البناء النامي للصورة الشعرية.. دراسة في قصيدة قافلة الضائعين لغازي القصيبي

موقع الكتابة الثقافي art 66
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. جمال فودة

   إن النص كبنية دلالية يتم إنتاجه ضمن بنية نصية أكبر، وعلاقة النص بهذه البنية النصية هي علاقة جدلية تقوم على أساس التفاعل؛ من خلال ما ينشأ بينها من روابط تتميز بالتماسك والانسجام.

   وفي البناء النامي للنص الشعري يجنح الشاعر إلى إنماء الصورة الكلية من خلال عدة صورة جزئية، حيث تأتى كل صورة جزئية لتضيف لبنة جديدة في بنية النص الشعري؛ حتى تنمو الدلالة وتتشكل التجربة في صورة كلية تكشف ملامح الرؤية وتجسد أبعاد الموقف خلال اللقطات المتتابعة التي ينظمها الشاعر في خيط شعوري واحد، ينسج من خيوطه إطاراً لصورة مركبة مترابطة على المستوى النفسي والمستوى الفكري.

   ومن القصائد التي تتخذ البناء النامي وسيلة لعرض أبعاد التجربة وتجسيد ملامح الرؤية عبر مجموعة من الصور الممتدة داخل البنية الدلالية للقصيدة، قصيدة ” قافلة الضائعين” للشاعر غازي القصيبي، التي يمكن تقسيمها إلى خمسة مقاطع، يمهد كل منها لما بعده ويلقى عليه بظلاله، حتى إذا انتظمت جميعها في إطار واحد اكتملت اللوحة الفنية لتعكس بخطوطها وألوانها ما اختلج في نفس الشاعر من أحاسيس وانفعالات نابعة من أعماق التجربة. 

قبيل الغروب

جمعت ثيابي

وطفت ُ بدور صحابي 

وودعتهم بدموع الحنين

وعدتُ وكانت دماء الشفق

 تغطي الأفق

حواني طريق الضياع

   في المقطع السابق نلاحظ اعتماد غازي القصيبي على الاستعارة الإضافية في بناء الصورة الشعرية، وتكمن أهمية الاستعارة الإضافية في معرفة انحرافات الألفاظ عن معانيها الأولى من خلال الإضافات، ثم استكناه ذلك التواشج القائم بين اللفظين واندماجهما في ثوب جديد، مما يعد إثراءً لألفاظ الشاعر ورؤيته الإنسانية في آن واحد.

فدموع الحنين، ودماء الشفق، وطريق الضياع، جاءت على  صورة مركب إضافي يجمع بين المستعار والمستعار له في بنية  تصويرية تتميز بثرائها الدلالي  والإيحائي، ومن ثم يكون التماس التناسب بين الطرفين على المستوى النفسي؛ من خلال النظر إلى سياق  الصورة الشعرية  من زاوية الرحيل والاغتراب حيث تتضافر الصور لتسكب الدمع دماً، وتتعثر الأقدام وهي تبدأ خطواتها الأولى في طريق مجهول.

وجاء المساء

وأبصرت أشباحه الواجمة

 تحملقُ في !

وظلت تردد في مسمعي

( الى أين تمضي وهذا الطريق

بدون رجوع؟)

فضج بأذني عويل الرياح 

وروعني من وراء الكهوف عواء الذئاب

وخلف انحناء الدروب رأيتُ عيون الوحوش

.. وكدتُ أعود

ولكن سداً رهيباً أطل..

يسد علي طريق الرجوع

   فالشاعر يشكل هذه الصورة التي تترك في النفس إيحاء قوياً بالحزن والأسى والوحشة من مجموعة من اللقطات ( الاستعارات الوصفية ) التي تتفاعل في إطار الدلالة الكلية لتحدث هذا الأثر النفسي العميق؛ لتغدو مؤهلة للبوح بما يريد بثه، وسبيله إلى ذلك توسيع الطبيعة الاستبدالية / الوصفية للغة في إطار العلاقات السياقية التي تربط بين مفرداتها.

   تكتسب الاستعارات الوصفية ـ هنا ـ بعض سمات الاستعارات الفعلية، وخاصة الميل إلى التشخيص، يظهر ذلك في الاستعمال الاستعاري  للصفات ( الواجمة، رهيباً ) وصفاً للمستعار له ( الأشباح، سداً )، فالألفاظ المستعارة مشتقة كلها من أفعال هي ( وجم، رهب ) مما يكسبها سمات الاستعارة  بالفعل، ولنا أن نتخيل أبعاد تلك المخاطرة بالمسير في طريق بلا رجوع، تقف على جانبيه الأشباح المخيفة، والغريب أن هذه الأشباح تقدم النصيحة؛ لتثنيه عن مواصلة الرحلة، ورغم صدى عويل الرياح وعواء الذئاب الذي يتردد في أذنه، وعيون الوحوش التي تترصد السائرين يمضي، وحين فكر في الرجوع، مكتفياً من الغنيمة الإياب حيل بينه وبين ما يشتهي بسد رهيب قطع عليه طريق الرجوع،هكذا تتلاحم الصور الجزئية لتنمو بالصورة الكلية، الأمر الذى يزيد فاعليتها في الإيحاء  بأبعاد نفسية وشعورية من خلال الصلات الخفية بين عناصرها.

     وفي الفجر

أقبل نحوي غريب..

 يرددُ أهلاً بهذا الرفيق

وقلبتُ عيني فأبصرت فيه

هزال الخريف.. وذل المساء

وكان سؤال

وكان سعال طويلٌ وقال:

 أنا يا صديق من الضائعين

 هجرتُ المدينةَ

 وأقبلتُ أدفن بين الدروب

بقايا الليالي الحزينة

 فقد كان لي في رحاب المدينة

حياةُ وطفلُ صغيرُ

وذات مساء أتتنا الرياح

وسارت ببيتي وطفلي الصغير

 

وطالعته في حنان الحبيب

وقلت: يدي يا أخي في يديك

فقد كان لي خلف باب المدينة

 قلبٌ وليدٌ

كطفلك قد كان قلبي الوليد

وذات مساء.. طواه الردى

فأصبحتُ من غيرِ قلبٍ أسيرُ

فهيا معي

   إن الربط بين الفجر كدلالة نفسية رمزية على النور والأمل وزوال الخوف والظلم، قد تحولت إلى النقيض؛ حيث جاء مع الفجر ضيف تكسو ملامحه الذل وترتسم على هيئجمته أمارات الفقر والجوع،ولهذا تكتسب الاستعارة الوصفية حضوراً خاصا ً باستخدامه لها دون غيرها،إذ يلقى عليها  القصيبي من ظلال شخصيته ويخضعها لطبيعة موقفه والتأملات اللاشعورية التي  تتفاعل معها في أعماقه فنرى هزال الخريف، وذل المساء مجسداً في شخص غريب ضعيف عصفت بآماله رياح هوجاء فما أبقت لأحلامه من أثر، وهو يبحث عمن يعينه وجد شاعرنا الذي يعاني هو الآخر نفس المصير، إنا هاهنا غريبان، وكل غريب للغريب نسيب، ومَا فَـاتَ لَيْـسَ يَـؤوبُ، ولا يدري أيشجى له أم يأسى لنفسه ؟ لكنها المصائب تجمع المصابين!

   لقد تخطى القصيبي العلاقات المألوفة لينسج علاقات حية مبتكرة خصبة، فهو يصوغ الواقع صياغة جديدة، تؤدى فيه اللغة الشعرية دوراً كبيراً باعتبارها طاقة من الحياة والحركة مثقلة بوافر المعاني، لغة مستمدة من معجم الحالات النفسية.

وسرنا معاً

وحدثني عن أماسي الحنين

وعن بيته وكروم العنب

وما في الحديقة من ياسمين

وكيف يطل عليه القمر

وحدثته عن زمان الصِغر

وعن إخوتي وليالي السمر

وكيف طوت كل هذا المدينة

   إن اعتماد الشاعر على الدلالة المعنوية / المجردة من الخيال يشير إلى استبطان الشاعر لنوع من الازدواجية في الجمع بين ما هو معنوي وما هو حسي في إطار البنية التصويرية التي لا تخفي الدلالة بقدر ما تظهرها في سياقها النفسي والجمالي، ومن ثم فإننا مطالبون بالتمييز بين الموضوعي والذاتي؛ لكى تنفتح الحقيقة في مساق نظرة تتناول موضوعها بوصفه حياً متنامياً.

   ففي الطريق يتسامر الرفاق ترويحاً واستئناساً، فتنثال الذكريات من هنا وهناك، والحديث ذو شجون…، فمن البيت والأهل إلى الطفولة وليالي السمر؛ لهذا اعتمد القصيبي على رصد أبعاد الحوار من خلال الفعلين ( حدثني – حدّثته( مستعيداُ من خلالهما لحظات ولت إلى غير رجعة، وجاء استدعاؤه لتلك اللحظات للخروج من الواقع الكئيب إلى ماض كان يمثل لحظات الفرحة، ويرسم على الوجه ملامح العزة والثقة بالذات وبالآخر.

   فالشاعر يطرح قضية حية، لذا جاء المقطع خالياً من الخيال مما جعله أقوى تمثلاً في نفس المتلقي، حيث تصبح التجربة أكثر حياة وتظل دلالتها حاضرة ماثلة من خلال مشاهد الانكسار التي يعيشها.

   ونلحظ لدى الشاعر قدرة فنية رائعة على شحن أبسط الصور وأوضحها بأعمق الإيحاءات وأشدها تأثيراً ـ يظهر ذلك في الصور الحقيقية ( وحدثني عن أماسي الحنين، وعن بيته…، وحدثته عن زمان الصِغر وعن إخوتي…، وكيف طوت المدينة كل هذا )؛ إذ تخلو من التعبيرات المجازية إلا أنها تشع بإيحاءات نفسية تعبر عن أصعب اللحظات الشعورية وأفدحها دون أن تفقدها شيئاً من أساها المرير.

وعند الظهيرة

سمعنا خطى مقبلاتٍ كثيرة

وجمعاً غفيراً من الضائعين

يسبون ليل المدينة

وسارت مع الدرب قافلة الضائعين.

   بين استنطاق الدلالة واستيحاء عكسها تتشابك خطوط الدلالة؛ لتؤيد الدلالة المطروحة بأمثلة من الوضع الراهن؛ إذ تعبر عن الصراع الذى يجتاح المجتمع العربي مجسداً ـ في لقطات حية ـ فكرتي الفناء والبقاء، إذ تشكل كل واحدة منهما بعداً شعورياً ذا مغزى يفارق أخراها.

   ورغم التوتر النفسي الذى يعيشه الشاعر فإنه لا ينفعل، وإنما يتفاعل مع الموقف تفاعلاً نفسياً عميقاً، مزاوجاً  بين الصورة والحدث شكلا ً وبين الإحساس  والفكرة مضموناً  في  بنية  متحركة متوترة، ففي الوقت الذي ينبش الشاعر بأصابعه صخر اليأس بحثاً عن الأمل تحت ركام الأسى، لتسطع شمس الحرية تبدد ضباب القهر، فجأة تصدمه جموع الضائعين الذين تعالت أصواتهم يسبون ليل المدينة الذي نشر على النفوس ظلمه وظلامه، وبهذه المعاني التي يحملها المقطع الخامس والأخير يكتمل التشكيل الدلالي للقصيدة ويكتمل معه موقف الشاعر من قافلة الضائعين التي منها وإليها كان المهرب!! 

   لقد عنى الشاعر خلال المقطع السابق بتشكيل بنية نفسية خاصة؛ ليقدم من خلالها صورة كيان مبعثر يتشظى بآلام الحياة في إطار سياق يستلهم تموجات الحالة النفسية في جو من التكثيف الفكري والأدائي.

   وبهذا المقطع الأخير يرفع الشاعر يده عن الصورة بعد أن وضع آخر لبنة في بنائها النامي الممتدة خطوطه في نسيجها الفني، لتشكل الصورة الكلية للتجربة التي ينتظمها خيط شعوري واحد، يبدأ في العادة من منطقة ضبابية ثم يتطور في سبيل الوضوح شيئاً فشيئاً، حتى ينتهي إلى إفراغ عاطفي ملموس، ذلك أن وحدة العاطفة وتطورها في اتجاه واحد هما السمتان المميزتان للبنية الداخلية للقصيدة.

مقالات من نفس القسم