أفريقيا.. الحكاية الأصلية

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

تُشرق أفريقيا كل صباح على العالم، بوجهها الصاحى، فيعرف أن فى عمره يومًا جديدًا، وتغرب فيعرف أن فى حياته سحرًا متجددًا، هى لا تتعمد أن تعلمه أىّ شىء، فقط تمارس حياتها بطبيعية، فيتعلم منها، يلملم ما يتساقط منك أفريقيا، ويُطعم روحه وجسمه.

أفريقيا، الصيّادة البدائية، الطريدة المستحيلة، التى لا يمكن الإمساك بها أو محاصرتها، الجريحة، النازفة، دون أن ينتهى دمها أو عطرها، هى الشغف، الجموح، المفتوحة على السماء والأرض والبشر، على التجربة، هى الأم التى تنجب أطفالها فلا تَعدّهم ولا تمنحهم إسمًا، لا يهم، يكفى أنها تعرفهم، ويعرفونها، تُطلقهم للعالم وقتما تحب، وتجمعهم لحضنها وقتما تحب، يعرفون أنها أروع أم، يمكن الاعتماد عليها دومًا، يعيشون فى حجرها حتى تقوى عظامهم، ثم ينطلقون، فلا تعاتبهم، تحبهم، ويحبونها، يعرفون أنها النهاية فى النهاية، أنها الروح الحية وسط كل الأرواح المتساقطة، الروح القوية، المستمرة، هى الحاضرة فى كل مكان على طريقتها، لا تخطئها العين، لا يخطئها الإحساس، يمكن تتبع خطواتها بالدم والعطر النازفين منها، برائحتها، مشيتها الحرة، أثر قدمها القوية، يمكن معرفة النار والنور فى عينيها من أبعد بُعد، تعرفها عندما يتحدثون عن أُم لا يذلها الجوع، لا يكسرها الألم، لا تفقد كبريائها، وتستعيد حياتها مرة بعد أخرى بطرقها الخاصة، بموسيقاها مهما كان القلب متقطّع وحزين، بصوتها الذى تردده خلفها مفردات الطبيعة، ويجول العالمَ بنفسه دون حاجة لهواء يحمله، صوت لا يعترضه شىء، لا يمنعه جدار، جدار؟ أفريقيا لا تعرف الجدران والأبواب، تعيش فى الخلاء، وتتبرع بدمها لمن تعرف ومن لا تعرف.

يا أفريقيا، وأنت روح حرة.

أفريقيا، وفيها كنوز الدنيا، لا يعنيها أن تبدو فقيرة، ولا أن تمشى حافية بملابس ممزقة، ما دامت قادرة على الرقص والغناء، ما دامت روحها الحارة تحتفظ بتوهجها وسطوعها، والشمس فى النهاية تطلع من عندها، القمر يولد كل ليلة على كفها، الماء ينبع بين أصابعها، الأشجار تزدهر على خصلات شعرها، والطعام ينبت فى صدرها حتى وإن كانت لا تأكل منه، فهذا ما تفعله كل الأمهات، لا يهم ما دامت أفريقيا قادرة على العرق، عصيّة على الترويض، لا مراس لها، ولا طريقة لسجنها، ليس لها مقبض ولا لجام ولا بوابة.

أفريقيا، الأم، القاسية، الحنون، لو انتهى العالم فيمكنه أن يبدأ حياته مرة أخرى من عندها، من شجرة تنبت فى أرضها، من حفنة تراب، من قطرة عرق تسيل فى ظهر امرأة تمشى تحت شمسها، أو حيوان يلعق أطفاله، يمكن للعالم أن يختبئ فى حضنها من خوفه وآلامه، يمكنه أن يفعل ذلك رغم أنها أحيانًا تكون ألمًا وخوفًا، لكن خوفها وألمها أصيلين، حقيقيين، ليسا خوفًا أو ألمًا الكترونيًا أعمى، بلا قلب، الخوف هنا لديه مشاعر، ويمكن التفاوض معه.

يا أفريقيا، وأنت لا تفقدين الأمل أبدًا.

أفريقيا، وحش حنون، حنان وحشىّ، الرائقة، الغاضبة، الوحشية، الخشنة، الجافة، المتقشفة، الناعمة، الشهوانية، الصلبة، العنيدة، الواقعية، الحالمة، الحلوة، المرّة، اللاذعة، الحريفة، تتحمل الضربات ولا ينكسر ظهرها، تتكسر ضلوعها فلا تئن، وتستعيدها سليمة فى الصباح، يتعثر السحاب فى جبالها وأشجارها، ويركض على سهولها وأرضها، باذخة الجمال والكرم والفرح والألم، صاحبة المزاج الوحوشى الجموح، تهدأ فتكون وسادة، تثور فتسيل بركانًا، هى الجنون والحكمة، السهر حتى آخر العمر، حلم لا يفارق الوجدان، جرح لا يؤلم ولا ينام، الجريحة، الظمأى، أنهار الماء والعطش، هى التى يأكل الوحش قلبها، هى التى ينقضّ قلبها على الوحش، يطارده، ويمضغه، هى صديقة الوحوش والطبيعة، وكل مفردات الكون، لا تروّض وحشًا، لا تقطع شجرة، لا تعدّل شيئًا فى أىّ شىء، تقبل الجميع على حالهم، ويقبلونها على حالها.

أفريقيا، الموهوبة للحياة، ولو أنها كانت للموت لماتت منذ لا أحد يعرف، لكانت قد غرقت أو احترقت، أو غاصت فى دمها النازف، لكنها لا تنتهى، تتألم وتداوى جراحها بالتراب والطين والماء، لديها من المطر ما يطفئ كل حرائقها، ومن الحياة ما يمنع موتها، لديها من الأغنيات والموسيقا ما يكفى، ومن الفرح، لكنها أيضًا، لا تحب أن تنسى آلامها، لا تريد أن تمحو حزنها، لا تطفئ حرائقها، أفريقيا تصنع من ذلك كله نغمتها الخاصة، وروحها المتجددة.

أفريقيا، ليست فى حاجة إلى تاج ولؤلؤة، هى حرة، حافية، طليقة اليدين، تنزف مرفوعة الرأس، تبكى واقفة وحدها على قمة أعلى جبل، لا تحتاج لأحد يربت كتفها أو يواسيها، تداوى نفسها، تتشبث بالحياة، وتتشبث الحياة بها، فيُكملان معًا، هى، الجميلة، الحرة، المسافرة على الطرقات البدائية القديمة، صانعة الطرقات البدائية القديمة، قلبها منقوع فى ضوء القمر والشمس والموسيقا والبهارات والألوان، العالم منقوع فيها، مُعتّق بها، تبقى حقيقية، أصيلة، خيالية أكثر من أىّ خيال، واقعية أكثر من أىّ واقع، وسحرية أكثر من أىّ سحر، تفتح يدها فتنطلق كل الاحتمالات، تركل سطح الأرض بقدمها الحافية، فيتدحرج ماس ولؤلؤ وحصى وملح وسكر وغبار ملوّن، تنثر شعرها فينزلق ليل ونجوم وترفرف طيور، تضحك فتزدهر الحياة فى كائنات العالم، تغمز بعينها فيتلألأ النور، ويزداد الليل عمقًا، هى الفصول الأربعة، وفصولاً أخرى اخترعتها للحياة.

يا أفريقيا، وأنت المنبع والمصب.  

أفريقيا، الجموع الغفيرة، الشعوب اللا نهائية، الفوضى العبقرية، النشوة التى توقظ الروح والجسد، فى أفريقيا كل شىء ممكن، يمكنك أن تكن ذئبًا، شمسًا، أغنية، نسرًا، عصفورًا، حقل حشائش، فاكهة، غابة، كائنًا خرافيًا، أو سرًا لا يعرفه أحد، هى الوضوح التام، الغموض المطبق، أحواض الدماء والألوان وعصير الفاكهة ورحيق الورد، حيث آلاف الأرواح تنجو كل يوم، آلاف الأرواح تهلك كل يوم، حيث اليوم أكثر من مجرد يوم، والوقت يمر بطريقة أخرى، يتوقف، يبطئ، يسرع، يرقص، يبكى، ويغنى، حيث الوقت يقضى هنا وقتًا أطول لأجل متعته الشخصية، وله حياة ملموسة، هنا، حيث كل الكائنات لها طريقة أخرى. 

أفريقيا، الأساطير، الأغانى البرية، الكائنات الخرافية، موسيقا الطبيعة الناعمة، الصاخبة، صراخ الريح وفرحها، الرعب، الأمان، المداواة بالتراب والماء والهواء والنور والأغنيات والرقص والأحضان العميقة، هى الأشباح، الأوهام، الأحلام، والحقائق المؤكدة، هى حبات المطر، كرات المطر، خيوط المطر، شموس تتدحرج فى الشوارع، أقمار تتقافز على أغصان الشجر، حيث تعيش القصص الخرافية، وتفنى الكائنات بطريقة ضد الفناء.  

أفريقيا، أن تشهق الروح بفرحة مرة، وبألم مرة، وبين المرات آلاف من المشاعر العميقة، أن تطير وسط الأجنحة، أو تعلق بخطاطيف، أن تجرى الروح على الأرض بقدمين حافيتين وتصعد الجبال والأشجار، تترك آثارًا عميقة وتنزف دمًا، أن يخفّ الجسد فيرفرف فوق المياه، ويلعب بجوار قوس قزح، أن تتمدد على خيط وهمى فى الهواء والرياح، وتتأرجح متعلقًا بخيوط المطر، حيث يمكنك أن تتنفس ملء صدرك، تتنفس فتسحب هواء خُلق حالاً، أو هواء تنفسته آلاف المخلوقات ولا يزال صالحًا لك، الحقيقة أنه صار صالحًا أكثر لأن مخلوقات أكثر تنفسته قبلك، أن تشرب الماء المخلوق حالاً، أو ربما سبحت فيه آلاف الكائنات، أو حتى ردّته من جوفها ولا يزال صالحًا لك، الحقيقة أنه صار صالحًا أكثر لأن مخلوقات أكثر شربته قبلك، أفريقيا، أن تظمأ، وينقطع عنك الهواء، أن تدخل رئتيك طيور جارحة، فيسكنك البعض منها ويغادرك البعض الآخر، لكنك فى كل الأحوال، تواصل الحياة بقوة، وبشكل أكثر حياة، لأن أفريقيا رغم أىّ شىء تواصل الحياة.

يا أفريقيا، وأنت قلب مفتوح.

تخرج أفريقيا كل صباح، وتعود مساءً وفى يدها عنقود قلوب تسيل منه الدماء على فخذها القوى العارى، أو تعود ومعها فرقة موسيقية تلقائية، بينما تسيل الموسيقا على جسدها كله، هى الفوضى العامرة، مرتع للكائنات كى تستعيد سيرتها الأولى، فرصة لأن يستعيد الجميع ذاكرته، هى المدى، الاتساع، الجَموح، الساخرة من الأبواب والجدران الشاهقة، تدهس كل ذلك بقدمها العملاقة، هى الليل، النهار، وبينهما جميع الألوان، وألوان اخترعتها لنفسها، هى التى اخترعت لنفسها شيئًا غير الليل وغير النهار ترتديهما وقتما تحب.

أفريقيا، حيث تمارس الحياة فحولتها، رقّتها، عنفوانها، وتسرد نفسها فى كل الصور والأشكال التى تحلم بها، لا حدود، ولا توقعات، هى، حيث تمتزج السماء بالأرض، الماء بالنار، الإنسان بالطير والحيوان، الموت بالحياة، الغناء بالأشجار والرياح، الآن بالغد، والأمس بأىّ وقت، الروح بالجسد، أنتِ أفريقيا، حيث يمتزج الكل بالكل، والجميع من الجميع، حيث أىّ أحد يؤدى إلى أىّ أحد.

يا أفريقيا، وأنت الحكاية الأصلية.

 

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار