محب خيري الجمال
يظهر ديوان «ظلّ يتيم في حقيبة يدي» بوصفه نصًا ينمو من العتمة ويتغذّى على شقوق الذاكرة، حيث تكتب الشاعرة أفين حمو تجربتها الوجودية عبر لغةٍ تقوم على التوتر بين الفقد والرغبة، وبين الندبة والضوء المؤجّل. وعلى امتداد أقسامه الأربعة، يتكامل الديوان ليبدو كرحلة واحدة، تتصدّع فيها الذات وتعيد بناء نفسها عبر صورٍ لا تستسلم للتقليد، بل تبحث عن جذور جديدة في أرض لم تعد قائمة، وجسد تعلّم أن ينهض حتى وهو محاط بالكسور.
منذ الصفحات الأولى، يتجلى الحنين بوصفه ركيزة للوجود، ويتحوّل إلى محرّك أساسي للكتابة. ففي نص «ظلّ يتيم في حقيبة يدي» يتخذ الحنين شكل شيء صغير وممزق، لكنه بالغ القدرة على منح الذات جذورًا وسط الريح: «كل طيّة فيه تشبه خطوط يديه حين كان يمسح عن وجهي دموعًا لا أعرف مصدرها… كأنني أتأكد أن شيئًا مني ما زال يحتفظ بجذوره في أرضٍ لم يعد لها وجود.» هنا يتحول المنديل من ذكرى إلى وثيقة هوية، ومن رائحة التبغ إلى خريطة وجود، رغم أنه لا يدلّ على مكان. إنّه يقدّم أبرز سمات الديوان: افتقاد الأرض، والبحث عن جذور بديلة داخل الأشياء، داخل الروائح، داخل الذاكرة.
ويصعد هذا التوتر نحو منطقةٍ أكثر عمقًا في نص «وصايا الفجر» حيث تبدو الذات مجبرة على مواجهة الآخر، ليس كحضورٍ جالبٍ للطمأنينة، بل كظلّ يتطلب التخلص منه: «أيها العابر من جسدي، خذ معك ظلي حين تخرج… لا طائل لي فيه.» ثم يتصاعد المشهد لتكشف الشاعرة عمّا يشبه انقلابًا داخليًا، عندما تقدّم قلبها إلى الزمن نفسه: «ناولته قلبي المعتصم بهلعه… لكنه ضغطه بغضب بين كفّيه حتى انقضّ منه النهر كاملاً على حجر النثر البارد.» إنه نص يعلن هشاشة الذات من جهة، لكنه يكشف أيضًا عن قوة كامنة لا تُرى إلا في لحظة الانكسار. فحتى انسكاب القلب هنا يتحول إلى فعل ولادة جديدة للنص نفسه. ويأتي نص «نداء في الريح العمياء» ليضيف بعدًا أكثر جراءة، حين تضع الشاعرة العلاقة مع الرجل في سياقٍ من اللعب على حافة الرغبة والغياب. تقول: «أيها الرجل المتأرجح بين كفّي كساعة كسرتُ عقاربها لأبقيك عالقًا في لحظة لا تنتهي.» إنها علاقة لا تستقر، علاقة بين امرأة تتعلم أن تُنبت أشواكها وبين رجل لا يكتمل حضوره إلا بوصفه نداءً بدائيًا. وهنا تتجلى القدرة العالية للديوان على تحويل التجربة العاطفية إلى سؤال وجودي حول الجسد والزمن والحنين، حيث يصبح الرجل شاهد قبرٍ أكثر منه شريك حياة: «أنا امرأة… وأنت شاهد قبري… أحب أن أخسر فيك كما تخسر الريح أوراقها في حضن شجرة عمياء.» وفي القسم الثاني، تتجه القصائد نحو منطقة أشد كثافة، حيث تقترب الذات من صورتها الأكثر انكشافًا، وتبدأ في التفاوض مع فعل البقاء نفسه. يتجلى ذلك في نص «برق يخاف أن يولد»، الذي يكاد يمثل خلاصة هذا القسم:
«أنا التي تعلّمت أن تضحك حين تنكسر… لا ورد منثور في لغتي… لكنني حين يشتد الصمت بي أصير برقًا يخاف أن يولد فيقتل.» هنا يبلغ الصراع الداخلي ذروته: الذات ليست مكسورة، بل واعية بانكسارها إلى الحد الذي يجعل الضحك آلية دفاع، ويجعل الظهور خطرًا. البرق الذي يخشى الولادة هو الصورة الأكثر صدقًا لروح تحاول النجاة دون أن تثق بنجاتها.
ويستمر هذا المسار النفسي في نص «عندما أحببت ظلّ الوهم»، حيث يصبح الوهم نفسه ملاذًا من قسوة الحقيقة: «أمسك بعباءة الشفق… أحاول ألا يموت النهار… وحدتي رفيقتي وصمتك شراعي الممزق… أنت أكذوبة كبرى وحلم محرّم.» إنه نص يتجاوز العاطفة ليصل إلى فلسفة وجودية: الذات لا تبحث عن الحب في اكتماله، بل في أثره، في ظلّه، في الوهم الذي يقدّم نفسه كترياق مؤقت. إنها كتابة صريحة في اعترافها بالانهيار، لكنها لا تستسلم، بل تحوّل الوهم إلى وسيلة للاستمرار. وتتطور هذه التجربة في القسمين الثالث والرابع، حيث ينتقل الديوان من عتمةٍ ثقيلة إلى ضوءٍ حذر. في القسم الثالث، يصبح العالم مغلقًا على الذات، والوجع مادة يومية، ويتخذ الحزن شكلاً صامتًا أشبه بإيقاع بطيء. بينما يقدّم القسم الرابع تحولًا رقيقًا نحو الأمل، لا بوصفه خلاصًا، بل بوصفه احتمالا قابلاً للتنفس. نرى هذا التحول واضحًا في نصوص مثل «رسائل بين عالمين» التي تكتب فيها الشاعرة: «حدود الفرح تتنقل بين الشرق والغرب… والجنون يلوح كفراشة في رقصة لا نهاية لها.» إن الفرح هنا ليس حالة، بل انتقال، حركة، إشراقة صغيرة في فوضى واسعة. ويستوي هذا الخيط الأخير في نص «تراتيل» حيث يصبح الحنين نوعًا من الصلاة، وينقلب الغياب إلى طريق ملازم للوجود: «تعال… اسكن تحت جلدي، لأغدو لحنًا ودمًا يسيل في فجر البدايات.» هنا يبدأ الضوء في الظهور، لا بوصفه خلاصًا كاملاً، بل بوصفه تماسكًا بعد رحلة طويلة من التشظي. إن «ظلّ يتيم في حقيبة يدي» ليس مجرد ديوان، بل تجربة مكتوبة بدمٍ داخلي، تنفتح فيها الشاعرة على جروحها دون خوف، وتعيد صياغة ذاتها عبر لغة متوترة، مشتعلة، تؤمن بأن الجمال يمكن أن يتولد من الحطام. إن الأعمال التي تُعيد بناء الظل، بدل أن تهرب منه، قليلة. وهذا الديوان واحد من تلك الأعمال التي تترك في القارئ أثرًا لا يأتي من المعنى فقط، بل من الطريقة التي يتكوّن بها المعنى. إنها كتابة من حافة الفقد، لكنها كتابة تعرف في لحظة ماكيف تتلمس طريقًا دقيقًا، هشًا، لكنه موجود نحو الضوء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر وناقد مصري





