انتصار بوراوى
الشاطئ الرابع.. ً هو مصطلح أطلقه “بينيتو موسوليني” على شاطئ ليبيا عندما كانت مستعمرة إيطالية، واشتق المصطلح بسبب وجود ثلاثة شواطئ في إيطاليا (الأدرياتيكي والتيراني والأيوني) واعتبر الديكتاتور موسولينى ليبيا التي احتلتها إيطاليا هي شاطئها الرابع.
رواية “الشاطئ الرابع” للكاتبة البريطانية “فيرجينيا بايلي” التي صدرت بترجمة المترجم الليبي الأستاذ فرج الترهونى، عن دار الفرجانى في العام الماضي تستعيد المصطلح الفاشيستى القديم كعنوان للرواية، لتروى عبرها تاريخ حقبة دامية تحت الحكم الإيطالي الفاشي من خلال رواية مكونة من 422 صفحة بسرد مشوق وممتع.
تصل الشابة الإيطالية ليالينا كاتلينو ذات السبعة عشرة ربيعا، إلى ميناء طرابلس قادمة من مدينة نابولي الإيطالية لزيارة أخيها ستيفانوا، بناء على دعوة منه للتعرف على زوجته الليبية البدوية من برقة، ومحاولة تعليمها بعض الأساليب الأوربية في الحياة وطريقة اللباس ويستضيفها في بيته لبضعة أشهر دون أن تدرى الشابة الصغيرة ليليانا بأنها سوف تكتب فصلا من حياتها سيبقى تأثيره إلى آخر لحظة فى عمرها.
كان ستيفانوا شقيق بطلة الرواية قد سافر في عام 1925 م إلى ليبيا التي كانت مستعمرة إيطالية ليبدأ حياة جديدة، هربا من مطاردة الحزب الفاشيستى الذى اعتلى الحكم بإيطاليا وبعد استقراره في مدينة طرابلس، يراسل ستيفانوا أَخَته لياليانا الموجودة في إيطاليا ويصف لها في رسائله، القسم الحديث من مدينة طرابلس الذى شيدته الحكومة الإيطالية ويقارن بينها، وبين المدينة القديمة بأزقتها وأسواقها الشعبية ويتحدث عن النساء قائلا “بأن لاوجود للنساء المحليات فى الشارع وإن وجدن فيظهرن برداء أبيض من رأسهن إلى أخمص أقدامهن عدا فتحة تمكن العين من الرؤية”
ويحرص ستيفانوا بأن يذكر برسائله ما تقوم به إيطاليا “من بناء الفنادق والميادين والكنائس ومد خطوط الصرف الصحي، وفتح مخابز إيطالية تبيع البريوش وإنشاء صناعة للنبيذ من مزارع جبل نفوسة”، ولأنه يدرك بأن رسائله مراقبة فهو لا يتطرق أبدا إلى “الأطفال العراة الذين يحوم الذباب حول وجوههم ولا إلى الأكواخ المسقوفة بالصفيح ولاعن الأجساد التي تتدلى من الإعدامات بعد المحاكمات الصورية بل يتحدث فقط عن الجانب المعماري لاحتلال إيطاليا لليبيا ولايفصح في رسائله عن أفكاره المناوئة للاحتلال الفاشي في ليبيا.
السرد الروائي بين زمانين
السرد الروائي ينتقل من فصل لآخر بين زمنين، زمن الاحتلال الإيطالي لليبيا في أواخر عشرينيات القرن العشرين، وعام1980م الذى حدثت فيه واقعة اغتيال خالد المحمودي، الذي صنفه نظام القذافي، بأنه من أعداء ليبيا ومن هنا تبدأ التيمة الرئيسية للرواية حين تقرأ “ليليانا” الإيطالية المقيمة منذ ثلاثين عاما في بريطانيا الخبر وتتفاجأ باسم الإيطالي “أبرامو كاتانيو العروفي”، الذى أصيب بالخطأ أثناء حادثة الاغتيال ويراودها هاجس بأنه ابن أخيها الذى هاجر، من إيطاليا إلى ليبيا فى عام1925 م وعاش فيها ثم انقطعت أخباره عنها، بعد وقوع الحرب العالمية الثانية رغم محاولتها العثور عليه وعلى عائلته طيلة سنوات طويلة.
يتأرجح السرد الروائي بين زمن العشرينيات والثمانينيات، حيث تجوب بنا الروائية ببراعة بين العالمين عبر سرد طفولة وشباب بطلة الرواية “ليليانا” فى إيطاليا وزياتها لأخيها فى ليبيا ولقاؤها بالطيار الحربى الإيطالي “أوغو مورتينيلو ” الذى تعرفت عليه في حفلة بروما وهى بطريق، سفرها إلى ليبيا فيدعوها لِلْاِلْتِقَاء به بفندق “غراند هوتيل” حين تصل إلى طرابلس، وفى اليوم الثاني لوصولها إلى مدينة طرابلس تقوم بالذهاب للفندق حسب الموعد معتقدة، بأنها ستقضى معه أمسية غذاء رائقة فتتفاجأ به يقودها لغرفته ويغتصبها فتخرج ليليانا محطمة مع شعور بالخطيئة والذنب لأنها امرأة مؤمنة، ومتقيدة بالتعاليم المسيحية الكاثوليكية فتحاول أن تتطهر من الذنب بالذهاب للكنيسة، ولكنها لا تستطيع الفكاك من علاقتها بالطيار الحربى، الذى تكتشف عبر الأحداث والمواقف، بأنه ليس مجرد ضابط حربى بل لديه عالم معتم من القتل والتخلص من الأشخاص، الذين يعارضونه فى شقته التي تتردد عليها لمقابلته وتشعر بأنها وقعت فى ورطة بعلاقتها به قد تؤذى أخيها وزوجته الليبية لأنه متعصب للحكم الفاشيستى، ويرى في الليبيين مجرد بدو متخلفين جاءت إيطاليا لتمدينهم، وإخراجهم للحضارة ويستحق المقاومون منهم للحكم الإيطالي قتلهم وسحقهم، لذا يجد لذة ونشوة في إلقاء قنابله على نجوع وخيام المدنيين الآمنين وعلى جمالهم ومراعيهم كي يقطع مصدر التموين عن المتمردين كما يصفهم الذين يقاومون الاحتلال الإيطالي الفاشي، وتصدم ليليانا من قسوته وعنفه وتحاول مرارا التخلص من العلاقة التي تورطت، بها ولكن “أوغو” يحكم قبضته عليها فتشعر وكأنها طفلة وقعت بين مخالب وحش.
فى فصل من الرواية بعنوان “سوق الترك” تصف فيه الروائية السوق بمدينة طرابلس في عشرينيات القرن الماضي بالتنوع الكبير من حيث البضائع، والقدر اليسير من كل شيء من الفضة والذهب المصنوعات الجلدية، والأقمشة والبخور.
الروائية تذكر بدقة وسط الحوش العربي، بالمدينة القديمة بطرابلس الذى يقطن به أخ بطلة الرواية بجدرانه وأرضيته المغطاة، ببلاط أبيض وأخضر وفرن المطبخ المصنوع من الطين وطريقة الأكل، على الأرض والجلوس على الوسائد وتسعد حين يخبرها اخيها ستيفانوا بأنه أصبح يعتاد على عادات أهل البلاد ومنها طريقتهم في الأكل على الأرض وتنسجم ليليانا مع طريقة الحياة الليبية، حيث تتوطد الصداقة بينها وبين زوجة أخيها البدوية من برقة “فريدة” التى تعلمها، طريقة تحضير العصيدة والكسكسي ولمحاولة إقناع زوجة أخيها بارتداء اللباس الأوروبي، تقترح عليها لعبة تبادل ارتداء ملابس، كل واحدة منهما لملابس الأخرى حيث تلبس ليليانا الفراشية وتخرج بها للتسوق بالمحلات، فيما ترتدى فريدة اللباس فستان جميل جلبته معها ليليانا من ايطاليا وتوافق فريدة على اللعبة، وتقوم بتعليمها كيفية ارتداء الفراشية ويخرجان بها للسوق، فلا يتعرف أحد عل ليليانا اعتقادا بأنها امرأة ليبية.
تصف الروائية الفراشية التي ترتديها، النساء الليبيات التي تكون فيها “كل معالم الأنوثة مخفية عدا العين، لكن من خلال هذه العين يمكن معرفة الكثير مثل مدى العناية بالعين وهل هى طبيعية أم مكحولة، هل تحيط بها التجاعيد وهل الحاجب فوقها مستقيم أم ومقوس”، وتتوطد علاقة الصداقة بين ليليانا وزوجة أخيها البدوية الليبية ولكنها لا تخبرها عن سرها الذى تكتمه حول علاقتها السرية بالطيار الحربى “أوغو” الذى تلتقى به خلسة بشقته.
السر والبناء السردي
فى إحدى جولات “ليليانا” بأحد اسواق المدينة، برفقة زوجة أخيها “فريدة” تلتقى بالطيار الحربى “أوغو” صدفة الذى يعجب بفريدة، وتتفاجأ ليليانا بعد رجوعهما بمرسول منه إلى فريدة يطلب فيه لقاءها، فى مقهى الشرق فترتعد ليليانا خوفا على زوجة أخيها من “أوغو” وتقرر الذهاب معها للمقهى كي تحميها منه، ولكن الطيار الحربى لا يبالى بوجودها ويقود فريدة الى غرفته بالفندق ويغتصبها، وتنهار ليليانا وتخرج فريدة من غرفته وهى تحمل عار ما فعله الطيار الإيطالي، وتصمت كلاهما وتمضى أحداث الرواية فى سرد، ما خلفته أفعال الطيار الحربى في نفسية المرأة الايطالية والليبية اللتان يوحدهما الشعور بالمهانة والمذلة والعار، ولكنهما تختاران الصمت وحمل سر ما حدث في بئر عميق ولا يخبران ستيفانو، بماحدث ويختفى الطيار “أوغو” من حياة ليليانا بعد فعلته الشنيعة ثم تكتشف، بأنها حامل وتخبرها فريدة بأنها حامل أيضا ولايجدان حل للمعضلة التي وقعتا فيها، إلا بطلب فريدة من زوجها السفر لأهلها في برقة كى تنجب ابنها برعاية عائلتها، وتطلب منه مرافقة أخته ليليانا معها وتسافر المرأتان الى بنغازى وتنجب ليليانا بنت بينما تنجب فريدة ولد وتترك “جوليانا ” ابنتها عند زوجة أخيها “فريدة”، وتعود إلى إيطاليا وهناك تلتقى “الان” المهندس البريطاني الذى يعجب بها ويطلبها للزواج فتوافق على الزواج منه وتنتقل من إيطاليا فى عام1938 إلى بريطانيا، حيث لم يعد لديها ما تعيش من أجله في إيطاليا بعد وفاة والديها واستقرار أخيها الوحيد فى ليبيا الذى تنقطع أخباره تماما بعد وقوع الحرب العالمية الثانية، ولم تعثر على أخيها وعائلته عندما طرد القذافي بقايا العائلات الإيطالية من ليبيا في عام 1970
ولكن التاريخ والماضي وأسراره، كله يستيقظ مرة واحدة داخل “لياليانا” حين تقرأ بالصحيفة الصباحية اسم الشخص الذي أصيب بالخطأ خلال اغتيال أحد الليبيين على أيادى رجال القذافي في روما.
في نهاية الرواية ينكشف السر الذى تم بناء الرواية على أساسه وتعرف بعد كل تلك العقود بأن أخيها ستيفانوا توفى في عام1938 فى حادث سيارة بعد سفرها إلى ايطاليا كل تلك التفاصيل والأسرار، التي كانت مدفونة في بئر النسيان تستردها الروائية عبر فصول الرواية التي تتأرجح بين زمنين، في سرد روائي أخاذ ومتين بلغة سردية ممتعة.
بين الحب والاخضاع
شخصية بطلة الرواية ليليانا تظهر ضعيفة، وخانعة أمام الرجل الذى اعتقدت بأنها أحبته ربما يرجع ذلك لصغر سنها وانعدام خبرتها، فلقد كانت في السابعة عشرة من عمرها حين تعرفت عليه والرواية، تعطى ملمح بذلك عن المرأة الأوروبية فى ثلاثينيات القرن التي كانت تحبو في مسيرة الحقوق والحريات، وتتعرض للعنف من الرجل الذى قد تنساق عواطفها وراءه، دون تمحيص ومعرفة شخصيته كما حدث مع بطلة الرواية فى علاقتها مع الطيار الحربى ” أوغو ” الذى استخدم سلطته الذكورية في محاولة إخضاعها وإذلالها بفعل الاغتصاب لها ولزوجة أخيها الليبية “فريدة”، في إشارة من الكاتبة “فيرجينيا بايلى” إلى إن الفاشية الإيطالية لم تكن محصورة بالدول التي استعمرتها وإنما امتدت لكل من رفض سياستها من الإيطاليين مثل ستيفانو واخته الذين هربوا من جحيم الفاشية ببلادهم، فطاردتهم في مستعمراتها.
تظهر حادثة اغتصاب الطيار الحربى ” أوغو مورتينيلو” لزوجة أخ ليليانا الليبية “فريدة” كرمز لاغتصاب ايطاليا لليبيا، واحتلالها واعتبارها شاطئها الرابع فالرواية تحمل رموز كثيرة، وتربط بين الماضي الفاشيستى الإيطالي في ليبيا وحاضرها الديكتاتوري ثمانينيات القرن العشرين تحت حكم القذافي، الذي مارس نفس النهج الدموي كان يقوم به الاحتلال الفاشيستى من قمع وإعدامات لمعارضيه رغم أنه ابن البلاد وخرج من رحم أرضها، وبذكاء وبسرد إبداعي ربطت الروائية رؤيتها للديكتاتورية تحت حكم القذافي والفاشية الإيطالية في أوائل القرن العشرين في ليبيا عبر شخصيات دافقة بالحياة وحبكة روائية، ممتعة ومشوقة وبارعة في تفاصيلها السردية.
………………………….
*(الشاطئ الرابع)، فرجينيا بايلي ترجمة: فرج الترهوني – دار الفرجاني – القاهرة، ط1، 2021.