حلم اقتناص الحرية والتخلص من التبعية

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 29
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. نعيمة عبد الجواد

هل حلمت يوماً أنك تطير، وجسدك يحلق بحرية في السماء، وعيناك ترتكزان على الأرض؛ لتحرس الضعفاء، وتساند كل من هو في حاجة للمساعدة، وتستمتع بلذة العطاء، وتغرورق عيناك بدموع الرضا، عندما تشهد نظرات السعادة، والإعجاب، والشكر في عيون من ساعدتهم؟! هذا ما يحلم به أي منا. فكلنا يراودنا حلم البطولة، ونرغب في تحقيقه بأي شكل من الأشكال. وإن صعب علينا أن نحققه، ونحن نحلق في عنان السماء، نهبط بأحلامنا إلى أرض الواقع لتحقيق حلمنا. وعندئذ فقط نشعر بأننا قد تخلصنا من جميع ما يكبلنا من قيود، ووقتها نشعر بالحرية.

 وكان ذلك بالفعل ما سعى إليه المجتمع ذو البشرة السوداء في الولايات المتحدة قديماً. فلقد تمسكوا بحلم اقتناص حريتهم بشتى الوسائل، ولم يتوانوا، ولو يوماً واحداً، في أن يعبروا عن أنفسهم ومطالبهم. ولكن، رغبوا عن التنازل عن أي حق من حقوقهم، ولو حتى لوهلة؛ فالتنازل هو السبيل للتبعية الدائمة.

وبالتأكيد، لم يكن من السهل اقتناص الحرية والتخلص من التبعية، لكن هذا الحلم الذي راود ذوي البشرة السوداء لم يعد بعيد المنال بعد أن تقدم في صدارة هذا المجتمع، الذى كان منبوذا في ذاك الوقت، مجموعة من الأبطال، الذين بزغوا من نفس ذاك المجتمع، ينادون بتحقيق الأحلام والحفاظ على حقوق الضعفاء. ومن ثم، ارتقت هذه الشخصيات منزلة البطولة عن كل جدارة. وأخص بالذكر هنا بطلين غيروا بنظرتهم الحصيفة مسار الحرية، ورفض التبعية، ليس فقط على صعيد المجتمع الأمريكي، بل على الصعيد العالمي، وهذا البطلان هما: مارتن لوثر كينج Martin Luther King (1929-1968) ومالكوم إكسMalcolm X (1925-1965).

فلقد ظهر مارتن لوثر كينج (Martin Luther King) ، ومالكوم إكس (Malcolm X) كنموذج للبطولة ورفض التبعية، لدرجة أن رغبت شتى أطياف المجتمع في الاقداء بهما. فلقد سعى كل من هذين الرمزين لتحقيق العدالة ونيل الحقوق، ليس بالقوة ومن خلال العنف، ولكن عن طريق الدعوة للسلام والمحبة والإخاء. ولذلك، احتفى بهما المجتمع الأبيض بكل الأشكال. فالبطولة لا تتحقق إلا من خلال نشر المحبة، والسلام لا يجلب إلا السلام، ولو حتى على الصعيد النفسي للشخص المسالم. ولقد كان الأسلوب المتبع من قبل هذين النموذجين المسالمين، وكذلك فحوى دعوتهما بمثابة نقلة غير متوقعة، جاءت على عكس ما كانت تنادي به حركة القوى السوداء The Black Power Movement التي جعلت من العنف غاية يتحقق بها المطالب.

وعلى نفس المنوال، تمت صياغة سلسلة أفلام “محقق المساواة” (The Equalizer) التي تم بناءها وفقاً لخلفية من مصاعب وأهوال  عانى منها المجتمع ذو البشرة السوداء في أمريكا إلى أن استطاع أن يحقق هوية متفردة جعلته شريكاً بالمجتمع ، بل ومنحته اسم: “المجتمع الأفريقي الأمريكي”.  لكن سلسلة أفلام “محقق المساواة” (The Equalizer) – سواء الجزء الأول، أو الثاني – أبرزت ذاك المفهوم بشكل غير مألوف، مغايراً تماماً للأنماط السائدة بسنيما هوليوود. فظهرت في هذه الأفلام مفهومي البطولة، والدعوة للمحبة والسلام بشكل مخالف لكل التوقعات؛ حيث تم توظيف مشاهد العنف الصادمة لتصيرحمامة السلام التي تحقق الحرية، وتنفض ظلال التبعية، وكذلك الوسيلة التي تظهر المعدن الأصيل لبطل أسطوري أفريقي أمريكي يخوض معارك ضارية من أجل تحقيق العدالة والمساواة، لكنه لا يفرق بين ذوي البشرة السوداء، وذوي البشرة البيضاء؛ لأنه يهرول لنجدة الضعفاء والمستضعفين بغض النظر عن لونهم وخلفياتهم‘ على عكس ما كان يعاني منه الأفريقيين الأمريكيين قديماً من تفرقة.

وبهذا، تم في سلسلة أفلام “محقق المساواة” (The Equalizer) مزج الدعوة للسلام – كما فعل مارتن لوثر كينج ومارتن إكس – مع تعاليم حركة القوى السوداء. وإمعاناً في الخروج عن المألوف، تم اختيار بطل هذا الفيلم (دينزل واشنطن Denzel Washington) بعناية فائقة؛ حيث يشتهر دينزل واشنطن بتمثيل الأفلام الجادة الهادفة فقط، دون أن ينخرط في الأفلام التجارية، أوأفلام العنف من أجل العنف فقط، كما يظهر في سلسلة الأفلام تلك، للوهلة الأولى.

فالجزء الأول من فيلم “محقق المساواة” (The Equalizer) ، الذي تم انتاجه عام 2014، يلقي الضوء على شخصية روبرت ماكال ضابط متقاعد بالمخابرات الأمريكية البحرية، توفت زوجته حديثاً، ولقد وعدها قبل أن تفارقه أنه لسوف يترك العمل بالمخابرات؛ ليعيش حياة هادئة في مدينة بوسطن. وبالفعل، يفى روبرت ماكال بوعده لزوجته الراحلة، ويترك العمل بالمخابرات ليعمل بمتجر أجهزة منزلية، ويكون صداقات مع الكثير ممن يحيطون به. ويبرز الفيلم أن روبرت ماكال كان يشعر بالسعادة عند تقديم يد المساعدة لكل محتاج؛ مثلما فعل مع أحد المتدربين من حراس الأمن، عندما ساعده على اجتياز الاختبار التأهيلي.

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 31
موقع الكتابة الثقافي uncategorized 31

لكن بسبب معاناة روبرت ماكال من أرق مزمن، نجده أنه يصادق الكتاب طوال الوقت، حيث يعكف على القراءة في مطعم يجلس به طوال الوقت.وهناك، يتعرف على (إلينا) العاهرة المراهقة التي تعمل لدى المافيا الروسية. لكنه يسمع فيما بعد أنه قد تم احتجازها بالمستشفى نتيجة تعرضها لضرب مبرح من قبل القواد الذي تعمل لديه. فيذهب روبرت ماكال لهذا القواد محاولاً أن يقنعه بمنح (إلينا) حريتها، لكن، وبالطبع، يرفض القواد. وعند الاعتداء عليه، ما يسع (روبرت ماكال) إلا أن يقتل القواد وأربعة من رجاله بيديه العاريتين، مستخدماً فنون القتال عن طريق التلاحم، وبضع الأغراض المتناثرة بالمكتب، وكذلك بالأسلحة التي حاول أن يستخدمها رجال القواد ضده. ثم يخوض (روبرت ماكال) بعد ذلك في معارك ضارية مع زعيم المافيا نفسه، الذي تغضبه جرأة (روبرت ماكال). لكن وفي النهاية، يقتل (روبرت ماكال) كل الذين تسببوا في إيذاء العاهرة المراهقة (إلينا)، وكذلك يحررها من حياة العهر؛ لتبدأ حياة صالحة، بعد أن التأمت جروحها، ووجدت وظيفة شريفة تمكنها أن تحصل على كسب مشروع.

ومن الملاحظ في هذا الفيلم، أن شخص البطل الأفريقي الأمريكي هذا لم يقتصر عند تقديم المساعدة على ذوي البشرة السمراء فقط، لكنه كان يلبي نداء تحقيق العدالة لكل مستضعف، دون أن يميز لون البشرة، فالجميع عند وقوع الظلم متساوون. وبهذا يكون (روبرت ماكال) قد حقق حلم المساواة والعدالة الذي حرم منه المجتمع الأفريقي الأمريكي مسبقاً. ومن الجدير بالذكر، أنه الجزء الأول من فيلم “محقق المساواة” (The Equalizer) نجح نجاحا مبهراً على المستوى الجماهيري، محققاً مكاسب غير مسبوقة، لكنه وقع تحت طائلة النقاد الذين انتقدوه بشدة بسبب مشاهد العنف الشديد المهيمنة على إطار الفيلم، وكذلك بسبب حبكته التي لم تقدم جديد.

