تأويل “أبناء الجبلاوي” في مرآة العنوان

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

تمهيد

لا يتحقق النص من دون أن "يتعنون"، وتتأسس شعرية العنوان من وقوعه في منطقة برزخية بين جسد النص وجسد العالم.وبإطلاق العنوان ينجز النص وجوده المتمايز عن سائر النصوص ويتأطر خطابه بمعزل عن الفيض اللغوي للمعجم.

وهو كعلامة سيميائية إشارية، وإشهارية، يشير ابتداء إلى النص.. مثلما تشير عناوين الشوارع إليها.. فيكون بمثابة المبتدأ وجسد النص خبره. ومن ثم ترتكز شعريته على النقص لا على الاكتمال النحوي والدلالي، وعلى الحاجة إلى امتداد النص، ليظل يتشهاه ويتأوله.

فهو ـ ثانيًا ـ يلعب دور العلامة المرجعية التي يُؤول النص في ضوئها، وكأنه مرآة عاكسة نقرأ من خلالها شفرات النص كله ونراها كلًا متماسكًا. أو حسب المعنى الرائج يعد العنوان مفتاح الولوج إلى النص، وإن لم يكن المفتاح الأوحد.

وليس بالضرورة أن تتحقق لكل عنونة شعريتها التامة، فقد يحدث أن يسقط العنوان في قالب “الكلشيه” المكرر كليًا أو جزئيًا، ما يضعف من تأثيره الدلالي والإشهاري، مثل تلك الأغاني والأفلام والروايات التي تحمل العنوان الرائج ذاته بكل بساطة. طمعًا في الاستفادة من شهرتها ورسوخها لدى الذائقة العامة. وهو ما يكشف بالتأكيد عن الطبيعة “التناصية” للعنونة.

كما يحدث أن يتمايز العنوان بجاذبيته الخاصة المستقلة لكنه لايساهم في تأويل نصه، إذ يبدو كل منهما منفصلًا عن الآخر.

مع الأخذ في الاعتبار أننا هنا لا نؤسس سلطة للعنوان لإنجاز تأويل محدد ونهائي لنص مثل “أبناء الجبلاوي” للروائي إبراهيم فرغلي، بقدر ما نشير إلى دور العنونة في رهانات التأويل المختلفة.

وهنا نطرح سؤالنا الأساسي: إلى أي مدى أنجز عنوان “أبناء الجبلاوي” ـ الصادرة عن دار العين ـ شعريته؟ مع الأخذ في الاعتبار أن عنوان الرواية المكونة من أربعة أجزاء تناهز خمسمائة صفحة، هو نفسه عنوان القسم الثاني من الجزء الثالث.

على مستوى البنية اللغوية نحن أمام مفردتين “أبناء” /”الجبلاوي” تتعشقان في مُركب إضافي، وليس جملة تامة. فالعنوان مبني على مفردتين وفقًا للنسق المحفوظي السائد في العنونة، سواء اتخذ هذا الشكل علاقة المعطوف والمعطوف عليه مثل “اللص والكلاب” أو بنية المركب الإضافي: “زقاق المدق”، “قصر الشوق”، و”همس الجنون”.

ورغم بساطة التركيب، وبعده عن الغموض والاستعراض، لكنه قادر على استفزاز الأسئلة: من هو الجبلاوي؟ من هم أبناؤه؟ ماذا فعل بهم وماذا فعلوا هم؟ وهي أسئلة كافية ـ سيميائيًا ـ لإنجاز عملية تعاقد وثيقة، وضمنية، بين القارئ والنص.

  1. الجبلاوي

لمن يملك معرفة لا بأس بها بالمنجز الروائي لمحفوظ، سيدرك أن “الجبلاوي” أحد أشهر الشخصيات الروائية العربية على الإطلاق، تلك الشخصية الإشكالية بالغة الغموض، وبالغة التأثير في قوة حضورها وسطوة غيابها.

“الجبلاوي” ليس مجرد شخصية روائية تمارس سطوتها في الغياب، بل هو ذلك العمود الفقري الذي أسس عليه نجيب محفوظ روايته الشهيرة “أولاد حارتنا” والتي ـ بغض النظر عن تقييمنا الجمالي لها ـ تمثل ذروة الاشتباك بين ما هو “أدبي” وما هو “ديني” و “أسطوري”.

إنه الشخصية التي اختلقها محفوظ عائدًا بنا إلى النقطة الأولى في سديم وعينا الإنساني.. إلى قصة الخلق.. ولحظة البدء.. مستعيدًا محطات رئيسة في رحلتنا البشرية. مقدمًا نصًا موازيًا للنصين الديني الرسمي، والأسطوري.. عن أولاد حارتنا الإنسانية.. ليس بهدف تكذيب الرسمي ـ بالضرورة ـ ولا لمجرد اجترار الحكي.. بل بهدف فهم معضلة وجودنا.. من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ وموضعة قيمة “العلم” داخل النسق الديني/ الأسطوري، بدلًا من إقصائها ومحاربتها.

وإذا كان فرغلي قد شيد لعبته السردية على “الاختفاء الغرائبي لروايات محفوظ”، فلماذا اختار شخصية “الجبلاوي” دون غيرها كعلامة دالة عليها؟ بمعنى آخر.. هل كان واعيًا بما تمثله تلك الشخصية؟

بالتأكد كان واعيًا أن “الجبلاوي” أهم شخصية ابتدعها محفوظ، بهذا الاسم الغامض، وما يمثله من رسوخ وأبدية وصمت مهيب.. عدا عما يوحي به من ظلال الفضاء الخالي من البشر.. بوصفه نقطة البدء لرحلتنا الإنسانية الشاقة.. هو أيضًا الشخصية التي يتكرر صداها بقوة مع عاشور الناجي في “ملحمة الحرافيش”، ومع الجد في “قلب الليل”، ومن السهل أن نعثر للجبلاوي على تجليات أخرى في النص المحفوظي.

ومن اللافت في الجزء الأول من “أبناء الجبلاوي” أن يطلب ” الأستاذ رفيق” من الراوي والبطل أن يأتيه بنسخة من “الحرافيش” وليس من “أولاد حارتنا” ..” الأستاذ طلب أن أحضر له كتاب “الحرافيش” لنجيب محفوظ في زيارتي التالية” (ص33)

ولا يخفي على قارئ محفوظ أن “الحرافيش” هي إعادة إنتاج ل “أولاد حارتنا”.. استعادة ملحمتنا الوجودية ذاتها على نحو أعمق وأعقد. وبالطبع يدرك فرغلي علمية التناص المعقدة والرهيفة بين شخصيتي “الجبلاوي” و”عاشور الناجي”:

“انتشرت شائعات مضادة؛ أكدت أن ذلك العملاق ليس سوى “الجبلاوي”. لكن مجموعة من سكان المقابر نشروا في اليوم التالي إشاعة مغايرة تقول إن العملاق الذي شوهد في الجمالية، وخان الخليلي هو “عاشور الناجي”. (ص84)

وبرغم أن المُركب الإضافي يؤخر ذكر “المضاف إليه” لكن هذا لا ينفي مرجعيته، وأسبقيته منطقيًا في الوجود، فالجبلاوي هو الأصل والأبناء هم الفرع.. هو صاحب المشروع والأبناء تجلياته.

هذا الأب الغائب، الأبدي، السيد المتعالي، روائيًا وجماليًا، يشتبك مباشرة مع التابو الديني المستقر، فمن الطبيعي أن تكون “أولاد حارتنا”، ذلك الفضاء المتخيل الذي يعيش فيه “الجبلاوي”، هي أكثر روايات محفوظ تعرضًا للهجوم والقمع والمصادرة طيلة عقود.

ومع التسليم بسلطة التابوهات الثلاثة: الجنس، والسياسة، والدين.. لكنها دائمًا مشتبكة، متصلة، تستند في جذرها العميق، وفي وعيها ـ أو لا وعيها ـ الجمعي على الأصل الديني/الأسطوري. ومن ثم هناك إمكانية دائمة على التسامح المجتمعي والسلطوي مع تابو “الجنس”، وهو ما يفسر سهولة الشغف به إنتاجًا وتلقيًا، وتمريره في إبداعات هزلية وجادة، وبدرجة تسامح أقل يحدث ذلك مع تابو “السياسة” حيث يسهل العقاب على كسره دائمًا.. بينما يظل تابو “الدين” الأشد فتكًا وسلطوية.

إن هذا الملمح الروائي يجسد المعركة الجمالية والفكرية الأهم لدى نجيب محفوظ، لأنه يضرب في صميم وعينا بالتابوهات جميعها.. وتصبح استعادة “الجبلاوي” تحديدًا في نص فرغلي، ذات دلالة مزدوجة، فهي من ناحية تعيد الاشتباك مع ذلك التابو الديني، ومن ناحية أخرى تقدم تحية رمزية لشجاعة محفوظ الأدبية.

وأحسب أن فرغلي لو اختار اسم أي شخصية أخرى من السجل المحفوظي، لانهار متنه الروائي كليًا. لأننا لو أعدنا تصنيف روايات محفوظ إلى أعمال يهيمن عليها النفس الاجتماعي والواقعي وأخرى يتصدرها النفس الوجودي الفلسفي.. سيكون “الجبلاوي” بكل تجلياته هو الشخصية المركزية في كل النصوص الوجودية.

  1. أبناء

لقد وقع “أبناء” “الجبلاوي” تحت وطأة سلطته الأبدية، بخيرها وشرها. فهم ضحايا بائسون، وهم أيضًا من تومض في أرواحهم أنوار الأمل والمحبة والتوق إلى السماء، واستعادة حضن الأب الغائب.

ويضعنا عنوان “أبناء الجبلاوي” أمام عملية تناص مركبة، فهو أولًا تناص مباشر مع شخصية “الجبلاوي” بكل تجلياتها وتداعياتها ـ كما أشرنا ـ وهو ثانيًا تناص ـ عبر مفهوم “الأبناء” ـ مع المدونة السردية لمحفوظ خصوصًا في أعماله وجودية الطابع.

أي أن فرغلي لا يحصر نصه في “أولاد حارتنا” وحدها، ولا حتى في “الحرافيش” بل يمده باتساع الكون السردي المحفوظي كله، فنحن أمام نص يحاكي المدونة الوجودية لمحفوظ، وهو ما يظهر في عناوين الفصول الأخرى مثل: “الشيطان يعظ”. كما يظهر في الإتكاء على مفردات لغوية بعينها، قد نراها في نصوص محفوظ، رغم أنها تكاد تكون مهجورة اليوم وتقع خارج الاستعمال الأدبي، والمعيشي. إضافة إلى تماهيه مع محفوظ في كيفية اختياره للعنونة، حتى مفتتح الرواية محفوظي بامتياز: “شقت الصرخة صمت الليل، فانتفضتُ. صرخة كئيبة ملتاعة، مثل ومضة في سماء معتمة”. (ص 18)

والأهم من ذلك أن “أبناء الجبلاوي” أسست حبكتها ليس فقط على ثيمة “الاختفاء الغرائبي” لروايات محفوظ، بل على تقليب أوجه غيابها واحتمالات استعادتها. فنرى مثلًا تشكيل لجنة لإعادة تدوين ما يحفظه القراء من مقاطع (ص52)، وقيام البطل نفسه بالتنقيب في أوراقه بحثًا عن مقاطع دونها بنفسه أثناء تدربه على الخط، فيعثر مثلًا على مفتتح “الحرافيش” مكتوبًا بخط الثلث:

“في ظلمة الفجر العاشقة، في الممر العابر بين الموت والحياة، على مرأى من النجوم الساهرة…” (ص 65) وهكذا تتكرر في مواضع كثيرة الاقتباسات من “الحرافيش” و”الثلاثية” و”الكرنك” وغيرها.

كذلك هناك اللجوء إلى أعماله السينمائية ومحاولة إعادة كتابتها، وترجمات رواياته إلى اللغات المختلفة. وغير ذلك من الاحتمالات الممكنة ـ الشفهية والمكتوبة والبصرية ـ لإعادة بناء الكون المحفوظي، بإشراف لجنة متخصصة في أعماله.

ثم تنتقل بنا اللعبة إلى مستويات أخرى أكثر تعقيدًا تتعلق بشائعات ظهور شخصياته الأدبية، الخيالية أساسًا، في الواقع (ص83) والتفاف أبناء حي الجمالية حول تمثاله في المهندسين إثر سماع ضحكة تصدر عنه (ص119) ثم اختفاء التمثال نفسه (ص 127) وظهور لعبة إلكترونية اسمها “سر اختفاء نجيب محفوظ” (ص 130)، ثم صراع “المحفوظين” و”المحافظين” الكارهين للأدب (ص166)، وكذلك تظهر في الجزء الثاني من الرواية  شخصية “كاتب الكاشف”، بظلال اسمه التي تذكرنا بطريقة محفوظ في تسمية أبطاله أحيانًا، وهو روائي ودارس للفلسفة تمامًا مثل محفوظ نفسه.. لنصل إلى التفعيل السردي لشخصيات محفوظية شهيرة مثل السيد أحمد عبد الجواد وابنه “كمال” و”رادوبيس” وذلك في الجزءين الثالث والرابع.

  نحن إذن أمام لعبة استعادية بالغة الثراء، لكل أبناء محفوظ/الجبلاوي. وظهور شخصياته في الواقع، دلالة لا تخفى على عبقرية ابتداعها، وقوة تأثيرها، حتى صارت من لحم ودم، وقابلة للحياة، بقوة المتخيل، وسحر الخلق الروائي.

وكأن عالم محفوظ هو الكون الأرحب المهيمن على واقعنا، فالكون التخييلي الأكثر رحابة من الواقع، يبتلع تمامًا المستوى الواقعي لنص “أبناء الجبلاوي” ويهيمن عليه. وكأننا لسنا أكثر من شخصيات تائهة في النص المحفوظي المحيط بنا، فلا عجب أن تبدو شخصيات رواية “أبناء الجبلاوي” ذات لطشة محفوظية في تكوينها ومصائرها وصدفها القدرية.

نحن جميًعا، شئنًا أو أبينا، أبناء الجبلاوي، وأبناء محفوظ أيضًا. فالنص لا يسجننا في أسر أبناء “أولاد حارتنا” وحدهم، بل يطوح بنا بين رواياته الأخرى. يمد مفهوم البنوة/ الأبوة، عبر النصوص.. مستعرضًا تجلياته. فلا يخفى مثلًا ذلك التماهي ما بين شخصية “كبرياء” اللقيط الذي لا يعرف أباه، وبين “عاشور الناجي” نفسه الذي عثر عليه الشيخ “عفرة”، وهناك إشارة صريحة لهذا التماهي (ص124) وتتكرر فكرة “اللقيط” أيضًا مع بطل الجزء الثاني “كاتب الكاشف” (ص 209).

ودلالة “اللقيط” هي صورة من صور تغييب الأب، التي تتكرر باستمرار لدى محفوظ، فنراها مثلًا في “اللص والكلاب” وفي “قلب الليل”،  فمعظم أبطال محفوظ يتامى يبحثون عن الأب، ليصبح إلغاء العلاقة مع الأب البيولوجي، شرطًا أساسيًا لفهم طبيعة العلاقة مع الأب الرمزي صاحب السلطة الأبدية.

إن “كبرياء” ليس مجرد شخص مهتم بأدب محفوظ، ولا بتجميع قصاصات منه، بل هو نفسه ابن من أبناء الجبلاوي. أو بمعنى آخر، شخصية محفوظية بامتياز وإن لم يكتبها محفوظ، ويمكن قول ذلك على معظم الشخصيات. فهو يعيش أزمة وجودية مع أبيه الغائب، المغيب. ويبحث عن تعويضات لوجوده في المرأة بصورتيها الرئيستين: الأمومية، والأنثوية. وكلتاهما صورتان معبرتان عن الاحتواء والحنان والأمل والعطاء، لتحرير الإنسان من سطوة أبيه. فمن الطبيعي أن يرتبط بأمه، وصديقته “نجوى”.

وعلى مستوى ثان نرى ارتباطه العميق والمباشر بالأنثى المحفوظية، فهو الواقعي يتوحد مع إحد نساء محفوظ المتخيلات، هي “رادوبيس” التي يستحضرها عبر قصاصة من الرواية التي تحمل اسمها:

“ومشت الغانية تتهادى، وهبطت درجات البركة المرمرية على مهل، ومضى الماء يغمر القدمين، فالساقين، فالفخذين، ثم ألقت بجسمها الهادئ يأخذ منه عطرًا ويعطيه بردًا وسلامًا”. (ص66)

ويبلغ من تأثير النص المحفوظي، والشغف بالروح الأنثوية، أن يستعيد البطل شخصية “رادوبيس” في أحد أحلامه:

“بدأ اسم الفتاة يتردد في أذني، كأنها هي التي توحي إلي بالاسم، باستخدام قوة روحية خارقة. “رادوبيس”، “رادوبيس”. استعدت وصف محفوظ لها، وشعرت بشهوة جامحة”. (76) ويتكرر استحضار رادوبيس تحديدًا في مواضع أخرى.

لماذا إذن رغب الكاتب في تقليد ومحاكاة محفوظ وارتداء عباءته وإعادة إنتاجه؟ وهل كان الأمر اختيارًا واعيًا؟

أعتقد أن المسألة أعمق من مجرد رغبة واعية فقط، فمن المؤكد أن فرغلي تواصل بعمق مع إبداع محفوظ وتفاعل معه وتولدت فكرة نصه الخاص من الضغط الروحي الذي مارسته عليه قراءة محفوظ. ومن ثم انطوى نصه على عملية تناص واسعة معه ـ عنوانًا ومتنًا ـ  مثلما انطوى على تحية وتلويحة محبة.. وعلى رغبة أشد في تأسيس كون روائي موازٍ لعالم محفوظ كله، يحاكيه ويشتبك معه، وهي عملية إنتاج مقبولة ومفهومة جماليًا يمارسها المبدعون على الدوام، بشكل جزئي أو كلي.. خصوصًا مع إبداعات الكبار مثل شكسبير أو ديستوفسكي.

ومن المهم هنا الإشارة إلى أن فرغلي لم يكتف بتقريبنا من عالم محفوظ سردًا وفكرًا، بل حوّل النص المحفوظي نفسه إلى ما يشبه آلة سبرنطيقة ذكية قادرة على توليد عوالم مماثلة، وموازية، له. وكأننا في عملية خلق لا متناهية، من نصوص هي  ـ ظاهريًا ـ متناهية.

ومع الإقرار بأن نص فرغلي هو علامة كبرى تشير إلى نصوص محفوظ كلها، وتتخدها مرجعًا لها، فلا يمكن تأويله إلا في ضوئها. لا بد من الإشارة إلى أن عملية التناص  Intertextuality الواسعة، والمركبة، تختلف عن التناصات الدارجة.

فبحكم الطبيعة الإحالية للغة كنسق علاماتي لا يتوقف عن تخليق علامات تحيل إلى علامات ـ  فإن كل نص  يشير بالضرورة إلى نصوص أخرى سابقة عليه، لكن هذه الإشارة قد تمر عبر لا وعي الكاتب، وعلى غير إرادة منه، وتتسلل إلى الطبقات المضمرة في نصه، بل ربما لا يعترف الكاتب نفسه بها.. بينما نحن هنا أمام علاقة تناصية معلنة ومشهرة ابتداء من العنونة.. وتدلنا عبر سطور الرواية، على إحالاتها المحفوظية، أو تتركها لفطنة القارئ.

وبالتالي رهانات قراءة وتأويل “أبناء الجبلاوي” ستظل مرتبطة برهانات قراءة وتأويل نجيب محفوظ نفسه. ومثلما دشن محفوظ  أكوانه السردية الوجودية يقف فرغلي ندًا له في قدرته على استعادته وتمثله، وتشييد كونه السردي الخاص به، ببناء لعبة تخييلية تتكئ على التخييل المحفوظي وترتبط به إلى الأبد.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم