ولازلت ﺃنزل بالباص المرة تلو اﻷخرى فاٴشاهده جالسا جلسته المعهودة، تراه شهيد البلاوي العائلية التي تتفنن في مص ﺃرواح ﺃمثاله من المراهقين ثم رميهم كتلة صماء ٳلى الشوارع؟، ﺃم تراه ضحية عقاقير هذا الزمن؟، تكون ﺃدت به ٳلى ما يشبه الصرع، ﺃم ﺃنه نزيل ﺃحد الملاجئ؟ يكون فرﱠ منها لسبب ﺃو ﻵخر. غير ﺃنه والحق فتى تبدو عليه ملامح الشرف و الفضيلة لولا جلوسه في مكان غير لائق للجلوس.
جاء اليوم الذي هالتني فيه صورة ذلك المراهق و هي تعلو صحيفة وطنية مشهورة، ٳنها صورة نفس المراهق الذي ﺃثار فكري بسيل من اﻷسئلة و هو جالس جلسته المحيرة٬ و قد كتب فوق الصورة عبارة “صورة بدون تعليق” مع اسمي المصورتين. استجمعت قواي عازما ﺃن ﺃتحرى ﺃمره، ﺃعطيته الجريدة فاٴنكر ﺃنه قد سمح ﻷحد ﺃن يصوره، فقلت له :” – لاشك اٴن ﺃحدهم قد صورك خلسة و وضع صورتك تلك على الصحيفة، فهل ﺃنت راض ﺃم ﺃنك تريد استرداد حقوقك ممن صوروك دون موافقتك؟”، فقال :”- ﺃنا مانسمح حتى لواحد يصورني حتى وٳذا كان بريزيدو. قلت له حينئذ :”– هيا بنا إذن ٳلى مقر هذه الجريدة٬ فإن لك كامل الحق في التعويض؛ ٳنها صورة مهينة وٳلاﱠ ترفع دعوى قضائية ضدهم، فالعدالة ستنصفك”. عند وصولنا ٬كنا بالذات قبالة المصورتين اللتين ٳستغلتا مسكينا دون مشورته، في البداية استغربتا تدخلي المباشر، قالت ٳحداهما :”– وﺃنت واش دخلك؟ ﺃحنايا صحافة وعدنا حق الوصول للمصدر صوا رضا و لاﱠ مارضاش فاهم”.
في الوقت الذي تدخل فيه رئيس تحريرهما بعد ﺃن تهادت أصواتنا إلى مكتبه٬ لكنه إنسحب فجاٴة ليرد على الهاتف٬ رحت ﺃنا رادا على كلامها : “– عن ﺃي مصدر تتكلمين٬ ماخذيتوش رايو، وتظنان ﺃني جاهل باٴمور هي من اختصاصي، المصدر شيىء وﺃخذ صورة ﻹنسان غلبان خلسة و في مكان حقير دون موافقته شيىء . اﻵن هو يطالب بحقوقه نقدا ليتجاوز الضرر الذي لحق به٬ ﺃو يرفع دعوى إلى السيد وكيل الجمهورية ضدكما”.
“-vous êtes fou٬كيفاش ﺃحنا إللي بنات فاميليا نطلبوا من واحد “vagabond“مرمي في“la poubelle” يسمحنا و لاﱠ ما يسمحناش؟” حينئذ ﺃشرت إلى المراهق المسكين باٴن يتبعني قائلاﹰ:”– رايحة تشوفي في المحكمة وشكون لا بوبال وشكون فاميليا” . عندها تبعتانا مذعورتين – ﺃرواح٬ ﺃرواح نتفاهموا بلا محكمة. و قالت اﻷخرى بدهاء و خبث :” – نمدولوا شي فرانكات و ﺃنتهى اﻷمر و المحكمة و علاش ديجا راه المخلوق مسكين”.
– راه يقوللكم دراهم و اﻹعتذار.
– آ واه اﻹعتذار لالا ، فرددت عليهما :” يظهر ﺃنكن صحفيات آخر زمن لا تملكن من الصحافة ٳلاﱠ اﻹسم، وﺃن ﺃمثالكن لايحتاج ﺃصلاﹰٳلى شهادة التي تخوله المنصب، فمنصبكن مضمون وﺃنتن بعد طالبات في الجامعة و التي دخلتوها لا ﺃدري كيف دخلتوها”.
-كيفاش كيفاش. مضمون؟mais vous êtes vraiment fou . حشاك؛ ﺃحنا بشهادة الليسانس وحدها رانا هنايا.
– عمبالكم راني نايم على وذاني، ﺃنا قريت وين قريتو ﺃنتما..والبريكولاج والمعرفة والغش المستفحل بتواطؤ وجهوية اللي يقروكم،..و زيد وزيد تسميها الليسانس“. الليسانس يعكسه مستواكن في تعاملكن مع هذا المسكين ٬ ويعكسه ضمائركن وإحترافيتكن، ﺃتدعين المكر و الدسيسة و اﻹنتهازية صحافة؛ الصحافة مهنة شرف ونبل وقيم٬ وليست مهنة من لامهنة له .
ترعرع غشكن معكن منذ سنوات الجامعة اﻷربعة، ﺃخشى ﺃنكن حلقة جديدة من حلقات موجة ﺃشباه الصحفيين المتخرجة زوراﹰ و بهتاناﹰ كل عام والمتطفلة على الصحافة الحقة بتواطؤ و ترصد من يشرفن عليكن. لقد مكنوكم من القبض على حفنة ريح٬ قد حسنتن من”فنياتكن التحريرية” كي لا تحركن ساكناﹰ؛ تسطين على ﺃخبار المشارقة وتدعينها ﻷنفسكن٬ و لاتخشين لومة لائم كون المصيبة أصبحت عامة ٬ و المصيبة ٳذا عمت خفت كما يقال. و طورتن من فصاحة ﺃلسنتكن بحيث تتحدثن بلغة ﺃجنبية اٴو بربرية كلما رﺃيتن ﺃناساﹰلا يروق لكن فضائل ﺃنفسهم مثل هذا المظلوم الذي سميتوه .vagabond
ﺃجل٬ ﺃخشى ﺃنكن لو دخلتن معترك العمل اﻹعلامي على حقيقته لفشلتن من ﺃول يوم.كيف لهذا الشخص و هو بعد مراهق ﺃن ينمو شخصا سويا وﺃنتن لم تقدرن حتى اﻹنسان فيه؟؛ كان اﻷولى ﺃن تطلبا موافقته وتقنعاه ﺃن في ذلك مصلحته. عندما تصل صورته ٳلى التجار و المسؤولين المحليين. هل هذه آداب الدراسة وثمارها ؟… عندما غرقن في صمت ﹸمطبق، منبهرن بما تفوهت به، وجدتني ﺃنتهز الفرصة ﻷجعل من موكلي بطلاﹰ و ضحية ٳهمال المجتمع له : “– لو ضموه إلى المدرسة ﺃو وجدوا له عملاﹰ لما بقي في الخلاء تتفرسه النكبات ساعة واحدة، ﺃخشى ﺃنه لو دخل رهان العمل الحقيقي النزيه مع ﺃي كان – حتى ﺃنتن- في مدينة فاضلة كمدينة ﺃفلاطون الفاضلة ؛ مدينة في ﺃوج الرقي الحضاريلم يكن لها وجود قط على وجه البسيطة غير ﺃن كل ما فيها من مثالية ينم عن زكوة وطهارة ﺃنفس ٬ سيفوز حتما وسيتغلب عليكن حباﹰوإتقانا ثم إرتقاءاﹰ لعمله”.
– واشنو. نتراهنو! ﺃحنا ﹺاللي عدنا ليسانس و خبرة طويلة مع واحد طردوه مالمدرسةC’est pas vrais! !
– قلت لكن كلﹲوعمله ٬ هو يعمل نادلاﹰفي مقهى و ﺃنتن تعملان صحفيتين في صحيفة مشهورة ، في تلك المدينة المثالية التي تسودها قيم قانونية و ﺃخلاق نبيلة٬ يسوس فيه البشر كاٴسنان المشط فعلاﹰ لا قولاﹰ. لارشوة ، لانفوذ، لا تسلط، لاغش ولاهم يحزنون،لم تتجسد يوما على ﺃرض الواقع بعد ، جسدتها فقط قرائح عباقرة وفنانين من محض خيالهم الفني. ٳن هذا الرهان الذي ستدخلانه مع هذا المسكين لهو رهان ٳثبات المستوى المعرفي و اﻷخلاقي على السواء.
– وكيف سنهتدي ٳلى هذه المدينة مادامت خيالية؟
– اﻷمر في غاية البساطة، تستقون باصاﹰخاصاﹰ، بمجرد ﺃن تلجون التيطري جنوب اﻷطلس البليدي الذي تشاهدونه ﺃمامكم ؛ سيحجبكم الضباب من كل حدب وصوب ٬ وستظهر ﺃمامكم رويدا رويدا جبالاﹰليس لها موقع على الخريطة قط، تبدو و كاٴنها جبال الونشريس و قد تحولت شمالاﹰ، فإذا بكم في مدينة يحيط بها الضباب من كل جهة؛ هي المدينة المقصودة ؛ مدينة قائمة على صروح مجد غابر؛كل اﻷرواح العتيقة تعود لتبعث فيها باٴبدان جديدة بحسب رﺃي جبران في تناسخ اﻷرواح، كاٴني بهم كل الملائكة و الاٴثينيين[1] اﻷفلاطونيين مازالوا ينزلون بها، فلمﹸتذري بعبقها هواجع اﻷيام٬ ولم تعبث بتلالها العذراء اﻷزمان الخوالي، بقيت زاخرة بإرثها اﻹنساني التليد حاملة في طيها كل معاني السمو الروحي والتفوق المادي٬ فهي مبعث لكل اﻷرواح المظلومة على مر اﻷزمان والدهور.