وفي عام 2018 ،نزل على الساحة الدولية الجزء الثاني من فيلم “محقق المساواة” (The Equalizer 2)، وفي هذا الجزء يعمل (روبرت ماكال) كسائق تاكسي، يدافع أيضاً عن المستضعفين، دون أن ينتظر كلمة شكر. إلى أن تقتل صديقته الوحيدة المقربة له ذات البشرة البيضاء، ويبدأ في رحلة طويلة لمعرفة قاتليها وتصفيتهم جسدياً. ومن أهم مشاهد هذا الفيلم، مساعدة (روبرت ماكال) لجاره الناجي من معسكرات النازيين، والذي يبحث عن لوحة تمتلكها أخته، وعندما يجدها يتم بيعها أمام عينيه بسبب أنه لا يستطيع اثبات ملكيته للوحة.

ومن ناحية أخرى، يساعد (روبرت ماكال) جارته ذات الأصول الإسلامية في أن تطلي الجدار المقابل لبستانها الصغير، بعد أن شوهه شباب العصابات بالأصباغ، والدهانات، مستخدماً لإنجاز تلك المهمة جاره المراهق الأسود البشرة (مايلز ويتاكر)، الذي يحاول (روبرت ماكال) أن يثنيه عن الانضمام بالعصابات مقابل ما يعطونه له من مال وفير، وكذلك يحاول أن يجعل هذا المراهق أن يلتزم في دراسته. وفي غمار انشغال (روبرت ماكال) بالبحث عن قاتلي صديقنته المقربة، ينخرط (مايلز ويتاكر) في ملاحقة القاتلين ل(روبرت ماكال). وبعد أن يشهد الصبي قدرات صديقه القتالية الفائقة، وبسالته في دحر الظلم، ينصلح سلوك الصبي، بل ويحاول أن يصمم نموذجاً، وينسج قصة عن بطل خارقً ذو بشرة سوداء، يهرع لنجدة المستضعفين دون التمييز بينهم.

وعلى نفس غرار الفيلم السابق، حقق الجزء الثاني من فيلم ” محقق المساواة”  (The Equalizer2) إيرادات ضخمة، وإن تضاعفت في هذا الجزء. وعلى عكس المتوقع أثنى النقاد على أداء بطل العمل (دينزل واشنطن) بالرغم من تضاعف جرعة العنف في هذا الجزء، في حين انتقدوا كثرة وجود حبكات فرعية. ولكن فيما يبدو أن كاتب القصة والسيناريو كان يرغب من تعدد الحبكات الفرعية في عمل واحد توضيح أن تحقيق البطولة يقتضي إغداق المساعدة على الجميع دون تمييز، فتحقيق المساواة هو أساس النجاح، وكذلك هو اللبنة الأم لتحقيق العدل.

وبهذا، يعطي سلسلة الأفلام محل المناقشة نموذجاً غير مألوفاً للتفرد، ورفض التبعية، من خلال فيلم قد يندرج تصنيفه تحت مسمى “أفلام العنف التجارية”، وكذلك قد يصنف كفيلم هادف! مع مراعاة أن كلا التصنيفيين يقفان على قدم المساواة. أي أن، تحقيق المساواة والعدالة في سلسلة أفلام “محقق المساواة” (The Equalizer) تسري على جميع الأصعدة.

وباستعراض هذا النموذج الغير مألوف من أفلام العنف الذي يندرج تحت مفهوم “السينما السوداء” الذي أشرنا إليه مسبقاً، أن حتى العنف قد يصير مبرراً إذا كان تم بناؤه على مبادئ وظروف تختص بمجتمع ما، وتعبر عنه، كما هو الحال بالنسبة لأفلام وأيضاً أدب المجتمع الأفريقي الأمريكي. وعلى النقيض، بالنظر للكثير من أفلام العنف التي تفشت مؤخراً في السينما المصرية، نجد أنها تتحدث عن واقع، ومجتمع لا يمت للمجتمع المصري بآية صلة، حتى ولو تمت محاولة تمصير هذه الأفلام بجعلها تنبع من ثنايا وغياهب الأحياء الشعبية الشديدة الفقر؛ وذلك وببساطة لأن بالنظر إليها يلاحظ أنها مجرد محاكاة لأفلام غربية، يحاول المنتج أن يمصرها بكل الوسائل شاملة توظيف لغة بذيئة، وإيماءات مبتذلة غريبة على البيت المصري الأصيل. ومن ثم، لا تؤت هذه الأفلام في مصر إلا بثمار التفسخ والانحلال.

مقالات من نفس القسم