حسني حسن
أخيراً، وبعد مفاوضات شاقة طويلة، تم توقيع الاتفاق. كان كلا الطرفين راضيين عن النتيجة التي آلت إليها مباحثاتهما الماراثونية على مدى حوالي الشهرين؛ أما البائع فقد حصل على “سعر مناسب” لبضاعته الثمينة، أربعة آلاف كاملة، وأما هو فقد اعتبر المبلغ، على ضخامته النسبية، تافهاً مقارنةً بما استرده من زمنٍ، كان يظنه، قد ولَى إلى الأبد، وبغير رجعة. سلَم البائع العجوز جنيهاته عدَاً ونقداً، واستلم منه الأعداد القديمة من مجلة “سمير”. وضع الكيس البلاستيكي، الذي يحوي مائتي عدد من مطبوعة الطفولة المفضَلة للسنوات الممتدة ما بين النكسة والعبور، على المقعد الخلفي للسيارة الصغيرة الحديثة، وانطلق مخترقاً زحام وسط المدينة، نازلاً من شارع النبي دانيال إلى طريق الكورنيش. أصغى، حالماً، إلى صوت “فيروز” من مُشغِل الأسطوانات. كانت تغني له: يا سنيني اللي رحتي ارجعيلي، ارجعيلي شي مرة ارجعيلي!.
قالت له:
– في الرباط يستحيل علي فعل ذلك. لا أعرف لماذا؟ صدَقني.
– إذاً؟
– لنذهب إلى باريس، أو غرناطة، أو حتى طنجة!
أحس بجسده المتهدم يلتهب بالرغبة المكبوحة. فكَر أنها تراوغه لتربح منه شيئاً ما؛ ربما رحلة أوروبية قصيرة! أزاح الخاطرة السيئة عن ذهنه، بسرعة، وبأقصى ما يختزن بداخله من عاطفة تقدر، وحدها، على مجابهة شكوكه المستدامة في بني البشر.
أمام البوابة الضخمة لكاتدرائية “القلب المقدس” بقلب باريس، وقفا يقرآن اللائحة الإرشادية المدوَن عليها، بعدة لغات، عبارة تؤكد أن الصمت صلاة دائمة. راح قلبه يدق في صدره بقوة، وألفى نفسه دائخاً، قليلاً، وهو يعلو ببصره مع الجدران، الشاهقة السميكة، للكنيسة المبنية على الطراز “الباروكي” الفخم. راحت كفه تبحث عن كفها الصغيرة، وتعصرها بشدة، وكأنه يستنجد بها. همست كالمذعورة:
– مالك؟
تمالك نفسه بسرعة. ابتسم بهدوء، ثم أجاب:
– لا شئ.
تابعا التجوال بالكنيسة المغمورة، في ذاك الصباح الخريفي الكئيب، بالظلال والدُكْنة. لاحت له الزخارف الداخلية، للجدران والأسقف، فاحشة الجمال، مفرطة في فرحها بذاتها، ضاجة بحياة موارة ذات نزوع حسي عارم، ومتعارضة مع الجلال والرصانة اللذين يهيمنان على المشهد العام للمكان. لاحظ بدهشة:
– هيكل المبنى على الطراز ” الباروكي”، أما زخارفه الداخلية فوفق أسلوب “الروكوكو”، كيف يجتمع هذا بذاك؟
– كما نجتمع أنا وأنت، يا حبيبي.
تساءل عما إذا كانت هي، حقاً، من أجاب على ملاحظته السالفة. نعم، نعم، يعرف أن العمر يولي، وأنه قد تبع، صاغراً، هذه الحسناء الرباطية، التي تصغره بنحو عشرين سنة، إلى عاصمة النور التي تعشقها، وأن مزاجه “الباروكي”، الصارم الفخيم، ربما لوَثته زخارفها “الروكوكية”، الطلقة البهيجة، وأنه لا نهاية لتلك اللوثة سوى تفتت القلب، وغالباً الفضيحة وانهيار صرح الأسرة في الوطن. طرد ذلك كله من باله، قال:
– هل تعرفين من أين جاءت تسمية “الروكوكو”؟
– امتحان آخر، هه؟!
– من شكل وخطوط وألوان محارة بحرية تحمل ذات الاسم.
أحاطت خصره بذراعها، وأراحت رأسها على صدره. همست بالأخير:
– بداخل المحارة لؤلؤة صغيرة، احرص عليها يا قلبي، وإلا ضاعت من بين يديك، إلى الأبد!.
في الصباح السابق، مباشرة، لأعياد الكريسماس، بحسب تقويم الكنيسة الرومانية، رن هاتفه في جيبه بإلحاح. رأى رقمه المعهود، فردَ عليه بلهفة، متخوفاً من أن يكون مكروه قد أصابه. لم يكن معتاداً على تلقي اتصالات منه في مثل تلك الساعات المبكرة من اليوم. أسرَ باقتضاب، وبأنفاس لاهثة:
– أريد مقابلتك فوراً، أنا مسافر مساءً.
– الكويت؟
– سأخبرك عند اللقاء.
استشعر الغموض الذي يلف صوت صديقه القديم، فتوجس قلبه. اتفقا على اللقاء بعد نصف ساعة على المقهى بمحطة الرمل. ظل منتظراَ لأكثر من ساعة لم يكن الصديق يرد خلالها على رناته المتكررة كل عشر دقائق تقريباً. ملَ الانتظار، ولعن الصداقة كلها في سره. لثلاثة أيام تالية، كان الهاتف الذي يطلبه مغلقاً. تيقن من سفر صديقه من دون أن يتمكن من توديعه. بلع غُصته، وتمنى له التوفيق في غربته. في اليوم الرابع وجد رسالة منه في صندوق بريده الألكتروني يعتذر فيها عن عدم تمكنه من مقابلته قبل سفره كما تواعدا. أعلمه الصديق أنه يكتب له من بلاد بعيدة جداً، وليس من الكويت كما بقي يوهمه طيلة العام السابق، وأن تأشيرات السفر، والتذاكر وكل المستندات الضرورية لهجرته هو وأسرته، قد تسلمها بالتحديد صباح يوم السفر، في نفس التوقيت الذي كان من المفتَرض أن يتقابلا فيه، وأنه مهاجر، ومن دون عودة، كلاجئ سياسي، بواسطة “منظمة دولية” ما ترعى الشعراء والمبدعين في كل العالم بمواجهة الاضطهاد الذي يتعرضون له في بلدانهم الأصلية، وأنه بالأخير يسأله مسامحته، على مداراته وتخفيه خلال الشهور الأخيرة، باعتبار أن ما فعله كان بدافع الحرص عليه، و الرغبة في عدم توريطه بمعرفة أي شئ مما ينتويه هو، ولا ترضى عنه السلطات.
ابتسم لها بوهن، ثم همس:
– يا قلبي! لم توضع اللآلئ الصغيرة بداخل المحارات إلا لكي نلقاها، ونضيَعها، ثم نقضي بقية العمر نفتش عنها، ونتحسر عليها، إنها حروبنا الكبيرة يا فاتنتي، حروب الاسترداد.
– لا أفهمك.
ردت بخشونة وجفاء يليقان بشبابها، الذي لا يفقه آلية عمل الزمن، ويتوهم أن كل شئ ممكن مادمنا نرغبه، وكأن كل رشئ مرهون برغباتنا لا غير!
– سأحكي لكِ حكاية أخرى، سيئة وحزينة، نوعاً ما. أعرف أنك سترفضينها، كما كنتُ سأرفضها أنا نفسي قبل عشرين عاماً من اليوم.
– لا أريد سماع حكايات سيئة وحزينة أخرى.
– ومع ذلك، لا مفر من أن أحكيها، وهل تبقى لي غير أن أحكي؟!
كانا قد صعدا التلة التي توقف عندها محمد أبو عبد الله الصغير، آخر سلالة بني نصر الخزارجة الأندلسي الأخير، ليلقي نظرة الوداع على غرناطة والبيازين، ويزفر زفرته الوداعية الحزينة، مُشيَعاً بتقريع أمه، وبلعنة ستصحب، من بعده، كل الأمة ؛ لعنة شغف الاسترداد المميتة.
– كانوا هنا ملوكاً، ثم ما عادوا شيئاً يُذكر! مطرودين ولاجئين، مجللَين بالخزي، ومُلاحقين باللعنة. أماَ أنا فحين سُرِق هاتفي من جيبي، على سُلم ترام الإسكندرية، بيد أحد الصبية في مساء يوم العيد، فقد كان علي أن أفاوض السارق على استرداده، وقد فعلتُ صاغراً. لكن المدهش، حقاً، كان صديقي الشاعر والناشط الثوري في 2011، ذلك الذي واصل اليوم كله يحدثني، مندداً، بتخاذل النُخبة، وعدم جاهزيتها للنهوض بمسؤولياتها الوطنية والثقافية والإنسانية، قبل أن يعتذر عن قبول طلبي له بمرافقتي للقاء السارق لاسترداد الهاتف. هل تفهمين، الآن، شيئاً؟!
– أفهم؛ أنتم الجيل الذي أضاع كل شئ من بين يديه، ولن يسترد أي شئ.
أجابت بزهق، وبصبر نافد.
– لا، ليس الأمر على هذا النحو بالمرَة، ماذا تفهمين أنتِ عن طبيعة حروبنا للاسترداد؟ تظنين أنها أرضٌ تُحَرر، أو ممتلكات تُستعَاد، هذا هو التصور المكاني الفج ، إن للتواجد أو للضياع! لكن حربنا مع الزمن ولأجله، إنه الزمن يا صغيرتي، فمن يقدر على كسب مثل تلك الحرب، واسترداد ماكان، ما يكون، من براثنه؟.
عندما وصلت السيارة، الحديثة الصغيرة، إلى ورشة تجليد الكتب، المختبئة خلف مبنى المحكمة العريق بميدان المنشية، ألفى صاحب الورشة العجوز مستَغرقاً في ترميم كتاب قديم أتى به صاحبه لاستنقاذه قبل أن يموت هو فيضيع الكتاب نهائياً. ابتسم له الحرفي الطيب بمودة، وقلَب في الكنز الذي أتى له به، قبل أن يقرر بهدوء:
– حالتهم جيدة جداً، من الأفضل حفظهم فرادى في أكياس بلاستيكية مخصوصة، بدلاً من تجميعهم بمجلدات. جميل أننا قد استرددناهم.
رد على ابتسامة العجوز بابتسامة ممتنة راضية. عانقه وهو يغالب دمعة. زفر:
– أجل. جميل أننا قد استرددناهم.