– و شحال نبقاو في مدينتك السحرية هاذي؟.
– تبقاو ماشاء لكم ﺃن تبقاو. حتى يظهر من يكسب الرهان ﺃنتن ﺃو هو. ها هو ذا الباص الذي سياٴخذكم ٳلى هناك، فلتدخلوها سالمين.
– وكيف سنعود منها و من سيرشدنا ٳلى الصحيفة؟
– ٳنه السائق. فجاٴة ستبزغ ﺃمامكم وفجاٴة ستختفي.
و مذ عهدي بالصحفيتين المتبجحتين بمركزيهما وﺃنوثتيهما وصبي الحائط المسكين، المائت في عالم اﻷحياء، و ﺃنا ﺃنزل من نفس الشارع و مع كل حين ، فتلج بي ذاكرتي إلى ﺃبعد من واقع المدنية المظلم . شتان بيننا وبين المدنية المثالية التي حلم بها عباقرة هذا العالم ، و رحلوا ليبقي حلمهم غصة حلق معلقة بين الحقيقة و الخيال .
و فيما ﺃنا كنت فيه من تاٴمل و من إسقاط عوالم العصور المظلمة على واقعنا مع كل إنحدار لي عبر ذلك الشارع ، بدت لي بعد نحو ﺃربع سنوات إلاﱠ نيف على تلك الحادثة، و من بعيد وكاٴنهما امرﺃتان وقد ٳحتلتا مكان الصبي المراهق.لم ﺃنتبه في البداية، كوني كنت قد تعودت على مشاهد التسول. بيد ﺃني بعد ﺃن دنوت ﺃلفيتني شيئاﹰآخر غير ﺃنا ، ﺃجل بل ﺃضحيت كالسكران الذي ضاع منه الطريق فراح يسابق السيارات . ﺃجل ، يا لهول ما رﺃيت! إنهن نفس الصحفيتين جالستين في نفس مكان الصبي ساعة صورتاه خلسة! وقد نفش شعرهن ومزقت ثيابهن وبدت مظاهر اﻹشتباك بالأيدي عليهن. لشدة فاجعتي لم ﺃشاٴ اﻹقتراب ﺃكثر، فلوحت لهن بيدي فعرفتاني لتوهن ، وصرخت إحداهن بي لعلي ﺃسدل إليهن معروفا غير ﺃن اﻷخرى ﺃوقفتها صارخة :
“- يا هذا قد خسرنا خسرنا ، طردتنا عوامل الخير والفضيلة ؛ طردتنا.. طردتنا ولم يسىء ٳلينا ﺃحد؛ طردتنا نفسينا شر طردة من نفسينا٬ فخرجنا كالمعتوهتين إلى عالم الحقيقة حيث تبعانا فتيانها المشاكسين وفعلوا بنا مثل ما ترى، حتى ﺃن رئيسة التحرير
كانت من جنسنا وكم ﺃشفقت علينا عندما خاب رجائها فينا؛ منحتنا فرصة اﻹستدراك المرة تلو اﻷخرى بيد ﺃننا ﺃظهرنا ضعفاﹰ تقنياﹰوخواءا روحياﹰ ﺃمام ﺃقراننا من منتسبي المدينة الفاضلة، فما كان منا بعد ﺃن إحترقت نفسينا غيظاﹰعلى نفسينا، إلاﱠ ﺃن توقفنا عن العمل ولكننا بددنا كل ما جمعناه في ﺃيام معدودات”. و قالت اﻷخرى: “– ٳننا كنا في جهل حد القنوط ففررننا بجلدينا من المذلة٬ فجحيم العدالة والنزاهة قد ﺃحرقا قلبينا هناك وصرنا قاب قوسين ﺃو ﺃدنى من الجنون كما ترى”.
– وﺃين صاحبنا ٳني لا ﺃراه معكما؟
– صاحبك إرتقى سلم العمل٬ من نادل إلى منصب رئيس مقهى٬ ٳلى مسير مجموعة انتاجية إلى عضو مجلس حكومة المدينة٬ إلى حاكم المدينة وعمره لا يتعدى العشرين ، و هو الذي وقع وثيقة عودتنا إلى عالم الواقع “المزيف” الذي ترانا فيه.
– آه ٬كم كانت خسارتنا رحمة .كم كنا عالة على ﺃسباب الفضيلة هناك. فقد خسرنا الرهان حقا خسرناه .
……………………..
*
ملحوظة : هناك تعابير دارجة جزائرية وضعتها بخط داكن تستدعي تركيزا ذهنيا لتفهم )صوا تعنيsoit (
أكون شاكرا لكم لو تنشروا قصتي في مجلتكم الالكترونية الغراء.
*قاص من الجزائر
. نسبة إلى مدينة اٴثينا–[1]