكل طريف ـ أحياناً ـ في خطبه بالمسجد. وعلى نحو خاص في نكاته ومزاحه مع صديقه الشيخ اسماعيل، الكفيف مساعده في المسجد. وعلى العكس من ذلك يبدو «النادي» أخوه الأصغر عادلاً قوياً، صاحب سطوة ومهيبة خاصة، يعمل للصالح العام.. يموت النادي فجأة، في لحظة مصيرية من حياة القرية، وبعد أن اكتمل على يديه مشروع المصنع الجديد، الذي سيقي أهلها الغلابة ويلات العوز والجوع.

وبموت النادي ينكسر الحلم، وينفرط عقد الزعامة الوهمية في القرية، في مكائد وفتن وحروب صغيرة، تُسرق خلالها حجة القرية من حوزة الشيخ حامد، ويغتصب «وفازيت حار» ابن أخيه، «الفنجرية» بائعة الفاكهة الشريدة التي أوتها القرية. وتلمح الرواية إلى علاقة ما غامضة بينها وبين النادي، حيث كان يحوطها بهيبته، ويحميها من غوائل الزمن والبشر. وكما يشير النص.. «جميلة من الغجر، قال النادي وصمت، بدا كما لو كان الوحيد الذي يعرف خبيئتها، ولم يبح لأحد، استطالت جذورها في البرية، وتفتحت مواهبها يوماً بعد آخر، انتقلت من العسل الأسود والليمون إلى الأفراح والمآتم، وهات ياعديد».

في هذا الجو تتسع سطوة اللصوص والمطاريد، بخاصة في لعبة الانتخابات التي يزج فيها الشيخ حامد عنوة، وبعد أن يحال إلى التقاعد تاركاً مهمته في المسجد لواعظ آخر.. وتسود حالة من الاضطراب والتشرذم القرية فلا أحد يستطيع أن يملأ فراغ النادي أو يعوض وجوده الذي أضحى بمثابة ايدلوجيا شعبية، وهو ما يرشح شخصية النادي لأن تتماثل رمزياً مع شخصية جمال عبد الناصر.

ويثير هذا الالتباس الرمزي العابر في طوايا الرواية سؤالاً مهماً حول علاقة النموذج بالجماعة، وكيف يتحول كلاهما إلى قناع للآخر، يضمن، أو على الأقل يؤمن حدود وجوده، فإذا انكسر القناع ترتبك الجماعة، حتى تبحث عن قناع آخر. بيد أن هذا الاستيهام السياسي لا يتوقف فحسب عند شخصية «النادي» فثمة استيهامات سياسية أخرى، يمكننا أن نجد تجسدات لها في الوقائع السالفة الذكر.. وغيرها. وهي استيهامات استطاع النص أن يضمرها ويموهها في حركته صعوداً وهبوطاً، وإن ظل بعضها ناتئاً ومقحماً لاصطياد مفارقة خارجية غير مشبعة بروح النص نفسه، أو نابعة منه. وربما يجسد ذلك هذه الممازحة بين «وفا» وعمه حامد بطل الرواية.. «عليّ النعمة من نعمة ربي يابا حامد، انت أحسن من جمال عبد الناصر.. إنت بتتريق عليّ يابن خويا؟! عبد الناصر هو اللي بدع الاشتراكية، وانت اللي طبقتها، والله لو عرف يمسك البلد زي ما انت ما مسكت العيلة لحل مشاكله، لكنه ساب كلابها على ديابها».

وعلى ذلك، ففي مناورة السرد يفضح الطويلة الحكاية، يعري منطقها وتواطؤها ويرميها على قارعة الطريق كمحض واقعة، شائعة ومبتذلة، وكأنه هنا يذكرنا بحس السامر الشعبي، الذي يمزج الراوي فيه ايقاع السرد، بلطشاته المطولة والخاطفة والمتقاطعة بمتعة الفرجة، ليفض في النهاية مكنون الحدوتة، أو الأمثولة، أو المروية، ويتحول الجمهور ـ من ثم ـ إلى شهود عيان، ليس فقط تحت تأثير لحظة الاستماع، بل بما يضفيه على الحدوتة نفسها من طلاءات تشارف روح الحكمة أحياناً، والفانتازيا والقداسة أحياناً أخرى.

وبرغم إن الراوي أو «الكاتب» نفسه متورط ضمنياً في النص، إلا إنه يحتفظ دائماً بمساحة ما محايدة، تتيح له حرية الترقب، والوصل والقطع لخطوط الزمان والمكان، سواء في النسيج الداخلي للنص، أو في محيطه الخارجي والذي يراوح ما بين حقبتي الستينيات والسبعينيات في مصر. وهو راوٍ حذر، شديد الحيلة والتيقظ، يشبه ـ بلغة الطويلة نفسه ـ الذئب الذي يغمض جفنيه مدعياً النعاس، ليهب الفريسة نوعاً من الأمان الزائف.

يتحرك هذا الراوي في النص على مستويين أحدهما علوي، والآخر سفلي، فهو لا يختلط بحوارات الشخوص، ولا يتدخل في حيواتهم ومصائرهم، بل يعلو على ذلك في لحظات. وفي لحظات أخرى يبدو وكأنه يحرك كل الخيوط، لكن بشكل شفيف غير مرئي. وقد أتاح هذا للنص القدرة على أن يتحول بتلقائية من الداخل إلى الخارج والعكس في الوقت نفسه، كما ساهم في خلق نوع من الذبذبة الدرامية في حركة ضمائر السرد وهي تنتقل بين الأنا، والنحن، والهم، وصيغ النفي والاثبات، والاستهلال والوصف، وسط سطوة الفعل المضارع ظاهرياً، والذي يشي بكثافة زمانية ما، لها امتداد تاريخي قائم ومتحقق بالفعل، يتجاوز الحدود أو الحرية المتوهمة للنص.

يخرج الشيخ حامد من عباءة الميثولوجيا الدينية بشكلها التقليدي، لكنه يحولها في الحلم إلى طقس شعبي، مخفوق بروح مُفَارَقةٍ حريفةٍ، وتوترات منولوج داخلي متقطع، تختلط فيه الرؤى الحلمية والمشاعر الكابوسية، ومحفوف في الوقت نفسه بنبرة سخرية من الموت والذات والآخر، تظللها نوازع وهواجس مرحة، تغيم فيها الحدود بين الجد والهزل، بين الواقعي والمتخيل.. فالشيخ حامد التقي الورع الذي لم يشتهِ في حياته سوى لذة الطعام، ها هو يوشك أن يخسر آخرته بسبب حسنة وحيدة، لا يعرف كيف يعوضها، أو حتى يستدينها من أحد أقاربه أو معارفه، ولا ينسيه جو الحلم المفعم بالمفارقات تاريخه الشخصي ولذته الأسيرة، لذلك يخاطب نفسه.. «حسنة بمليم يا حامد، حسنة واحدة وتصل للبريمو، وتأكل الديك الرومي وحدك، والنساء مثل لهطة القشطة حولك، فلتبحث عن أبيك رغم أنك كنت تخاف منه خوف العمى».. وحين يصحو من حلمه يصرخ في وجه زوجته.. «هما ولاد الكلب دول يا نميرة كانت عندهم حسنات من أصله».

ومن ثم تفكك طاقة الحلم الترسيمات والأدغال التقليدية للشخوص، وتمنحهم خيالاً مؤثراً، ولحظات خاصة من النشوة والسمو النفسي على واقعهم المادي، فصدمة الخبرة الدينية لدى الشيخ حامد تحولها طاقة الحلم إلى فعل تطهير، يصطدم في مرآته بحيواته الهاربة ونواقصه الدفينة. وبآليات هذه الطاقة نفسها يتحول مشهد موت زوجته «نميرة» الانسانة البسيطة العادية، ولحظة دفنها في آخر الرواية إلى محفة روحية، تحلِّق في أجوائها وكأنها احدى القديسات. وفي تلك اللحظة نفسها تحرك طاقة الحلم آلية التذكر، فيخايل الشيخ حامد في ظلال موت «نميرة» طيف أمه «عروسه» وكأن الموت طاقة أخرى للتفتح على الحياة.. تجسد الرواية هذا المشهد في نجوى حلمية على هذا النحو.. «قالت نميرة إنها رأت كوكباً في قلب السماء ليلة وفاة عروسه راح يدور ويدور حول البرية، يغيب ثم يظهر ثانية، واختفى قبل طلوع الفجر».

إن الجوع يبرز في الرواية كـ«تيمة» أساسية وفارقة، بل محرضة أحياناً على التمرد ضد المفهوم الفارغ والهزلي للحكاية أو الحدوتة، بل ضد مفهوم الشبع نفسه، والحلم المتواتر فيه. فالشبع كما تصوره الرواية ـ حالة مؤقتة طارئة سيعقبها جوع أشد، بخاصة في واقع يعيش معظم ناسه على حافة الرغيف ـ لكن هل يمكن أن يندرج هذا النص ضمن ما يمكن أن أسميه «كتابة الجوع» وفي ظل فانتازيا الجوع والشبع بايقاعاتها اللدنة، الساخرة والمباغتة التي تلون سياقات السرد، ومسارات الحوار، وتشكل ـ إلى حد كبير ـ قسمات وملامح الشخوص، وصراعاتهم مع بعضهم بعضاً، أو مع واقعهم الذي أدمنوا عطبه وحلكته.. أتصور أن الرواية تقع في معظم فصولها على قدر من تخوم هذه الكتابة.. فعلى الرغم من أنها ركزت على الشبع كمظهر فيزيقي نقيض للجوع، إلا أنها استطاعت أن تحقق من خلال أمثولات التشابه في بنية المشاهد والرؤى والحالات صيرورة روائية مسكونة بشهوة أعلى مما هو أرضي أو حسي في البشر والناس والأشياء.

 

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم