الكلب الرّمادي

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سفيان سعيداني 

* إلى روح المنسيّ الصّادق هدايت، الذي كلّما قرأت له قصّة الكلب الشّريد إلاّ وبكيت، فصغت على إيقاعها الحزين هذه القصّة

مذ رُمي في الشّارع وتخلّت عنه الأيادي التي علّمته أن يأكل بأدب وهو يجوب الأزقّة حيرانا، تسوقه غريزته نحو القمامة الملقاة على أطراف المنازل وتنهاه اللّباقة، هو كلب كثيف الشّعر رماديّه، عجوز، تربّى في كنف الدّلال والعزّ صبيًّا، ولمّا هرم ألقي في الشّارع طريدا، كرداء فاتن يحفظ و يغسل، ويوم يبلى يقذف كالنّفاية .

اقتادوه خارجا أمام البناية وفكّوا طوقه فلم يستطع أن يرحل، ولكنّه رحل لمّا ركلته تلك الأقدام التي لطالما تشبّث بها وداعبها، أقدام تربّع بينها، حينها فقط أحسّ الكلب الرّماديّ أنّه نفاية لا بدّ أن ترمى، رحل مسرعا وترك وراءه أنينا من ألم .

أضناه الجوع، مضت عليه أيّام كمزامير من صراخ و لعنات، يتسكّع نهارا بين الأسواق و الممرّات، يقيل قليلا في أحد الحدائق متخّذا مكانا خفيّا لئلاّ تركله أحد الأقدام الأخرى التي ما أشبعت غليلها منه، ينام ثمّ يستيقظ هلعا، وفي اللّيل يتّقي الشّارع ويتمدّد أنَّا يضنيه التّعب من السّير وهو لا يدري متى يستيقظ آنًّا تحت أحد الرّكلات، لا يدري مقدار الألم الذي سينهال عليه من أحد الأحذية، لا يدري أيّ حذاء سيكون الأكرم في ايقاضه، أحذاءٌ رقيق لسيّدة أو حذاء محدّب لموظّف أو حذاء جنديّ ككتلة من الصّخر، صارت بطنه كيقطينة هامدة .

صارت حياته أشبه بجحيم، كلّ يوم يمرّ إلاّ و سمعت فيه الآذان عوائه، وانهال السّباب عليه كالمطر، وهو يسير حيرانا لا يدري متى ينتهي كلّ هذا أو ينقضي .

أرهقه الحرّ، و أدمت وجهه حجارة تراشقها الأطفال بها، كانت هيئته مقرفة، هزل إلى حدّ لا يصدّق، وطلاه العرق و الدّم، و تحت فروه الكثيف و الوسخ تخاله العين عظاما دسّت في كبّة من الصّوف .

كانت آخر أمنياته في ذاك اليوم شربة ماء، مضى يجوب الشّارع مترنّحا، يائسا، مع كلّ ركلة يتلقّاها يسقط دون أن ينبس، ثمّ يستيقظ في صمت و يمضي، ومع كلّ حجر يصيبه، كان يكتم أنينا، ثمّ يمضي، كان آخر همّه شربة ماء .

جاب الطرّقات جميعا، بدت خطواته ترتخي شيئا فشيئا، وانتهى إلى قناة صرف، يندفع منها ماء قذر، تدحرج ككيس من أعلى الهضبة، نهض مرتعش القدمين و تقدّم، و لعق بلهف، ثمّ انتحى جانبا و تمدّد على بطنه الهامدة المتألّمة بعنف و أسبل ذيله، مددّ وجهه على الثّرى، و لأوّل مرّة تنزل من عينيه قطرات حارّة، لأوّل مرّة يخفق قلبه بتلك الشّاكلة و تحاصرته رائحة العفن و الذّباب و تهدّجت أنفاسه و أنَّ كأنّه يتوسّل … و مات، مات دون أن يفهم سببا لكلّ ما جرى .

………….

*كاتب تونسي

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون