صورة مقصوصة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 80
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

رحاب إبراهيم

كثيراً ما سألت خالتي، ولم تكن ترد سوى بنظرة ساهمة.

في البداية ادعت أنها لا تفهم أية صورة أقصد، فبيت جدي رحامليء بالصور والذكريات، ليس لها ولإخوتها فقط، بل امتدت لتشمل الجيران والأقارب البعيدين، وحتى الكلب العجوز الذي آنس جدي في أواخر أيامه.

صور الأبيض والأسود كانت الأغلب، صور زفاف جدي وجدتي وأشقائهما تأتي في مقدمة الألبوم الأسود اللامع ذي الإطار المذهب، عند تقليب صفحاته الصلبة أسمع أزيزاً أحبه، أحس فيه كأن أرواح سكانه تحييني، بعضهم ما زال حيّاً، لكن بعد المسافات وتشعب طرق الحياة اختصرهم لحكايات قديمة وصور.

أحب أكثر الصور الملونة، بالألوان الباهتة للكاميرات القديمة، لمة الأحفاد في المناسبات المختلفة، نشير لبعضنا بعضاً ونضحك، أو نمارس النميمة في الخفاء : شوف اللي طالعة فيها وعاملة مديرة كانت لابسة صندل مقطوع أهي

أكثر صورة أحبها تلك التي نلتف فيها حول “ركس” الكلب العجوز الذي رآه جدي أكثر وفاء ممن عرفهم طيلة حياته، فتوسد ذراعيه ومات.

في الصورة بدت خالتي في أبهى زينتها، تحولت نظرة عينيها إلى العسلي بفعل مصور محترف، وأطلت رموشها الطويلة التي لم تحتج للمساته لتظلل جفنيها، كانت ابتسامتها متفردة، مشرقة وناعسة في آن.. كشف الثوب الأبيض عن نحرها وكتفيها، وانساب في نعومة على الخصر ليمتد منفوشاً يحيطها كأميرة.

ثنيات الثوب مقصوصة بعناية، كي لا يجرح من قصها أيّاً من تفاصيله، وعلى كتف خالتي استقرت يد فتية تمسك بها بقوة.

وصلت خصلات شعر خالتي الطويل لليد، لكنها لم تخفها تماماً، ظلت هناك دون جسد.. وظل صاحبها مقصوصاً، مبعداً ومختفياً للأبد.

-هل تزوجت يا خالتي ؟ الفستان فستان زفاف وليس خطوبة.

-لم أتزوج قلت لك

-ولكن.. من ؟

تسكتني بنظرتها اللائمة، فأضطر إلى الصمت متحرقة بفضولي، عازمة على معاودة السؤال بشكل آخر في أقرب فرصة.

استقلت خالتي في شقتها بعد تعيينها معيدة بكلية الفنون الجميلة بشهرين، تقول عن جدي هو الوحيد الذي لم يعارضها، أخوالي أقاموا الدنيا ولم يقعدوها لفترة لا بأس بها.

كانت خالتي لا تزور جدي إلا في الأعياد رغم أنهما يسكنان في نفس المدينة، تقبل يده فيقبل جبينها، ويقول : تعالي عيشي هنا، تهز رأسها في صمت، فيهز رأسه متنهداً: براحتك

أمي وأبي لم يكونا يزوران خالتي نهائيّاً، وكانت هي تزورنا أحياناً على فترات متباعدة ولا تمكث طويلاً.. وبالنسبة لي أنا وإخوتي لم تكن زيارتها أمراً مطروحاً للمناقشة من الأساس.

كان أبي يعاملها بمزيج من الإعجاب والشك، وكانت أمي والتي تصغرها بحوالي عشرة أعوام تحبها وتغار منها أيضاً.

