فصلٌ من رواية “شبـاك المنور”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فاطمة الشرنوبي 

أطلقتُ صرخات متحشرجة وهو يقبض عليّ من الخلف، كتم أنفاسي بكفّ وأحاطني بالأخرى، رفعني عن الأرض في تمكّنِ ذئب متمرّس، لم تتوقف ساقاي عن رفسه دون جدوى، ابتلع الخوف صوتي وأوهن أطرافي، سحبني في لمح البصر إلى غرفة المخزن، لم أكن قد دلفت إليها من قبل، كانت خالية إلا من أكوام كراتين وكتب معفّرة زادتني انقباضا واختناقا، اختفى آخر خيط ضوء في الغرفة لما دفع الباب خلفه، وكأنني دُفنت حية في قبر موحش، ثم … باشر بفعلته القبيحة.

  • جسدك أرض حرام، أحيطي نفسك بسور العفّة، إياك إياكِ أن يطأها أي أحد كائنا من كان!

ترددت الكلمات بصوت أبي، وتردد صداها في رأسي، لم ألمح طيفه، لا لم ألمح، ربما ظلّ حبيسا بين جدران غرفتي، ولكن كلماته اخترقت الجدران ونَفَذَت عبرها إلى حيث أنا وقتذاك، كان صوته جليّا ثابتا قويا غير مهزوز ولاخافت، امتزجت حيطان البيت وحيطان المدرسة في رأسي، سقف البيت الخفيض الخانق وسقف المدرسة العالي المُقبض الباعث على التيه؛ صفع رأسي مشهد من فيلم عربي قديم … كانت صرخات الفتاة تدوّي في كل الأرجاء، تركل كدجاجة ذبيحة ترتجي الرحمة من غاصبها بينما قيد ذئب بشري – تشعّ من عينيه نظرات بهيمية شَبِقة – ذراعيها وساقيها في أعمدة السرير، كتم أنفاسها بشريط لاصق كي يهنأ بفعلته دون إزعاج … ارتطم جسدي بقوة على الأرض، قررت أن أتحلى بالقوة والثبات، ألا أصير مثل فتاة الفيلم، ألا أصرخ، لمحته وقد بدأ في فكّ أزرار قميصه، أغمضت عيناي، استدعيت أبي … وجاء أبي، “جسدك أرض حرام،” صوته يناديني، يخبرني أنه سيأتي لي بفستان جديد، بدمية جديدة، “ستختارينها بنفسك،” ثغره الباسم يدعونني لأشاركه وقته طالبا مني إعداد كوب من الشاي (في الخمسينة)، تبدّى لي كل ما أحبّ، الدفتر في درج الكومود، هاهي كلماتي الأخيرة فيه، قلمي الرصاص الذي أحتفظ به بين أغراضي، هاهو ينتظرني، انسحبت في خيال كان دائما وأبدا هو ملاذي، حدث كل شيء دون وعي، لازلت مغمضة العينين، وحيدة، تائهة، ملقاة على أرضية غرفة كقبر مظلم يبتلعني في وحشته، ارتفع صوت أزيز الباب ووقع أقدام مغادرة.

وكأن الكون كله توقف فجأة عن الحركة، انسحب الأكسجين من ذرات الهواء، انطفأ نور الشمس، تغير مسار أشعّتها إلى كوكب غير كوكبنا، لا خوف فيه ولا هول، وتوقفت مجرتنا عن الحركة،  توقفت الأرض عن الدوران واغتال الليل قمرنا، استطالت الجبال أميالا تحبس الحياة وراءها، وتجمّدت المحيطات بمدّها وجزرها، أهلكت البحّارة في عَرضها والحيتان في قيعانها؛ تسنّدتُّ على الجدار، بالكاد حملتني رجلاي، شعرت بتمزق يشقني نصفين، كتمت تأوهاتي، دارت الدنيا من حولي، ساقية لا تتوقف، ملابسي التحتية وقد انتُزِعت عني انغمست في شيء لزج أثار اشمئزازي، كدت أصرخ بصوت مرتفع، أحكمت قبضتي على فمي، وكأنه علينا أن ننساق إلى أقدارنا دون أن نصرخ أو نتأوّه، هكذا في انبطاح تام دون استهجان لما يهبط فوق رؤوسنا من حنق الكون يوما بعد يوم، صفعتُ وجهي مرات عدة، كدت أُجنّ … أفقد صوابي إلى الأبد؛ يبدو أنه قد فُعل بي ما حذّرتنا منه الأخصائية النفسية في المدرسة مرات عدة، لم نكن أنا وزميلاتي نعي جيدا ما تقول، ولكن كنا نفهم أنها تحكي عن أمر شيّق مثير لم نجربه من قبل، ربما نستدعيه في أخيلتنا أو يهبط تلقائيا فوق أحلامنا، كنا كلما دخلت علينا الأخصائية تبادلنا نظرات شغف من أطراف عيوننا وكتمنا ضحكاتنا بأكفّنا الصغيرة، “سنتحدث عن الجنس الآخر وعن حدود أجسادنا وعمّا نبقيه سرّا في دواخلنا”، هكذا كانت تبدأ حديثها، موضوع جديد وحديث أكثر إثارة من نظريات فيثاغورث وأينشتاين في حصص الرياضيات والعلوم وأيسر كثيرا من قواعد النحو المعقّدة في حصص اللغة العربية، كان أغلبنا لا يعلم عما نسمعه شيئا في تلك المرات وإن قَلَّت ولكننا كنا ننتظرها من المرة للمرة.

ظل رأسي صاخبا، لم يهدأ من دقّ المطرقة التي تضرب مؤخرته كلما خشيت أمرا مجهولا، حاولت أن أستقيم، لا بأس حتى أن أقف منحنية الظهر، راكعة، لم تقدر ساقاي على حملي، سقطتّ أرضا، انكفأت على وجهي، وضربت الأرض برأسي حتى شُجّت جبهتي وابتلعتني الدنيا في دوامة، وقفت ثانية في إصرار كي أهرب من أي أعين متلصّصة قد تكون على مقربة مني، هندمت ملابسي، وخرجت كعرجاء تزحف بنصف ساق إلى الرواق الخالي، لم يكن هناك أحد، فقط صمت وعتمة قبور، خطوت بساقين منهكتين وروح منهزمة عائدة إلى البوابة الرئيسية، مررت بجانب بواب المدرسة، كان يجلس على كرسيه الخشبي الذي يتخلى لي عنه في الفسحة، رمقني بريبة بادية على نظراته، أردت أن أبلغه أنني لا أستحق كرسيه فقد فُعل بي أقبح فعلة ارتُكِبت على وجه الأرض، كم كنت سأبدو غبية إذا تفوهت بأمر كهذا حينها، مشيت بمحاذاة سور المدرسة وسلكت الشارع الضيق الفارغ إلا من أرصفة متكسّرة على الجانبين.

شعرت أن أحدهم يلحق بي، تتسارع خطواته تباعا، يمسك بأطراف ثوبي، يعرقلني.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية مصرية، والرواية صادرة عن دار الشروق ، حصلت على جائزة خيري شلبي للرواية 2024

مقالات من نفس القسم

amr ezz aldeen
تراب الحكايات
موقع الكتابة

فيزوف

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

النملة

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

الكلب

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

الطيور