البحث عن الذات والحرية في “ليالى الهدنة”

ليالي الهدنة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د.محمد ناجي حبيشة 

تبدو رواية ليالى الهدنة للروائية / منى العساسى أشبه بسيمفونية  للذات والبحث عن الخلاص والحرية عبر أفق النور،كما إنها تناقش الكثير من القضايا المجتمعية؛المسكوت عنها؛ وربما التى أهملتها الروايات العربية بشكل عام؛خاصة من جانب الكتاب؛ ويعزى ذلك ربما لعدم معرفتهم بطبيعة المرأة وانفعالاتها؛خاصة في حالات مثل:الطلاق؛الحب،الصراعات الأنثوية عبر المشاعر، وهى من الأمور التى تعرفها الأنثى جيداً، ومع عدم ميلى للكتابة فيما يسمى ” الكتابة الأنثوية “؛مقابل مسألة:”الذكورية “خاصة وأن الأدب لا يُعنى بمثل هذه المسائل،لأنه يركز على انسانية الرؤية في المقام الأول؛ولا يعتد لكون هذه الرواية مكتوبة بقلم كاتب رجل،أو امرأة؛لكننى أصر هنا على التسمية والتصنيف –الكتابة الأنثوية–لماأسلفت له من مبررات تتعلق بماهية الأنثى،ومعرفتها بالعواطف التى تسيطر على الأنثى في كل حين،فهى لا تنحازإلى الأنثى  لكونها أنثى؛بل تطرح قضايا المرأة العربية بصفة عامة؛والمرأة المصرية بصفة خاصة في مسائل تتعلق بالأنثى وعواطفها كالحب والزواج والطلاق وعلاقات المشاعر،وجوانياتها المتداخلة .

إذن نحن أمام سرد مخصوص؛يتعلق بالذات الأنثوية للراوى،ولا دخل لنا بالكاتبة – من قريب أو بعيد – كى لا تختلط الأمور؛وأحسبها قد تختلط عند كثير من النقاد الذين لا يدركون ماهية  هارمونية الروايات،والتي تعكس انفصالية بين الكاتبة، والذات  الساردة؛ ولنتتبع الراوية/الراوى في تسيير عمل الأحداث – لذا لزم التنويه بداية .

إن الرواية تمثل تطوراً للسرد المصرى، فهى  تتحدث عن أدق التفاصيل لامرأة اضطرتها ظروف الحياة كمطلقة للزواج من رجل كبير السن؛ وهى هنا –عبر الراوى العليم – تسرد لنا عبر المثيولوجيا مشاعر تلك المرأة: أيامها، تداعيات الذات وانهياراتها أمام مجهولية الأيام التى سوف تلاقيها، فهى التى حسبت هذا الكهل سيعينها على الحياة؛وسيلبى رغباتها ومتطلباتها لتكتشف عجزه،بل تفاهته،وهى التى ظنته سيركن إلى جمالها،وهناءة العيش معها؛فإذا به يتحول إلى ذئب،أو رجل بغير مشاعر،لا يعيرها أدنى اهتمام، أو ربما لم يستطع مسايرتها في أحلامها المتتابعة .

ولنلحظ قوة البطلة وصلابتها؛فهى عصية على الإنكسار،  تجدف في الأيام بمجداف المشاعر المتداخلة،وتستخدم ” السينوغرافيا “؛وهى احدى تقنيات السينما؛لتعيد رسم مشهديات الصراع عبر ليالى الهدنة :” أو ليالى ما بعد الطلاق ” ،وعبر هذه الليالى تحاول كشف الملغز من مشاعر الأنثى وعواطفها تجاه مثل هذه القضايا : الزواج من عجوز تارة؛حبها وركونها إليه،توهانها عبر رحلة الأيام،ثم الطلاق الذى يمثل النتيجة الحتمية لإمرأة تريد أن تحيا  بنمطية خاصة؛أو أنها المثقفة التى رفضت الجهل لدى هذا العجوز المخادع الذى تظاهر بالشفقة والرحمة،والذى اعتبرته النموذج المثالى – كوالدها–أى أنها تمثلت فيه شخصية الأب الحنون، والزوج الرءوف،وهى التى ستكون طائعته،ومدللته، ومحبوبته،خاصة وأنها جميلة،وشابة،وستلبى جميع طموحاته ورغباته؛ فإذا به يتحول إلى  كومة مهملة من الإهمال،تجاه ذاته وحكم السنين،وتجاهها كذلك،لتبدأ  رحلة الصراع الذاتى مع الأنا والمجهول،أو مع الصورة وظلال الألوان الباهتة لليالى الهدنة غير السعيدة، والسعيدةلها كذلك،فكيف ذلك؛والنقيضان يتجسدان فيها، عبر مخاتلة السرد؛ ولنتامل هذا المقطع من تلك الرواية الشاهقة؛ تقول:

(الخطوات التي قطعتها تجاهك في شهر واحد، لم أقطعها تجاه حبيب آخر، أكثر من عشرة أعوام متتالية، كنت لا أملك شيئًا سوى أن أنتظرك.. كيف لك أن تصل إليَّ بهذا العمق وتهجرني بتلك القسوة؟ أنا الجميلة جدًّا حد الإبهار “ألستَ أنت من قال هذا…؟”. أليست اللقاءات القوية التي جمعتنا كفيلة بنقشي داخلك.. كفيلة بالتمسك بي إلى آخر شهقة ؟ كانت تحثه ممسكة بسيجارتها الأخيرة، غبار دخانها يتلوى في الفراغ، شالها الأبيض معقود حول خصرها النحيل العاري، كما اعتادت أن تجلس معه. تتأمل نفسها عبر ملامحه الخمسينية المجهدة، بعينيها العميقتين تحاول أن تستنطقه بسؤالها المعتاد:-  هل تحبني؟… صوته المجهد يجيبها بارتباكه وعجزه: نعم، ولكن… لم يكن يدرك أن كلمة (لكن) ليست استدراكًا لشيء مؤجل، سقط سهوًا أو عمدًا، إنما كانت تعمل هنا كشفرة زمن حادة، زمن هارب ومفتت، سينقش جرحًا عميقًا بقلبها المشغوف به.  .. ها هي خطوط الزمن ترتسم على وجهه تحاول أن تلمسها، تتأمل نفسها، وتطبع قُبلاتها عليه.. شيء ما بداخلها ينبئها بأن هذا هو اللقاء الأخير).

إنها فلسة السرد العاطفى، الحزين، حيث يعكس هذا المقطع واقع تلك البطلة ؛ إذ الرواية تمثل ” صوتاً وحيداً ” ؛ أو راو سارد حكَّاء ” ، لتعبر بالذات إلى الألم النفسى العميق، ولتجسد جكايتها مع الأيام ، وعبر الخديعة من ذلك العجوز الذى استدرك : ( أحبك .. ولكن ) فقد قلبت كلمة لكن الإستدراكية مشهدية الحب من طرفها، وبدأت تستشعر الخطر والخديعة من هذا العجوز المخادع .

 لقد تم الطلاق ؛ لتكتمل مشهدية الخديعة، ولتظهر عدم تمسكه بها، كما تظهر نزوعها  إلى التحرر من ربقة هذا المخادع الكبير ، فهى الباحثة –الآن- عن الحرية،والتخلص من عبء هذا الرجل الذى لايأبه لها،  لذا فهى حزينة لذلك،لكنها فرحة كذلك في الخلاص لتنجو بذاتها من تقريعه،وعدم ملائمته؛ ولعدم صلاحيته فى كونيته الزوج المناسب، أو حتى الزوج الذى تمثلته ليكون القدوة؛أو الأب الحنون،والزوج الذى يشاركها صقيع الأيام؛ ويعوضها عن الأيام والليالى الحزينة .

إنه صراع الأنثى بين مجهولات معيشية:مجهولية الأيام القادمة بعد الطلاق،فهى ليس لها أهل ولا أقارب، الجميع مات،وغيب الزمن الباقى ، فأصبحت  وحيدة تتقاسمها هموم الوحدة،والخوف من القادم المجهول!! .

ولنا أن نلحظ السرد الباذخ،وما ورائياته المُتبداة عبر”رحلة”الاستبطان الذاتى”؛أو الإسترجاع لمجريات الأحداث عبر” سيوغرافيا الحياة”؛أو فلاش باك الزمن، واسترجاعاته النفسية والذاتية والتي تمثل:”راحة نفسية” للراوية/البطلة؛ ناهيك عن”عملية التطهير” ،أو العلاج بالسرد؛وتلك لعمرى احدى مقومات القوة، فهى تسترجع الأمور لا من أجل التذكر فحسب،أو البكاء على اللبن المسكوب،وانما تسترجع شريط الأحداث لتستنطق كوامن الطاقة لديهالتتصبر على الحياة كذلك .

إنها مواءمات الذات تجاه الحالة النفسية التى تمثلها البطلة  عبر السرد الجميل،المكتنز،الإحالى، والذى يستخدم تقنيات حداثية  مثل:( القصة داخل الرواية) وتقنيات المثيولوجيا،كما تستخدم التناصات الإحالية،والسرد الماتع الذى يجعل القارىْ في حالة وجود داخل الحدث، عبر تشاركية لا تتمثل في التعاطف فحسب مع هذه الوحيدة المنكسرة، والتي تحاول الوقوف من جديد عبر الإرادة الصلبة لها، لكنها أنثى في النهاية،تريد الدفء، والحنان، والحب، والرجل الذى يهدهد أيامها؛لذا وجدنا تشاركية من القارىءوكأنه موجود،بل هو موجود – حقاً- داخل الحدث،بل هى حكايته الشخصية،أو حكاية جارته،أو قريبة له،لأنها تخص العواطف والشجن، وحكاية أنثى وحيدة تتصارع مع الحياة،فكأنها ابنته،أو احدى أخواته القريبات،ولقد نجحت الكاتبة – بإمتياز – في جذب القارىء ليكون أحد  شهود السرد؛وأحد المتعاطفين مع حالتها كذلك،وهو” الضمير المجتمعى”الذى تتغَيَّاه،وتستشرف له عبر سردها الماتع المخاتل،الجميل،والرائع أيضاً .

كما نلحظ النهاية الفاجعة،المخيفة،الضبابية لتلك الأنثى الممزقة،الفقيرة،الوحيدة  عبر القطار؛والذى تمثل رمزيته هنا– فيما أحسب” تلك الأيام،فعربات القطار هى الليالى الصعبة الغير ثابتة؛والتي تتحرك عبر الحياة،وتكاد تصرعها تحت عجلات هذا القطار، والصراع هنا ليس صراعاً مع الموت،بل هو صراع المعاملات  الغير انسانية من قبل المجتمع:كالنظرة الغير  عفيفة إلى المطلقة،أو النظرة المتوجسة من تلك المرأة الوحيدة، والتي تسافر عبر رحلة الزمن، التوهان، العذاب، لتتوقف في محطات العمر، محطات القطار، فالقطار يمثل المجهول، والتحول إلى مسار جديد كذلك في المجتمع، ولقد رأينا شريحة المجتمع عبر  ركاب القطار والذى حاول أحدهم التحرش بها، لتتحول رحلتها الجديدة إلى بداية لعذاب ووحدة وخوف من جولات لا تعرف مقصدياتها، فهى  راكبة ولا تعرف أين ستسير بها الأيام،وماذا سيفعل معها الزمن كذلك، والأيام والليالى؛والناس كذلك .

لقد أرادت الحرية للذات،والخلاص،وتغيير الواقع بالحب،ولعل تلك القيم النبيلة هى التى صَدَّرت مشهديات روايتها؛تقول – منذ البداية – : ( فِي جَوْفِي طَائِرٌ مُحَلِّقٌ، يَضْرِبُ بِجَنَاحَيْهِ.. يَبْتَغِي الْحُرِّيَّةَ، يَرْجُو الْخَلَاصَ ).

إنها تبغى الحرية،والغد الجديد لحياة جميلة سعيدة، لكن يبدو أنها لم تحسب حسابات الأيام والسنين، والوحدة والقهر،وصعوبة الحياة في مجتمع ينظر للمطلقة بعين حذرة،أوأنها مطموع فيها في جميع الأحوال .

لقد أرادت الهرب من سجن الواقع مع العجوز بعد الطلاق إلى التحرر من القيود؛ لكنها فجعت منذ توجهها إلى القطار لتسافر بعيداً ، فقد وجدت – حتى النادل في المقهى – ينظر إليها بريبة، أو بشهوة وطمه ، مع أنها أرادت اخفاء انكساراتها خلف النظارة السوداء التى تلبسها، والتى تمثل ” ليالى الهدنة السوداء ” التى عانتها ، تقول 🙁انحدرت دموعي، شعرتُ بطعم مائها المالح يأكل جفنيّ يصيبهما بالحكة،فتواريت خلف نظارتي السوداء، كما أصيب أنفي الذي لا يزال يؤلمني إثر ارتطامه بخزانة الملابس هذا الصباح رشحٌ مفاجئ، وجسد يرتعش تحت ملابسي، قررت العودة من حيث أتيت، تاركة الزحام والقطار. ..انصرفت وحيدة ممزقة تعبث برأسي الأفكار، وتعبث أناملي بالهاتف، وهي تطلبك، طلب العاجز للرحمة، هامسة بصوت متقطع: ألم تشتاق؟ ).

إنها تتحسر على الأيام، وودت لو تعود من جديد لتتحمل الخديعة على قسوة الأيام والمجهول؛ لكن قد سبق السيف العذل، وأصبحت وحيدة مطاردة كذلك .

وفى  ” ليلة الخروج ” والتى تمثل النهاية للرواية، لحكايتها ، والبداية أيضاً لحياة جديدة رأيناها ” عبر النهاية المفتوحة  الماتعة ” تفلسف الواقع؛ أو أنها تطوى صفحات الماضى  الأليم ، ورغم أنها لم تسلم من التحرش بها داخل القطار، إلا أنها لم تستسلم وترجع إلى العجوز، ثم  لم تستسلم مجدداً لقسوة الواقع وتحرش الدكتور بها ، فوجدناها تنتفض، وتقوم من مجلسها لتعبر صفحات الماضى إلى الحياة الجديدة ؛ تقول : ( وضعت سماعات الهدفون في أذنها وحملت حقيبتها، وتركت كرسيها مستبدلة التذكرة مع شاب بالكرسي الأمامي… أخذت نفَسًا عميقًا، وصرخت في نفسها: إنها البداية!).

إن هذه النهاية الرائعة تمثل اصراراً على مواصلة الرحلة، وكأنها تقول للذين في مثل حالة البطلة : عليكن بالصبر، فالحياة بقسوتها  جميلة؛ وهى تنشد الواقع الاخر الجديد، ترقبه بحذر؛ لكنها تنشد التجدد، واستمرارية الحياة كذلك .

مقالات من نفس القسم