أزمة النقد أزمة الوطن (18)  ـ الوظيفة والرسالة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. مصطفى الضبع

يؤدي الناس أعمالهم وفق نظامين أساسيين يتحققان بفعل اعتناق كل منا لما يرتضيه منهما، يعتنق كل إنسان نظامه مؤمنا به دون محاولة النظر إلى نظام غيره، إنهما: نظام أداء العمل بوصفه رسالة، ونظام أداء العمل بوصفه وظيفة، في الأولى تعطي دون النظر للعائد، وفي الثانية تتاجر لأنك تتخلى عما بيدك لتحصل على مقابل تراه أثمن من وجهة نظرك، وهو ما يسوغ للبعض أن يتخلوا – بسهولة – عن الكرامة والشرف والمروءة والإنسانية.

في الوظيفة أنت تؤدي عملا لأجل المقابل فقط، عمل تؤديه بطريقة: على قدر ما يدفعون أعمل أو على الطريقة المصرية (على أد فلوسهم)، لاحظ ضمير الغائب في التعبير كأنك تنتقم من الجميع أو كأنك في مقابل الجميع تضع نفسك في كفة والعالم في كفة أخرى معتقدا أن كفتك هي الراجحة، في الرسالة أنت تؤدي عملك وأنشطتك الحياتية دون النظر للعائد، دون النظر لما ستحصل عليه أو سيترتب عليه من منفعة شخصية تعمل لأنك وفق الدين والشرع والإنسانية ومنظومة القيم المعلنة وغير المعلنة تدرك دورك القائم على العطاء دون مقابل ومتيقنا أن: أعظم الأعمال تلك التي تؤديها وفق مفهوم الرسالة لا الوظيفة، وأن الكارثة أن تعتمد طريقة الوظيفة فيما يجب أن تؤديه بطريقة الرسالة.

كل الأعمال صالحة لأن تكون رسالة نؤديها موقنين بذلك مما يترتب عليه الكثير من النتائج الإيجابية، غير أن هناك أدوارا لا قيمة لها إن لم نؤدها وفق منظور الرسالة: الأم – الأب – المعلم – الطبيب والممرض – أستاذ الجامعة – رجل الدين – المسؤول السياسي وغيرها من أعمال لا تصلح إلا بالمفهوم نفسه.  

من مظاهر فقدان الانتماء لوطنك أولا وللإنسانية ثانيا ولمجتمعك ثالثا أن تنظر إلى عملك وسائر أنشطة حياتك بوصفها مجرد وظيفة تؤديها كأنك تتخلص من عبء ثقيل ما تؤديه بطريقة آلية خالية من مظاهر الإنسانية وعلامات اليقين بأنك تؤدي دورا لصالح البشرية أو أنك إنسان يتحلى بقدر من الانتماء لعالم البشر.

الرسالة قيمة في حد ذاتها وهي غاية لا وسيلة أما الوظيفة فهي وسيلتك إلى تحقيق منفعة مادية هي في أدنى المراتب، الوظيفة تحقق الثمن، والرسالة تحقق القيمة والفارق بين القيمة والثمن كبير إلى أقصى حدود الفرق، إن حقنة لا يتعدى ثمنها الجنيه أو أقل قد تنقذ حياة إنسان هنا تكون قيمتها أكبر بكثير من ثمنها، وكل رسالة تحقق من القيم ما هو أكبر بكثير من مجرد ثمنها (إن اعتقد البعض أنها تقدر بثمن)

النظر للحياة من زاوية الرسالة يمنحك القدرة على إدراك العالم على اتساعه خلافا للنظر من زاوية الوظيفة حيث يكون العالم محصورا في المسافة الأشد ضيقا بينك وبين المقابل الذي تقصده خطواتك المهرولة.

إن حقيقة واضحة المعالم قوية المغزى تفرضها طبيعة الحياة البشرية تقوم على أن الأصل في الحياة هو العطاء، عطاء السابقين يحقق الوجود لللاحقين، وعطاء الآباء يحقق وجود الأبناء، وعطاء المخلصين يقيم الحياة بكاملها، بالجملة فإن كل ما يتحقق لك هو عطاء الآخرين، أن تسير في طريق ممهد فهو عطاء كل من عمل في تمهيد الطريق، أن تجلس في مكان آمن، مريح، صحي، محترم فكلها عطاءات ممن حققوها ووفروا أسبابها، اللقمة التي تمضغها مستسيغا طعمها ماكان لها أن تصل إليك لولا عطاء العشرات ممن زرع وسقى وحصد وطحن ونقل وخبز وووووو… عشرات أعطوا لتحصل على ما تمارسه ببساطة دون تفكير،شربة الماء، والسيارة التي تسعد باستخدامها، والهاتف الذي تعيش معه معظم وقتك، والملابس التي تتيه بجودتها، والقلم، و الأوراق والكتب والصحف والدواء ووووووو مئات من الأشياء التي تشكل قوام احتياجاتك اليومية.

إنهم جميعا يمثلون قطاعا كبيرا ممن يحملون لقب أصحاب الرسالات، وهم ليسوا فقط الرسل والأنبياء بالمعنى الديني وإنما هي قائمة – من رحمة الخالق – أن تكون قائمة متجددة في كل عصر وفي كل مكان، وكم نكون مخطئين إن حسبنا أن الحياة تقوم على هؤلاء الذين يتعاملون مع أدوارهم بوصفها وظائف، مجرد وظائف يؤدونها مقابل راتب أو أجر أو كلمة شكر فهؤلاء تزول عطاءاتهم بزوال المقابل.

عد إلى التاريخ، إلى الواقع المتعين، إلى دائرة حياتك الأضيق ستجد هؤلاء الذين تقوم عليهم الحياة فهم موجودون مادامت، وهم يمثلون الجانب المثالي أو الأقرب للمثالية في حياتنا، وهؤلاء صنيعة طبع أصيل صقلته عوامل تربوية وتعليمية فكان نتاجا كله خير غير أنك في المقابل ستكتشف أن الذين يعملون بطريقة الوظيفة ووفق قوانينها ومفاهيمها يمثلون الجانب الكارثي في الحياة بكاملها لأنهم يتعاملون بمنطق المقاصة كم سأحصل مقابل ما أقوم به من عمل، ماذا لو أن هذا المنطق اعتنقه الرسل والأنبياء والمصلحون والمكافحون والثوار( الحقيقيون منهم طبعا )و الشرفاء في كل العصور ؟ الإجابة معروفة بالطبع.

يمكننا أن نتخلص مثلا من مفهوم اللصوصية الذي يمكن أن نطلقه على موظف كبير فالقضية ببساطة تكمن في إنه ينظر إلى عمله بوصفه مجرد وظيفة يمن على من حوله بأنه يؤديها وتعمل بطانة السوء من حوله على تدشين المفهوم عبر تمرير عبارات من مثل إنك تتعب وتكد وإنك ثروة لا تقدر وإنك كنز الوطن المخبوء الذي لا يقدره أحد ( لطالبي المزيد والاستيضاح يرجى العودة لفيلم الواد محروس بتاع الوزير ففيه الكفاية حتى حين ).

إن كثيرا من مشاكلنا الإدارية والاجتماعية والمؤسسية وكثيرا من أسباب تردي واقعنا تكمن في إدارة تنظر للأمور من هذه الزاوية الضيقة لأننا ببساطة لا نقرأ الحياة وإن حاولنا أن نقرأ نكتفي بالحفظ دون الفهم.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (22)