أزمة النقد/ أزمة الوطن (20)

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 د. مصطفى الضبع

الإذاعة (1- 2)

لا شيء ينمي الخيال أكثر من: القراءة والسماع، تقرأ فتأخذك الصور إلى ما وراء السطور، وتسمع فتأخذك الأصوات إلى ما هو أبعد من ذلك حيث كيمياء الجسم تتفاعل بتأثير السمع أكبر من تفاعلها بالقراءة في تحريكها الخيال، وكلاهما يلعب دوره المؤثر في تنمية الذائقة الإنسانية ،ويكفي الإشارة إلى أن الذائقة العربية تشكلت وفق قوانين السماع منتجة ما يعرف بــ “الأذن الموسيقية”(اهتم الشعر العربي بالسماع فجاء عنصرا أساسيا مكونا لمعجم الشعر العربي على امتداد عصوره، وقد وردت المفردة في الشعر العربي ما يزيد على الألف مرة (1209 مرات) ، منها ما قاله البارودي رابطا بين السماع والذوق :

فَاسْمَعْ فَمَا كُلُّ الْكَلامِ بِطَيِّبٍ       وَلِكُلِّ قَوْلٍ فِي السَّمَاعِ مَذَاقُ)

ولو سألنا مثقفا أو مبدعا أو ناقدا عن مكونات شخصيته فإن القراءة والسماع سيكونان مكونين أساسيين في تكوينها وهو ما تؤكده آيات الذكر الحكيم، حين قدم الله السمع على البصر دائما كما في قوله تعالى ” وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُ )”  المؤمنون (78، وتمثل حالة الجنين تطبيقا عمليا على أهمية السمع(الجنين يسمع ولا يرى وتختزل حواسه في السمع)، ثم إننا نستطيع السماع في أوضاع ليست متاحة للرؤية.

ربما تكون هذه مقدمة صالحة لبحث عن فضيلة السماع بشكل عام، أو السماع وأثره في الشعر، أو توظيف السماع في التربية، غير أنني أعتمدها طريقا للوقوف على واحدة من إمكانياتنا المهدرة (الإذاعة) بوصفها واحدة من وسائل التثقيف والتربية والتعليم والحشد والتوجيه والترفيه والتوعية وتشكيل الرأي العام، كل ذلك توسيعا لمفهومين عصريين: الإعلام والإعلان.

تاريخيا بدأت الإذاعة المصرية بثها في 31 مايو 1934 قبل أن تصبح مؤسسة كبرى متعددة المحطات والقنوات (البرنامج العام – الشرق الأوسط – صوت العرب – إذاعة القرآن الكريم – الشباب والرياضة – البرنامج الموسيقي – الإذاعات الموجهة – القاهرة الكبرى – راديو مصر – الأخبار والأغاني – البرنامج الأوربي – إذاعة الكبار – إذاعة الدراما – إذاعة الكوميديا)

يشهد التاريخ أيضا على الدور الأهم في سياق الحياة المصرية أولا والعربية ثانيا (كان لحفل أم كلثوم في الخميس الأول من كل شهر دوره في تشكيل الوعي الأسري والترابط الاجتماعي وتشكيل الذائقة وتنميتها)، كما كان للإذاعة دورها حتى في سياق الإعداد للحروب التي خاضتها مصر و هو دور لا يقل عن دورها في حركات التحرر العربية والإفريقية ، ودور الإذاعات الموجهة في حضور مصر عربيا وأفريقيا ، مما كان له أثره في تدعيم دور الإذاعة الأساسي  الإعلامي والتربوي ، حيث التعليم والإعلام عمليتان إنسانيتان لا غنى عنها ، أولاهما غاية وثانيتهما وسيلة ، لكل منهما هدفه الموجه نحو الإنسان، يتطوران تبعا لتطور الحياة ليصب الاثنان في سياق تطور الحياة نفسها فلا تطوير لحياة مجتمع ورقيه دونما تعليم يتجاوز تقليدية الأزمنة السابقة ، وإلى جذر لغوي واحد (علم ) تنتمي المفردتان (التعليم / الإعلام ) ، ولا يتوقف التقارب بينهما في الانتماء للجذر اللغوي وإنما تتقارب الدلالة بينهما إلى حد تبادل بعض المشتقات المواقع ، ورد في لسان العرب : “وعَلَّمه العِلْم وأَعْلَمه إياه فتعلَّمه، وفرق سيبويه بينهما فقال: عَلِمْتُ كأَذِنْت، وأَعْلَمْت كآذَنْت، وعَلَّمْته الشيءَ فتَعلَّم، وليس التشديدُ هنا للتكثير………ويقالُ: تَعلَّمْ في موضع اعْلَمْ ”  .

ولأن اللحظة التاريخية وظروف المرحلة تتطلب الخروج عن نمطية الأداء وتحجر العقول والأفكار (يكفي أن تراجع كمية الألفاظ المهدرة للإنسانية التي ترتع في طرقاتنا ومؤسساتنا لتبحث عن وسيلة آمنة ومحترمة للسماع، سماع ماله قيمته، وما يستهدف مصلحة إنسانية) والحال هكذا فإن الفرصة سانحة لاستثمار واحدة من ممكناتنا التاريخية، (وما أكثر ممكناتنا المهدرة بفعل أفكار مغلوطة لا يختبرها أصحابها ويفضلون عليها أن الاستظلال بمظلة التقاعس).

ولأننا في حاجة ماسة إلى ثقافة من نوع خاص وأفكار من نوع فريد لتنمية حاسة الخيال التي نغالط أنفسنا إن قصرناها على الشعراء والروائيين، فالخيال مطلب إنساني لا غنى للبشرية عنه مادامت الحياة، لذا فإننا في حاجة للإذاعة ، للقيام بدور لا يقوم به غيرها .

الإذاعة تلك التي أهملها القائمون عليها ولم يهملها متلقيها، إن جمهورا كبيرا يستخدم الإذاعة فقط القائمون عليها يتذرعون بأنها خارج المنافسة بفعل تأثير الصورة وهو مالا يقوم على إحصاءات دقيقة أو بيانات معتمدة، فقط هي مجرد حجة يطيب للمتقاعسين التلويح بها تبريرا لأنفسهم قبل أن تكون تبريرا لتراجعهم عن المنافسة، وهي ذريعة تعطيهم الحق (أو يعطونه لأنفسهم) في التوقف عن التطوير والتحديث وإعداد الكوادر البشرية القادرة على أداء رسالة يؤمنون بها .

لقد أتاحت التكنولوجيا الحديثة للإذاعة مساحات أوسع للانتشار فلم يعد المستمع في حاجة لجهاز الراديو مما يمنح الفرصة بدوره للإذاعة أن تتربع على عرش الاستحواذ بالمتلقي معظم الوقت، لقد استكان القائمون على الإذاعة لفكرة تراجع دورها في مقابل التلفزيون دون محاولة استثمار المقومات أو البحث في عوامل القوة حفاظا عليها ونقاط الضعف لتنميتها .

تتخفف الإذاعة – بدرجة ما – من سيطرة القانون المصري المعروف “قانون الواسطة” المعروف جماهيريا بالاسم العلمي “الكوسة” فالذين يسعون للشهرة والأضواء لا يستخدمون ممكناتهم من الوساطة للالتحاق بالعمل الإذاعي وإنما يستغلون ذلك من أجل أضواء البلاتوهات، غير أن هذه الميزة لا تستثمرها الإذاعة لصالحها تطويرا لكوادرها.

يضاف إلى ذلك واحد من مظاهر تراجع الثقافة العربية في علاقتها بالتكنولوجيا إذ ترسخ في أذهان الكثيرين أن مهمة تكنولوجيا العصر تنحصر فقط في الترفيه، وهو ما تنجو منه الإذاعة بدرجة ما .

إن الفرصة قائمة بقوة ماتزال أمام الإذاعة (المصرية) للقيام بدور أكثر فاعلية دون النظر لفكرة المنافسة المغلوطة وتخليا عن فكرة أن التلفزيون قد سحب البساط  فالجميع يدرك ويعلم حد اليقين  تراجع التلفزيون المصري لأسباب يعرفها الجميع باستثناء القائمين على الجهاز الذين استناموا لفكرة مغلوطة (أيضا) أعني ” الريادة الإعلامية ” .

يوم أن توقفت فضيلة القراءة، هدمنا أهم أسباب تنمية الخيال ويوم أن أخرجت الإذاعة من المنافسة هدمنا السبب الثاني لذا أصبحنا ننفرد بأجيال من المسؤولين – كبارا وصغارا- وأجيال ممن ينتظرون دورهم تجمع بينهم صفة واحدة “انعدام الخيال” أو على الأقل “انهدامه”، وهو ما نجني ثماره اليوم من صعود تنازلي في كل مجالات الحياة.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (22)