كنت أعرفه جيداً، كان ذلك منذ وقت طويل وكدتأنسى اسمه معظم الأحيان. أحياناً أتذكره كأن ذلك كان في الأمس، أحياناً ثانية لا أتذكره أبداً. الرجل الذي يعزف على الهارمونيكا. كان يرتدي قميص بوب ديلان غالب الأيام، يملك شعر بنياً طويلاً، يضع قراطاً في أذنه اليسرى.
أمسكه الأمن الداخلي للنظام السابق أكثر من مرة، وبعد سقوط النظام أمسكه المسلحون من النظام الثوري الجديد أكثر من مرة.
«ما أنت؟» كانوا يهزؤون به.
«أنا لا أحد،» كان يقول لهم.
يضربونه، يهينونه، يذلونه، لكنه في كل مرة يخرج مبتسماً كأنه انتصر في لعبة ما. وخلال الليل يصعد إلى سطح المنزل ويعزف على الهارمونيكا الحمراء الفضية خاصته.
«إنها من نيو أورلينز،» قال لي ذات ليلة، «كانت لجدي،» صدقته. كلانا صدقناه. أنا وصديقي الآخر الذي نسيت اسمه هذه اللحظة. لقد مات منذ مدة طويلة. نسيت متى بالضبط.
لم يكن صديقي الميت يملك الكثير من الأصدقاء. كنت شبه صديقه الوحيد. أمه بقت وحيدة مع أخته الصغيرة. أبوه مات بسرطان الرئة قبله. «أبي تعذب كثيراً،» قال لي، «لكن أتعرف شيئاً؟ أنا سعيد أنه مات.»
«لماذا؟» سألته.
«لقد أفلسنا بسبب علاجه،» قال، «وأتعرف شيئاً آخر؟ أبي أناني، إنه يعلم ظروفنا الصعبة، وأن كل ورقة نقدية نملك مهمة جداً بالنسبة لنا، لكنه بالرغم من ذلك صرف كل نقودنا على علاجه، وعلاجه لم يكن لينقذه من الموت، كنت أعرف ذلك، أنا لست غبياً، أنت تعلم ذلك، السرطان لا يمكن علاجه. أنا لست غبياً، لكنني مفلس.»
نسيت أسماء الكثيرين. هذا سيء، أعلم ذلك. لكن في المقابل آخرون نسوا اسمي أيضاً. هذا أعتقد يغفر لي.
أتى أبي ذات مرة أمام منزل الرجل صاحب الهارمونيكا. أخرجني من هناك، وقادني بالضرب أمام الناس في نصف الظهيرة إلى منزلنا. علاقتي مع أبي سيئة، لكنه رجل جيد في حقيقة الأمر. أبي كان يرفض أن أملك أصدقاء بمثل هذا النوع، كان يريدني أن أكون مثله، خنوعاً وأرتدي سروال قماشي وأنظر لأسفل وأكون مثلهم. كرهت أبي لفترة، ثم توقفت عن كرهه. ليس ذنبه أنه هكذا، حسناً بعض الذنب يقع عليه، أعني الكثير من الذنب يقع عليه، لكن لا بأس، هو أبي وأنا لا أملك خياراً آخر. وفي النهاية هناك العديد من الأباء الآخرين أسوء بمليون مرة من أبي.
والد الرجل صاحب الهارمونيكا مثلاً، لقد كان إنساناً حقيراً بشكل لا يصدق، كأنه قد ولد من فرج حقارة العالم أجمع، أخبرنا كل شيء عن والده. كيف كان يضربه هو وأمه. حسناً الضرب شيء طبيعي في مجتمعنا الشرقي، العقيدة الأبوية التي يؤمن بها كل الأباء هي كالآتي:
“الأب يمتلك العائلة بكاملها، ويعاملها دائماً على أنها من ممتلكاته الخاصة، يستطيع بيعها والتصرف بها كيفما يشاء؛ مثل الماشية.”
لكن والد الرجل صاحب الهارمونيكا لم يتوقف عند الضرب والشتم والإذلال فقط. كان يقوم بأفعال لا يمكنني ذكرها، أشياء تفوق كل ما عهدته من قبل، كل ما سمعته أو شاهدته أو جربته. شعرت بالشفقة اتجاه الرجل صاحب الهارمونيكا وأمه، وشعرت أنني محظوظ لأنني أملك والداً مثل أبي، لكنني في ذات الوقت تمنيت لو كنت أملك والداً أفضل من أبي.
عندما مات والده، لم أرى مثل هذه الابتسامة من قبل على وجهه، كانت ابتسامة عظيمة مثل ابتسامة رجل فقد عذريته لأجمل نساء العالم عشرة مرات متتالية في ليلة واحدة،«كأن السماء أمطرت ملايين النساء العاريات لي فقط،» قال لنا ذات مرة، «وليس لأحد آخر!»
لا أحد يختار والده. لا أحد يختار والدته. لا أحد يختار عائلته. ولو أعطوا الرجل صاحب الهارمونيكا الخيار لما اختار أن ينتمي لعائلة على الاطلاق، هذا ما اعتقدته عندما كنت جالساً معه أثناء أيام العزاء.
ذات يوم قتلت غريغوري سامسا، كان صرصوراً يشبه فرانز كافكا يسير على ساقي. كنت جالساً مع الرجل صاحب الهارمونيكا، لوحدنا، صديقنا الآخر بدأ يعمل وتوقف عن الدراسة ليعيل عائلته بعد وفاة والده.
«ما رأيك بالثورة؟» سألني الرجل صاحب الهارمونيكا.
«لا أعرف، أنا لا أفهم هذه الأمور. لكن أبي يظن أنها شيء جيد.» أجبته.
«أبي الوغد، لو كان على قيد الحياة، لكان ظنَّ أنها شيء جيد أيضاً.»
«كيف تعرف هذا؟» سألته.
«أنا أعرفه، لهذا أنا ضد هذه الثورة، في الحقيقة أنا ضد كل شيء ولست مع أي شيء، ولا مليون ثورة يمكنها أن تغير ذلك،» أجابني.
«إذا أنت ضد ارادة الشعب لأن والدك لو كان حياً لكان معه؟»
«أجل، لا يوجد أبسط من هذا، فأنا لست دابة تمشي على أربعة في قطيع ماشية!»
بعدها بدأ يعزف على الهارمونيكا، أخرجت سيجارة وأشعلتها، كان جيداً حقاً على تلك الهارمونيكا، أفضل من كل السجائر التي دخنتها طوال حياتي. ظللنا صامتين لمدة طويلة، بعدها ودعته وعدت للمنزل. لم يكن الرجل صاحب الهارمونيكا يخجل من إبداء رأيه أمام الناس، بالرغم من كونه منبوذاً، مُحَتقراً، ويبدو مثل المدمن المتشرد. أخبرته أكثر من مرة أن يتوقف عن إبداء رأيه لأي أحد، وأن هذا سيسبب له المشاكل ولربما الإعتقال في إحدىالسجون التي تتكاثر بالإنشطار الثنائي البسيط.
كنا ثلاثنا، أنا والرجل صاحب الهارمونيكا وصديقنا، الأشخاص الوحيدون في الحي الذي يفهمون مسألة الموسيقى، المعنى، الروح، الخلوة الإنسانية الصافية المتآلفة مع العالم وسط نغمات الألة عند اليد المناسبة.
كنا نسمع الروك آند رول ونرتدي قمصان فرقنا المفضلة ونعزف فوق سطح منزل رجل صاحب الهارمونيكا كل خميس، ولم نكن نذهب لنصلي صلاة الجمعة أبداً. لم نكن غير مؤمنين، لكن إيماننا كان مختلفاً، كانوا يقولون لنا أن الموسيقى حرام، وأن الله حرم الموسيقى لأنها من فعل الشيطان، هذا الشيء لم يتغير بعد الثورة، الرجل صاحب الهارمونيكا كان يقول لهم دائماً قبل الثورة وبعدها:
«أنا شيطان، والآن ماذا تريد يا رجل؟»
كان أشجعنا، كأنه ابن الألم أو نصف إله أو شيء كهذا. كنت أخاف الألم. كنت أغار منه ولو لم أعترفله بذلك في أية مرة.
كبرنا، أنا وصديقي الميت، مر نصف عقد على الثورة، ولم نعد نقابل الرجل صاحب الهارمونيكا. لقد خنته، خناه، هكذا كنت أعتقد عندما أتذكره نادراً. فلحقتنا لعناته ومات صديقي. أتذكر أنه مات مقتولاً. كيف ولماذا، لا أعرف أو أنني لا أتذكر. لقد نسيت الكثير من الأشياء. أعتقد أن ذلك أفضل، أن أنسى الكثير من الأشياء، هذا سهّل عليَ الاستمرار في التفاهة التي كنت أظن أنها غير ذلك.
أتذكر أنني كنت واقفاً مع الجموع على قبر صديقي، عندما رأيت الرجل صاحب الهارمونيكا، أصبح هزيلاً، وجهه شاحب، لكنني شعرت أنه لم يفقد قوته بعد. ماتزال تلك الهالة الارجوانية التي كنت أراها دائماً حوله موجودة.
“شيطان الديب بربل،” لقب نفسه ذات مرة. ضحكنا على هذا الاسم لكنه كان يليق به. كل شيء كان يقوم به كان يليق به، كان مثل دايفيد بووي، لا يوجد ما لا يليق به في هذا العالم. ربما كنت وصديقي وحدنا من كان يفهم ذلك. لكنني أصبحت وحيداً. اعتدت على الأمر مع الوقت.
اختفى بعد الجنازة. أردت لقائه، إلا أنني لم أتجرأ على ذلك. شعرت أنني خنته. منعنى هذا من التواصل معه بأية طريقة.
أبي لم يعد كالسابق، أصبح ليناً أكثر. وهذا أمر جيد. انتصار لنا كعائلة. بدا أكثر لطفاً، وأكثر مرونة في التعامل معنا، ربما لأنه بدأ يخاف منا، أنا واخوتي، اوه لقد كبرنا أيضاً، الوقت يفعل بك ذلك، يجعلك تكبر، تتغير، تصبح أكثر جرأة، شجاعة، أحياناً لا، أحياناً نعم.
الرجل صاحب الهارمونيكا تغير هو الآخر، أنا تغيرت، أصبحت وغداً، لئيماً، كاذباً، مثلهم الذين أردت في السابق أن أكون مختلفاً عنهم بأية طريقة ممكنة.
أحبتني الفتيات لأنني أصبحت هكذا، فقدت عذريتي مع احداهن ثم ثانية وثالثة، أصابني السيلان في إحدى المرات من غانية في بيت دعارة بدولة مجاورة، كان ذلك فظيعاً عندما وضع الطبيب الإبرة في رأس قضيبي لكنني شعرت أنني أفضل بعدها.
بدأت أعمل كموظف في مصرف، وكنت سأتزوج بعد ستة أشهر، من فتاة تقية مؤمنة غبية. أجل، لقد أصبحت مثلهم، أحرقت قمصان الروك آند رول في ظهيرة يوم جمعة، وخضعت للعدو، أصبحت خانعاً، توقفت عن الاستماع لموسيقى الروك آند رول منذ فترة طويلة، أصبحت أسمع الموسيقى التي يستمع لها أغلبهم، موسيقى شعبية وبعض الأغاني العربية الرائجة وموسيقى التكنو والهيب هوب، أصبحت هراءً. تركت الجانب الآخر.
كان ذلك رهيباً، سيئاً جداً، لكنني اعتدت، كان يجب عليّ ذلك، اعتدت على الأمر لحد أنني نسيت اسمي ذات مرة، نسيت من أنا؟ من أنت؟ لماذا بدأت ترتدي الزي الشعبي القبيح وتذهب لتصلي صلاة الجمعة؟ راودتني هذه الأسئلة، سمعتها بصوت الرجل صاحب الهارمونيكا، صوت الهارمونيكا الحمراء الفضية صاحبَ هذه الأسئلة.
أنت هناك، أجل أنت، لا تعتقد أنك أفضل مني!
قبل أن أتزوج قررت دعوة الرجل صاحب الهارمونيكا لزفافي، كان صديقي في النهاية وكان يجب عليّ أن أدعوه. كنا قد انتقلنا من الحي إلى حي آخر شرق المدينة منذ فترة طويلة.
خرجت من المصرف باكراً ذلك اليوم، وقدت السيارة إلى حينا القديم، كل شيء كان قد تغير، الثورة التي لم يؤمن بها الرجل صاحب الهارمونيكا والذي مات نتيجتها صديقي غيرت كل شيء، للأسوء، للأفضل، هذا يعتمد على مدى حظك واسم عائلتك.
اوه، أجل، تذكرت لماذا مات صديقي، كان لقب عائلته مثل لقب عائلة أحد رجالات النظام السابق، فأمسكوا به ذات يوم، عذبوه،ومات. بكل هذه البساطة. كانت تلك غلطة وقد أمسكوا بالفاعلين لكنهم خرجوا بعدها بأسبوع، فالثوار لا يمكن المساس بهم. الثورة تنتهي عندما يُسجن الثوار. صديقي كان من منطقة آخرى والمطلوب كان من منطقة آخرى، الجهل قتل صديقي، مثلما أفلس الجهل عائلته. لم يكن محظوظاً في حياته أبداً.
شعرت أنه كان من الواجب عليّ أن أتزوج أخته الوحيدة وأرعاها مع أمها، لم يكونا يملكان أحداً، ذاك كان ليكون التصرف الصائب، لكنني لم أبالي، تباً لذلك، أنا لا أستطيع أن أقوم بأي عمل صائب، لا أعرف كيف، ذلك شيء ليس بارادتي.
نزلت من السيارة وطرقت على الباب. انتظرت عدة دقائق. لم يفتح أحد الباب. ثم قررت الرحيل ونسيان الأمر. ثم فُتح الباب.
«مرحباً، من تريد يا سيد؟» قالت.
«أنا صديق ابنك، أنا ابن الأستاذ قاسم،» قلت لها.
«اوه، اوه، مرحباً، أهلاً بك، لقد مضى زمن طويل،» قالت، «كيف حالك وحال أمك وأبوك واخوتك؟ لقد اشتقنا إليك.»
«الحمدلله، جيدون،» قلت لها، «كيف حالك يا عمتي؟ وكيف حاله؟»
«الحمدلله، جيدين، نعيش اليوم بيومه مثل الجميع،» قالت، «تفضل بالدخول، تجده فوق، على السطح، أنت تتذكر الطريق أليس كذلك؟»
«أجل، أجل يا عمتي، كيف لي أن أنسى؟» قلت لها.
دخلت المنزل، أصبح هناك بيت زجاجي به أزهار مكان المخزن الذي كان يخزن فيه والده «قمامته» كما قال لي الرجل صاحب الهارمونيكا ذات مرة. استطعت رؤية الأزهار، كانت جميلة، وكانت هناك شجرة عنب وليمون وشتلات أزهار وعدة سلاحف وقطة بيضاء صغيرة تنظر لي وقطة حمراء متكاسلة على قطعة خشب وسط الحديقة وبعض العصافير في قفص ذهبي، وثلاثة غيتارات خشبية قديمة معلقة على الحائط.
المكان كان يبدو جميلاًـ كأنه جزء من جنة أحد الهيبيين، أمه كانت تبدو جميلة، ترتدي فستاناً أبيضاً لطيفاً، شعرها أبيض تتوسطه خصلات صغيرة من الشعر الرمادي، كانت جالسة على العشب الأخضر تخيط الجوارب. كانت تبدو مثل إحدى الهيبيات من السبعينات أو عرافة شرقية من قرون ما قبل الإله الواحد.
«المكان أصبح جميلاً يا سيدة مريم،» قلت لها.
«شكراً لك يا ابني، لقد عملنا عليه بالقليل الذي نملك،» قالت مبتسمة، «ابني فعل كل شيء تقريباً، أنا ساعدته فقط، كانت فكرته.»
أكملت سيري اتجاه السلالم في نهاية فناء المنزل، تعلوني الصدمة والبهجة في آن واحد، حقاً، لقد كان المكان جميلاً لهذا الحد، كان عليك أن تراه.
صعدت السلالم، وجدت باب سطح المنزل مفتوحاً، دخلت ورأيته. كان جالساً على كرسي خشبي أمام طاولة خشبية وأمامه مجموعة من الكتب وبجانبهم الهارمونيكا.
وقف الرجل صاحب الهارمونيكا وحدق فيّ، سار نحوي وسرت نحوه، سلمت عليه، لكنه حضنني، لم يعد هزيلاً، لكنه أصبح كبيراً في العمر، كان يرتدي نظارات طبية وقميصاً ارجوانياً، والهالة الارجوانية حوله كانت مشعة أكثر من قبل. كان نضراً، وكنت أبدو أمامه كالوغد، شيطان الديب بربل أصبح ملاكاً. شعرت أنني رجل قذر دون هالة. خائن دون هالة. حقير فارغ دون هالة. كتلة من اللحم والعظام بلاجدوى، قمامة أحد الأوغاد ولا أساوي أي شيء.
«هل مازلت تقتل الصراصير التي تبدو مثل فرانز كافكا؟» قال لي وابتسم.
«يا رجل، لم يعد هناك أي صراصير في هذا البلد!» قلت له.
«الصراصير أصبحت ملوكاً، ونحن أصبحنا صراصير.» قال لي، ثم ضحك.
وجدنا الرجل صاحب الهارمونيكا ذات يوم يقرأ كتاباً فوق سطح منزله، سألناه ما هو بعدما ضحكنا كثيراً على مشهده وهو يحمل الكتاب بين يديه. قال لنا أنه وجده بين أغراض جده، والد أمه. والده ألقى بكل أغراض جده من المنزل ذات يوم. في الليل عندما نام والده تسلل خارج المنزل وأخذ معه ما يمكنه حمله من أغراض جده، إحدى هذه الأغراض كانت كتاب فرانز كافكا، التحول. كُتب عليه في أول صفحة فارغة:
«ذات يو قتلت غريغوري سامسا، كان صرصوراً يشبه فرانز كافكا يسير على ساقي.
س . ي.
1978»
اسمه جده كان سالم ياسين. والبيت كان ملكه. وقد أورثه قبل أن يموت لابنته، أم الرجل صاحب الهارمونيكا.
«كيف حالك؟ لقد مضى وقت طويل، رأيتك في جنازة فؤاد، لكنني لم أستطع أن أبقى طويلا، كان عليّ أن أعود للمنزل.» قال لي.
«أنا جيد، لا بأس، ولا داعي للتبرير، أنا مقصر معك أكثر، وأنا أعتذر على ذلك.» قلت له.
«لا بأس يا رجل، الحياة هكذا، هناك دائماً أسباب لكل شيء، ودوافع لكل شيء، وأحياناً لا يوجد شيء.» قال لي وابتسم.
أخبرته عن زفافي، سألني أسئلة غريبة، «هل تحبها؟ هل ذوقها مختلف عنهم؟ هل تعرف من هو فرانز كافكا؟ هل تسمع الروك آند رول؟»
لكنها كانت عادية. كانت تقية ومؤمنة، من الأكيد أن ذلك يُحسب كشيء ما.
«التقوى، هذا أمر مبالغ فيه، الحقيقة والتقوى لا يتقابلان في نقطة واحدة البتة،» قال لي.
«لم أفهم،» قلت له.
«ستفهم مع الوقت،» قال لي.
«لقد تغيرت كثيراً يا رجل، أصبحتَ لا أعرف كيف أقولها، تتكلم بطريقة مختلفة،» قلت له.
«الوحدة يا رجل، الوحدة تجعلك تفكر في كل شيء،» قال لي، «في البداية تؤذيك الوحدة، تجعلك تؤذي نفسك والناس حولك، ثم تتوقف عن إيذاء الناس حولك وتستمر في إيذاء نفسك، تصل إلىى حافة السقوط، ترى الهاوية، فتراك، فتصبح الهاوية، قرأت ذلك في كتاب لرجل ألماني، ثم بعدها تعتاد، وتختار هل ستظل هكذا طول عمرك؟ أنا اخترت أن أستمر في المقاومة، مقاومتهم، ثمن ذلك هو الوحدة، لكنك تعتاد عليها فتصبح صديقك الوحيد المخلص، إلهك، هناك الكثير من الأشياء الأكثر أهمية منهم، البشر أقصد، ولديّ كفايتي من البشر، المرأة العجوز التي تخيط الجوارب تحت وأنا، وهذا يكفيني.»
«ألا تريد الزواج؟ عائلة؟» سألته.
«لا أعتقد، ربما وربما لا، أنا أخطط للرحيل منذ فترة، وسأقوم بذلك قريباً، سأتنقل من مكان لآخر ولن أبقى في مكان واحد للأبد، وبجانب ذلك أعتقد أنني بدأت أغفر له على ما فعله بنا، الشر الباقي على قيد الحياة لا يمكنك أن تغفر له، الشر الذي لم يعد موجوداً يمكنك أن تغفر له مع الوقت، الزمن شيء عظيم لتضيعه على شيء تافه مثل كره رجل ميت،» قال لي.
في نهاية حديثنا، أخبرني أنه سيحاول أن يأتي لزفافي، لكنني كنت أعرف أنه لن يأتي، لقد صنع الرجل صاحب الهارمونيكا عالم خاص به، أصبح خارج المجتمع الذي أصبحت أنا جزء منه عندما تركته لوحده.
كرهت أبي، تمنيت لو كان مثل والده، لأنني أردت أن أكون مثل الرجل صاحب الهارمونيكا. ندمت أنني أحرقت قمصان الروك آند رول خاصتي. ندمت أنني حطمت الغيتارة خاصتي. ندمت أنني قطعت علاقتي مع فؤاد والرجل صاحب الهارمونيكا. شعرت أنني خائن وتمنيت أن أختفي للأبد، تمنيت لو كنت شجاعاً.
تزوجت بعدها بأسابيع. كانت امرأة طيبة وتقية. رائعة في الفراش. كرهتها، ليس كل شيء فراش وأكل. كرهت ابني الأول الذي أسميته على اسم والدي، كان قبيح الشكل. تظاهرت أنني أحب ابني الصغير. تظاهرت أنني أحب زوجتي. شتمتها وضربتها عندما كنت غاضباً. كانت وفية. امرأة حمقاء. لم تكن تقاوم. أردتها أن تقاوم. لكنها لم تفعل ذلك. استمريت في العيش هكذا لسنة أو أكثر. العيش في البلد أصبح أصعب الآن. فكّرت بقتل ابني وزوجتي أكثر من مرة.
عندما أنظر للمرآة كل صباح، أرى الرجل صاحب الهارمونيكا. في أخر حديث لنا، طلبت منه أن يعزف على الهارمونيكا. تذكرت تلك الأيام. عندما كنا نرتدي قمصان الروك آند رول خاصتنا، الرجل صاحب الهارمونيكا كان يرتدي قميص بوب ديلان كعادته،وأنا نسيت ما هو القميص التي كنت أرتديه، لكنه كان رائعاً بلا شك. كانت لدينا أذواق موسيقية مختلفة في الروك آند رول، لكننا كنا نفهم أن الموسيقى هي التي جعلتنا نقاوم.
ذات ليلة بينما كانت زوجتي نائمة، استيقظ ابني الصغير، بدأ يبكي، نهضت من السرير وحملته لأحاول تهدئته، جلست على الكرسي وأنا أحمله بين يديّ، لم يتوقف عن البكاء رغم كل محاولاتي، ثم فكرت، «ماذا سيفعل الرجل صاحب الهارمونيكا لو كان في محلي؟»
«أجل، أجل، كان سيعزف له لحناً جميلاً،» قلت في نفسي.
…………………………………………
*كاتب ومترجم من ليبيا