أحمد عبد الرحيم
قدَّس المصريون القدماء طائر “أبو منجل”، وجعلوه إلهًا للحكمة، وتصدَّرت تماثيله ورسومه سائر معابدهم ومقابرهم، وفى أول القرن السابق اتخذته جامعة القاهرة شعارًا لها. العجيب أن “أبو منجل” اختفى من مصر منذ 30 عامًا تقريبًا، ثم تمكن أطباء بيطريون مصريون من إعادته للتكاثر منذ سنوات بسيطة. يتبادر هذا الطائر لذهنى عندما أتذكر سيرة طائر فرعونى آخر اسمه “هانى المصرى”، وذلك لأسباب عديدة.
“هانى المصرى” فنان تشكيلى مصرى، ولد سنة 1951. أجبرته أسرته أن يلتحق بكلية الهندسة، وبعد فترة فيها، تعلَّق قلبه بكلية الفنون الجميلة، فحارب البيروقراطية لشهور كى ينقل أوراقه إليها، مقتحمًا مكتب وزير التعليم 4 مرات لنيل الموافقة على ذلك، ليضطر الوزير أخيرًا أن يقبل طلبه غير المألوف.
لن تكون هذه هى المرة الوحيدة التى يخرج فيها “المصرى” عن المألوف، فبعد تخرجه فى قسم الديكور، انطلق للعمل فى المسرح، وصمَّم أعمالًا كان من ضمنها ديكورات مسرحية الراحل فؤاد المهندس “إنها حقًّا عائلة محترمة”؛ التى اقترح إقامتها على خشبة مسرح تدور أمام المشاهدين. ثم رسم قصصًا مصوَّرة للأطفال، بأسلوبه الفريد، المعجون بالمصرية، الذى يمزج الفن الفرعونى بالإسلامى، لينال جائزة أفضل كتاب مصوَّر للأطفال. بعدها غزا مجال الدعاية والإعلان، مبتكرًا شخصية الدب الأزرق “كيمو”، شعارًا لأحد منتجات الآيس كريم، الذى أحرز شهرة واسعة، مثيرًا إعجاب الصغار والكبار.
ورغم ما حققه من نجومية فنية فى وقت قصير، فإنه قرّر فى منتصف الثمانينيات مغادرة بلده، ليختفى منها مثل “أبو منجل”، وفى التوقيت نفسه. لكن بينما كان الأخير يعانى الانقراض، عانى “المصرى” من وفاة أساتذته؛ كالشاعر والرسام “صلاح جاهين”، والمخرج السينمائى “شادى عبد السلام”، والأديب “يوسف أدريس”، ناهيك عن هجمة القوى الظلامية على الثقافة المصرية، لتحرق الجماعات المتطرفة النسخة الشعبية من “ألف ليلة وليلة” فى ميدان الحسين بالقاهرة، وهو العمل الأدبى الذى كان يعشقه عشقًا، وحلم بتجسيده فنيًّا طيلة حياته.
طار “المصرى” إلى أمريكا، ولمواهبه الاستثنائية اختِير للعمل بـ”Walt Disney Imagineering” أكبر شركة لأفلام التحريك فى العالم، ثم عمل بعدها فى شركة “Warner Bros. Animatio”، وشركة “DreamWorks Animation” التى أسّسها المخرج الأشهر ستيفن سبيلبرج، قائمًا – دومًا – بدور “الرسام التصوّرى”، الذى يتخيل الديكور والملابس والخلفيات، فى عدد من الأفلام الهوليوودية شاهقة المستوى، عالمية النجاح، ليصبح مثل “عمر الشريف” الثانى، لكن وراء الكاميرات.
عاش وسط الأمريكان معتزًا بمصريته إلى أقصى الحدود، عازمًا أن يكون خير سفير لوطنه؛ فاتجه لدراسة جميع المدراس الفنية لمصر، وللأمم التى احتلتها، على مر العصور، وهو ما حوّله إلى موسوعة تشكيلية متحركة، وجعل الاعتماد عليه فى الأفلام التاريخية حتميًّا؛ ليكون جزءًا من أفلام مثل The Road to El Dorado أو الطريق إلى إلدرادو (2000)، وSpirit أو روح (2002) الذى رُشح لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم كارتونى، كذلك The Prince of Egypt أو أمير مصر (1998) الذى قاوم فيه الرغبة الصهيونية لمنتجى العمل فى تشبيه الفراعنة بالنازيين، مُهدِّدًا بفضح ذلك إعلاميًّا، وهو ما أدى لتراجعهم عن الفكرة.
فضلًا عن ذلك، صمَّم مبانى فى مدينة الكارتون فى كاليفورنيا، وعالم ديزنى فى فلوريدا، والساحل العربى بمدينة ديزنى فى طوكيو؛ وهى إحدى أضخم المدن الترفيهية فى العالم. لكن أعمالًا أخرى له لم تلق الترحاب نفسه؛ فمشروعه لتجسيد “ألف ليلة وليلة”، الذى رسم فيه عددًا وفيرًا من اللوحات، عارضت شركات هوليوود إنتاجه، رافضة تمجيد التراث العربى، لاسيما بعد 11 سبتمبر 2001.
بعد أن أثبت “المصرى” نفسه، واكتسب خبرة قوية، حلَّق عائدًا إلى وطنه، وفى رأسه حلم واحد؛ النهضة بفن التحريك فى مصر. لكن من إحباط مشروعه الطموح لألف ليلة وليلة، إلى إحباط مشروعه الهائل لإقامة استديو تحريك متطور، يحوى مدرسة للفنانين الناشئين، تعوِّض نقائص التعليم الأكاديمى بمصر، وتفرخ أجيالًا قادرة على إنتاج أعمال عالمية؛ إذ إن رجال الأعمال الذين سعى إليهم لم يقتنعوا بفكرة إنشاء مدينة فنية متكاملة تشمل مدرسة، واستديو، وسكنًا للعاملين، ومجتمعًا قابلًا للتوسع. فهو أراد الفن والربح، وهم أرادوا الربح وحده!
لم يمنعه ذلك من تربية جيل جديد من الفنانين؛ سواء عبر عمله مستشارًا لشركة ألعاب، أو تطوعه بإلقاء المحاضرات فى منابر متنوعة، أو تدويناته شبه اليومية على صفحته بموقع الفيسبوك؛ تلك التى نالت شعبية عريضة، وتعدى متابعوها الـ60 ألفًا. حيث تواصل مع زخم من شباب الفنانين، غير باخل عليهم بخبرته وتشجيعه، مُتحوِّلًا إلى حكيم فرعونى مخلص، يسدى نصائحه بلا حساب، مؤكِّدًا أن مصر ستعود لمكانتها؛ وأن ذلك لن يحدث إلا عندما يتكاتف المصريون لبناء أنفسهم وبلدهم، بلا يأس أو توانٍ، مُشبِّهًا الأمر ببناء معبد الكرنك بالأقصر الذى استغرق 600 عام، وشارك فيه 20 جيلًا. صحيح لم تشهد أجيال اكتماله، لكنها ساهمت فيه، مُؤدية دورها على أكمل وجه.
رغم أن كاتب هذا المقال لم يحظ بلقاء ذلك الفنان الكبير إلا مرة واحدة؛ فإنه وعدنى بقراءة مجموعتى القصصية التى أهديته إياها، بل شدَّد فى رسالة على الفيسبوك لاحقًا أننا “سنتكلم عنه، ضرورى” عندما يعود من رحلة علاجه بأمريكا. لكنه للأسف، لم يتمكن من الرجوع، واستئناف رسالته النبيلة، حيث توفى فى 24 أغسطس 2015، بعد صراع مع مرض سرطان الدم.
يغيب الطائر الفرعونى، لكن لا تغيب رحلته، وأعماله، وقيمه التى زرعها فى عقول وقلوب تلاميذه الكثيرين. والحق أن ظهور طائر أبو منجل مجددًا فى مصر يبدو كعلامة على تحقق نبوءة “هانى المصرى”، وكأن طائر الفراعنة يغيب، ويغيب، حتى تظن الغالبية رحيله نهائيًّا، وذلك فقط كى يباغتهم، ويعود طيورًا.
…………………………..
*نُشرت فى مجلة الإمارات الثقافية / العدد 39 / نوفمبر 2015.