أول ما بدأت أزورها بمفردي كان عند التحاقي بكلية الفنون، فكون منزلها قريباً من الكلية بالإضافة لمكتبها الهندسي الناجح يسرا لي بالتأكيد التعرف عليها عن قرب

في بيت خالتي كانت الدنيا أكثر بساطة، أمي لم تكن تسمح لي بدخول المطبخ ، وإن سمحت فبتعليمات ومحاذير عديدة، فهي لا تحب شيئاً في غير موضعه.. أما خالتي فمنذ اليوم الأول أشارت للمطبخ وقالت : اتصرفي!

لم تعمل خالتي بالتدريس في الكلية سوى نصف عام دراسي، قالت لي إن المشكلة الأساسية في التعامل مع الطلاب تكمن في كيفية نطقها ب “صباح الخير ” كانت تلك الجملة هي التي تحدد كيف سينظر لها الطلاب بعد ذلك وكيف سينصتون لما تقول، لذا يجب أن تخرج عالية وقوية وواضحة، وبها شيء من الاستعراض وربما حب السيطرة.

خالتي كانت تنطقها بصوت خافت وعلى عجل، وتشك أن أحداً غيرها يسمعها.. حاولت أن تدرب نفسها أمام المرآة كثيراً دون جدوى.. لم تكن صباح الخير هي عائقها الوحيد..قالت لي “العيون ”  أكره النظر في العيون..أكره تفحص نظراتها وتحليلها، أتجنب النظر إليها لأنني دائماً أرى ما لا ينبغي رؤيته.. العيون مفاتيح، وأبواب.. لا أحب التفرس فيها..كيف تستطيعين السيطرة على أشخاص لا تحبين التفرس في عيونهم ؟

كانت هذه الأسباب التي حاولت بها تفسير عدم قدرتها على الاستمرار في الكلية وتفضيلها العمل في مكتب استشاري صغير، سرعان ما استقلت عنه بعملها الخاص..

هكذا كانت تحاول أن تتقبل كونها شخصية انطوائية أو عجزها عن التواصل مع الآخرين دون أن تشعر أن هذا ينقص من قدرها.. لكن الآخرين كانوا يصنفونها كشخصية ” براوية ” صعبة المراس، صعبة الإقناع، صعبة الإرضاء.. ربما كانت تلك مشكلتها الأساسية فهي لا ترضى بأنصاف الأشياء.. تريد كل شيء مكتملاً وقاطعاً..لا تحب نصف الابتسامة وتضحك بأعلى ما فيها.. وحين تستسلم للبكاء تنتحب حتى تظن أنها لن تفيق أبداً.. كانت تريد كل شيء مكتملاً أو لا شيء إطلاقاً..وربما لهذا نجحت في مجال التصميمات الهندسية..فكل تصميماتها كانت من الدقة والإتقان ما منحها شهرة كبيرة في وقت قصير..

لم تفتح لي خالتي قلبها إلا حين أتيتها باكية ذات مساء، لأفترش ركبتيها وأترك دموعي التي حبستها طيلة النهار عن عيون أمي وأبي..أحكي لها بصوت منتحب عن مراد زميل الدراسة ورفيق الحلم الذي ابتعد فجأة..

أكان يجب أن ترحل يا مراد لأعرف قصة الصورة..ثمن باهظ دفعته لحكاية…

-ماذا كان اسمه يا خالتي ؟

تنظر إلي بعتاب ولكني لا أتوقف عن التساؤل

-ألم تريه بعد انفصالكما أبداً ؟

-لم أره بعدها لأنه مات

دق قلبي بعنف، فها هي قد بدأت أخيراً تتكلم عنه

-وهل رفضت الارتباط ثانية بسببه؟

-لم يكن هناك رجل يستطيع أن يملأ عيني غيره

-ولكنك قصصت الصورة

-قصصتها قبل أن يموت..لم يخبرني أنه سيموت

قالتها وانفجرت باكية لأكف أنا عن السؤال والبكاء.

……………

*من مجموعة “حيل للحياة “

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون