د. مصطفى الضبع
ناقد ضعيف المستوى يفوز بجائزة فيصدق نفسه ويروح يملأ الأرض كتابة (نقدية) ماهي بنقد ولا علاقة لها بالنقد ويروح يوسع الدنيا نقدا، وكتاب ضعيف المستوى يفوز صاحبه بجائزة فيصدق نفسه، ومقالات تسود عشرات الأعمدة حتى اختلطت الأوراق ليكتمل مشهد الفوضى وندور في حلقة مفرغة، كاتب يدشن ناقدا ليأتي دور الناقد ويرد له التدشين، مدعي النقد يدشن مدعي الكتابة فيتبادل الاثنان التعظيم والتكريم والتفخيم ويفقد النقد شأنه العظيم.
في ظل غياب النقد على إطلاقه ينفسح المجال للمدعين، ولا يجد الأدباء (من النوعية نفسها) إلا طريقة واحدة، منح البعض ألقابا نقدية وتضخيمهم حتى إذا قال هؤلاء شيئا عن أعمالهم فرحوا به وعدوه نقدا، وعندها يروح الكاتب يصدق نفسه معلنا في تكرار لا يمله أن الناقد فلان كتب عن الرواية، وأن الناقد فلان معجب بالرواية، ويتخذ ذلك كله ذريعة لتمرير كتابته كمن يحاول تبرئة مجرم فإنه نوع من الوهم يمارسه الأدباء ويصدقونه، تماما كالذي يتوهم قوة الخصم ليصدق نفسه قويا عندما يتغلب عليه.
لقد اشتكى الأدباء طويلا من غياب النقد أو من ضعفه أو من إهماله أعمالهم وكأنهم ينتظرون السماء تنزل عليهم جيشا من النقاد أو أن وزارة الثقافة ستصدر قرارا وزاريا بالإعلان عن وظائف نقدية للتعيين على درجة ناقد خبير أو ناقد كبير وتناسى الأدباء أن مهمة تعيين النقاد يتولاها الأدباء أنفسهم حين يوزعون الألقاب النقدية وتصاريح العمل النقدي.
ومع أن الجميع يعلن ذلك أو يمارسه بوصفه شكلا من أشكال المجاملة غير الضارة فإن أحدا لا يضع الأمور في نصابها أو يسمي الأشياء بأسمائها فلا يراه الكثيرون نوعا من الغش الذي تعارف عليه الجميع وتساهلوا فيه وكأنه أصبح قيمة اكتسب سموا لمجرد تغيير الاسم.
الجميع يجرمون الغش بأنواعه (التجاري – الأخلاقي – المهني) لكنهم لا يقرون الغش النقدي وهو أشد، وكأن تزييف الوعي وإهدار الذائقة وتدميرها مجرد دعابة يطيب للبعض أن يقوم بها في وقت فراغه.
إن تمرير أعمال ضعيفة المستوى وتزييف وعي قرائها ونشر أعمال سطحية الطرح (سأعود للنشر لاحقا ) وقبول أعمال ضعيفة حد التفاهة، والكتابة عنها لهو جريمة يعاقب عليها الضمير والحق والجمال، ولأننا نكتفي بقوانين للغش التجاري لا نفكر في وضع قوانين للغش النقدي أو الغش الفكري (لاحظوا لم أتكلم عن السرقة بعد) أو الغش القائم على المجاملة.
أقبل من الناقد أن يناقش عملا متواضع المستوى معتمدا موضوعية في التناول ، ولكن لا أقبل منه أن يكتب و يدشن ما ليس يستحق وما أكثر ما حدث ويحدث وسيحدث (دون مقاربة التشاؤم بدرجة ما وربما أقارب التفاؤل يوم أن نفكر في التخلص من حالات الغش المتكرر ).
على صفحات التواصل الاجتماعي انتشرت مقولة نسبت لأحد الأساتذة الجامعيين الذي كتب لطلابه رسالة معبرة ووضعها على مدخل الكلية في جنوب أفريقيا هذا نصها:
تدمير أي أمة لا يحتاج إلى قنابل نووية أو صواريخ بعيدة المدى..
ولكن يحتاج إلى تخفيض نوعية التعليم والسماح للطلبة بالغش..!!
فيموت المريض على يد طبيب نجح بالغش..!
وتنهار البيوت على يد مهندس نجح بالغش..!
ونخسر الأموال على يد محاسب نجح بالغش..!
ويموت الدين على يد شيخ نجح بالغش..!
ويتفشى الجهل في عقول الأبناء على يد معلم نجح بالغش..!
انهيار التعليم = انهيار الأمة.
وبعيدا عن صحة نسب المقولة أو ظروف كتابتها فإنها صادقة وصحيحة ودقيقة تنطبق على البشر والمجتمعات جميعها ولك أن تكمل الدائرة: تموت نصوص على يد ناقد نجح بالغش، وتحيا نصوص ميتة على يد ناقد نجح بالغش، وتموت أفكار عظيمة، وتفقد رسالات قيمتها وتنهار قيم، ويرتفع صوت الجدال العقيم، ويضيع الإبداع ويرتفع أصحاب أرباع المواهب ويتصدر معدومو الضمائر كل ذلك بالغش الذي من السهل أن تجد من يبرره حد التزيين.
إن قضيتنا ليست في حدوث الكبوة فهي سمة بشرية تمر بها كل مجتمعات العالم منذ بدء الخليقة، وإنما قضيتنا الكبرى أن أحدا لا يتحرك وأن أحدا لا يحترق قلبه ليغير وأن مسؤولا ثقافيا واحدا (وزاريا بالأساس) لا يشغل نفسه بقضية وعي أو قضية بناء عقل أو قضية تغيير حقيقي لثقافة مجتمع تكاتفت السينما الهابطة والأغنية الهابطة والإعلام الهابط على إفساد مقدرات ذائقته فراح يتقبل كل ما هو هابط بداية من التعليم في أدنى حدوده وطريقة معالجته الأمور والمشكلات اليومية في أسوأ طرائقها، ولننظر لنموذجين: نموذج شعبي يمثله رجل الشارع العادي وهو يقود سيارته ويحتك به شخص آخر فتنطلق مدافع الشتائم والجدال ويتحول الشارع إلى مشهد سيريالي من الفوضى، ونموذج الإعلام حين يناقش قضية خلاف مع دولة أخرى فتجد منصات إطلاق الشتائم وصواريخ الانتقادات المسيئة حد الابتذال لمطلقها قبل أن تكون مسيئة للمطلقة عليه، والنموذجان يتكرران في الوسط الرمادي، راجع صفحات الفيسبوك لمثقفين وأساتذة جامعة وطلاب ومهندسين وإعلاميين وفنانين و أطباء وفلاحين لتجد مستوى ما كان يليق بعاقل من لغة ماكان لها أن تسود لتصبح معجما يوميا نصدره للأجيال كأنها لم تكتف بما يصيبها من قتل ممنهج فيما يسمى بالعملية التعليمية وما تصدره لها وسائل الإعلامية وخاصة المرئية منها.
إنه الفايروس الذي يصيب الاثنين: لدى كل منهما ما يمنحه الحق في الادعاء، ولدى كل منهما القدرة على أن يمنح نفسه الحق في إصدار أحكام لا أساس لها من رصيد للعمق أو الفكر في جانبه الموضوعي.
(وللحديث بقية )