تأملات

موقع الكتابة الثقافي art 27
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

جاد قرقوط

 صغيران كنا أنا وأنت حينها – وجهك مثل شهاب نير، وقلبي فضاء  يحتضن أذيال الشعاع الذي يتهادى خلف خطاك. أنا أتسلق الشجرة، وجسدك معفر بالتراب، وكلانا يرقص خلف خطايا الزمان. الغربان تحط  بعيدا، صرخاتها المشؤومة تتناهى إلى آذاننا، فتركض هاربا إلي، يا أخي. أحتضنك، أمسد شعرك الأملس بخيوطه الخضراء، ثم ننتظر قدوم اليوم التالي. والآن أنتظر عودتك إلى بلاد الشمس، لنبحث عن النحاس مجددا، وننثر البذور في أفلاج الأرض، وننتظر أن تنظر آلهة الخصب في شؤوننا. لا أملك شيئا لأقدمه بعد الآن، إلا الأيام التي أمضيناها سويا، وإني لأخاف غضب الآلهة، وأخشى على طفلتي عبلة من جبروت نارام سين. أحدثك الآن عن الموت، فالهلاك أرحم من الحياة. الموت رحمة من آلام الذاكرة، ويعرف الصمت والزوال: ((ضجعة الموت رقدة يستريح الجسم فيها/والعيش مثل السهاد)). الميت لا يشتمّ رائحة الورد ليحزن…الميت ينعم في سكينته. تحوّم فوقه الغربان، بينما تنهش طيورالرغبة أرواحنا. والغريب أن الميت لا يدرك الهلاك كما ندركه نحن الأحياء. غربتك، يا أخي، ضلالا لهذه الحياة البائسة. كيف تصنع في غربتك هذه؟

البارحة حلمت بالصحراء، بجمال تسير في أقاصيها، فوق الكثبان العبثية. رأيت السماء وقد ارتسمت على صفيحة وجهها تقاسيم حادة ومضطربة، وإذ بها تبصق ثلاثة أشخاص من أزمان غابرة، عبوسين ومكدّرين، حاملين في أياديهم سريرا، وعلى هذا السرير طفل رضيع يبحث عن الرغبات الضائعة في وسط  الصحراء. كم وددت أن أعلمه القراءة، كما مسح ذلك الملاك الرّباني الظلمة عن قلب النبي. آه يا أخي! وددت أن أعيره بعض الكلمات ليشير إلى الأشياء، ويهبها بعضا من المعنى، ثم يعيد تشكيلها لتصبح حياة، كما نفعل نحن البالغين، عسى أن يصب الماء في واحة البادية، فيكسر قليلا من ظمأ الرغبة. ولكنني، مع الأسف، كنت عاجزا عن الكلام، وذلك الغسق الموّار كاد يغرقني في ألوانه المجردة من الوجوه. وبعدما اقتربت من أحدهم، وأردت أن أمسح وجهه، غضب أحد الواقفين مني، لا أذكره تماما، ولكنه كان نحيلا ذو وجنتين بارزتين وبشرة خشنة. اختطف مني الطفل، وبدلا منه قدم لي الخبز، فاستيقظت! جسدي يتصبب عرقا، والبصيرة تنكر ما رأته للتّو!  

وكما ذكر ذلك الفيلسوف الصغير، ما تبقى، يا أخي، هو الصمت. الصمت. الذاكرة وأنت. أتتركنا هكذا! عد إلى بلادك أيها التّائه، فالقطيع لا يصلح دون الرّاعي.

مشكلة الغائب، يا أخي، أنه لا يشعر بمن فارقهم ، ومصيبة الحي أنه يشعر بالغائب وهو يتهاوى في خريف آفل. أكلما ابتعد جسد الإنسان أكثر، أصبح حاضرا في الذاكرة، ويدنو من القلب، ليمس باطن الروح. أتساءل، أحيانا، ماذا تفعل الجوزاء حين تنطفئ الروح ويقفر وجه الأرض من الشياه والأنام؟ أفكر في كل هذا فأمسي وحيدا، لا ملاذ لي. لا أحزن عليك بقدر ما أحزن على نفسي، فما أشد غرور الإنسان وأنانيته…ما المهم؟ ها أنا ذا أرثي السماء والمشاة والتراب!

 

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار