ذبابة الشاي

فكري عمر
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فكرى عمر

سألكَ شيخٌ نحيلٌ محنى الظهر على إحدى محطات القطار: “هل تصدقني لو قلت لك إن معركة سوف تحدث، يروح فيها قتلى وجرحى بسبب ذبابة وقعت في كوب من الشاي؟”. أملتَ رقبتك نحو الجهة اليسرى، ترفع بصرك إلى أعلى قليلًا مصطنعًا الاستغراق في التفكير، لكنك في الحقيقة تُخطط للخروج الهادئ من مأزق كهذا، حتى وصلت إلى الحل، كان كلمة واحدة أطلقتها واسترحت: “يجوز”.

مضيت إلى البيت مبتسمًا رغم العناء. منظر هذا الهَرِم ذو الجلباب الرمادي البالي لابد في رأسك. تُحسُّ أنه عاش، وعانى أكثر مما ينبغي؛ ليهذي بعبارات تشبه الحكمة، وماهي إلا الهزل ذاته، وإنك أنصت إليه فقط احترامًا لسنه وضعفه. ستفكر في الصدفة التي جمعتك به. كنت تمد رأسك قلقًا في الناحية التي سيأتي منها القطار، تحاول أن ترصده من أبعد نقطة سيبزغ فيها داخلًا المحطة؛ لأنك تتعجل العودة إلى الدار. ظهر الرجل في اتجاه بصرك. منحك ابتسامة مطمئنة كأنه قرأ أفكارك. تراجعت إلى الوراء خجلًا. قدمت إليه نفسك، فسلم عليك بحرارة كمن يعرفك منذ زمن بعيد. صحيحٌ أنك أفلت من رفقته؛ كي لا تتحمل مسؤوليته في الصعود والهبوط، أو في الاستماع إلى مزيد من الذكريات، والهذيان، فيتأخر وصولك، لكنك لن تعرف أبدًا أنه تبخر في الهواء..

نعم، حدث ذلك! بمجرد أن تركته عاد إلى الوراء. توارى بعيدًا عن الأنظار؛ كي لا يُرى، ثم دار حول نفسه كراقص التنورة في سرعة لا تناسب سِنه. ربما لو شاهدته لقلت ذلك، فعيناك لا تريان سوى جسد الشيخ الفاني. أما البصيرة المغلقة عن الأسرار فلن تشاهد تلك الطاقة الهائلة التي ترعد في باطنه كالكهرباء. تصاعدت دوامة صغيرة من التراب، والأكياس البلاستيكية الفارغة، ونتف من الأوراق. أُغلقت العيون تفاديًا “للعُفار”، وأُرعدت مصابيح الكهرباء، وضج في الآذان صوت القطار، حتى صار جزءًا من الهواء. لما انتهت لحظة الاختفاء بسلام عاد كل شيء إلى ما كان عليه، وقد ظننت أنها توابع مَقْدِم القطار. لن تعرف أبدًا أنك قابلت منذ دقائق كائنًا يظهر بهيئتين بشريتين دون سواهما: شيخ فانٍ ببذلة رمادية قديمة، أو امرأة عجوز تستند إلى عصاها، وعلى وجهها آثار جمال وعز قديم.

ظللت تضحك كلما تذكرت حواركما، حتى وصلت. حاولت تناسيه؛ لأن أحداثًا كثيرة احتلت مكانه. في الصباح ذهبت إلى عملك. تحدثت مع زملائك كثيرًا عن خطر الحرب في المنطقة على اقتصاد وسياسة العالم.. عن قوانين جديدة ستؤثر في الترقيات.. عن شبح الغلاء القادم في شهر يوليو من كل عام، وتحضيرك لبناء دور إضافي في بيتك، وزيارة وكيل الوزارة المنتظرة، وما يمكن أن يحدث فيها من مفاجآت.

في طريق العودة من عملك قال جار لك: “إن ميرنا التقت عيناها بعيني سامي حبيبها القديم، فقال لها “صباح الخير”، وردت بابتسامة ودودة “صباح الخير”. كان ابن عم زوجها قد شهد الموقف كله”. تلاقت أكفكما وأنتما تسخران من البلدة التي تدمن الذكريات، وتجعل من النملة فيلًا لا لشيء إلا لملء أوقات الفراغ.

تلك الليلة، والليالي في بلدتك معبأة بالنواح القديم، استيقظت فزعًا على صرخة استغاثة حقيقية آتية من الشارع. خرجت مسرعًا مثل غيرك، لتجد “سامي ملقًى على الأرض يتلوى والدم يشخب من قميصه إثر ضربة بالسلاح الأبيض في ما بدا من كلماته القليلة. أخذتموه إلى مستشفى المدينة، لكنكم ذهبتم ليلًا بجريح وعدتم بقتيل راح خطأ سيارة مسرعة إثر عبوره الشارع. كان “ماهر” يشترى دواءً خارجيًا طلبه الطبيب لـ”سامي”. خرجت البلدة كلها تُشيِّع “ماهرًا” إلى مثواه وهى تضج بالحزن، وتطلق اللعنات على صاحب ضربة السكين التي كانت سببًا لكل هذا..

وجاء من قريته البعيدة مالك السيارة الربع نقل، يرافقه مجموعة من الرجال للتصالح. دفع تعويضًا عن الخطأ بدلًا من طريق المحاكم التي ربما تُخطِّئ ماهرًا بسبب عبوره قبل الإشارة. واحد من رجال هذا الوفد تزوج فيما بعد بـ”سعاد” زوجة القتيل، فانتقلت من البلدة. أخذت البهجة في ذيلها. كانت مرحة ودودًا. “لكن الحظ في البلدة يكره السعادة، ويحارب النقاء”.

عاشت “ميرنا” محاصرة بشكوك زوجها. عادت إلى بيت أبيها، ثم أنهت حياتها ذات ليلة بحبة سوداء؛ لأنها لم تستطع تحمل المزيد من لوم الناس، واتهاماتهم، أو وساطة بعضهم للعودة إلى زوجها، فبالنسبة إليها لم تعد قادرة على العيش معه، ولا تَحمُّل جحيم الذكريات. جاءت الشرطة بعد بلاغ الزوج؛ لتحقق في الأمر. كان قد اتهم عددًا من رجال الحارة بالمساهمة في هذا الحادث. أثناء التفتيش المباغت عُثر عند “ممدوح” على قطعة كبيرة من الحشيش، وعند “سيد” على خرطوشة محلية الصنع مخبأة تحت الفراش وبها عدة طلقات فقُبض عليهما، وفى التحقيقات جرَّا إلى السجن عديدًا ممن لم يشك بهم أحد، وأُمسك بـ”سهير” المطلقة في فراش “راجي”.

احترق البيت  حين ألقى عليه مجهول زجاجة معبأة بالبنزين. طالت بيتك النار، فزعت أسرتك الصغيرة، واندفعوا إلى الشارع صارخين، والناس تحمل الأشياء القابلة للاشتعال، وتهرب بها إلى الخارج.

الأحداث المتلاحقة لم تعطك الفرصة لطلب المزيد من المال من مشترى البيت. ألقيت عليه النظرة الأخيرة، ذكرياتك به تدق رأسك بالصور المتداخلة، وقلبك بالضربات السريعة، وحواسك باللهيب الذى يتمدد في الشرايين.

مرغمًا تركته لتاجر كبير. الحارة التي ولدت، وكبرت بها لم تعد مكانًا آمنًا للعيش، وفيما أنت ترحل بأثاث البيت المحمول على العربات ألقيت نظرة للوراء. رأيت امرأة عجوزًا تستريح على السلم الخارجي للبيت. لم تكن هنا منذ لحظات. ضربك خاطرٌ مفاجئ.. إنك تعرفها، قابلتها في مكان ما.. هذه النظرة الساخرة، هذا الهدوء الساحر، كأن العالم ملك يديها رغم ما بالجسد من إشارات الفناء.. لكن أين رأيتها؟! في التفاتتك إليها مرة أخرى كانت تشير لك مبتسمة بتحية الوداع.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون