همهمات وروائح تخلخل جذورى

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 54
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

صفاء النجار

خطوات متسارعة، تتباطأ بعد المرور بمكتبى.. الباب المغلق لا يمنع همهمة الأصوات المكتومة من الوصول لأذنى، هل أفتح الباب قليلًا؟ بحجة تهوية الغرفة.. لا يريد منى أحد أى حجة، يتحدثون معى باقتضاب، لا يعلنون عداءً أو رفضًا صريحًا، لكنهم لا يتباسطون، لا يتركون ألسنتهم تزل، يضبطون إيقاعهم على الحياد، تتسرب رائحة نفاذة.. تشير فتاة فى السوبر ماركت إلى والدتها، فتهرع الأم وتقف متأملة، بجوار ابنتها، سمكة رنجة مدخنة، تراها الشابة لأول مرة.
– إيه ده؟
تهز الأم رأسها نفيًا، أقترب منهما وأقول:
– رنجة. سمك مدخن، لا تعرفوه؟
– لا. مش عندنا فى سوريا.
– سوريا! جربوها، حلوة جدًا.
رائحة الرنجة المدخنة تملأ الطرقة أمام مكتبى، تتسرب من تحت فتحة الباب، تتجمع حولها الخطوات المتسارعة، هل اقترب شم النسيم؟، أم مجرد عزومة عابرة؟

أتمركز خلف الباب المغلق، لا يشعر بى أو يتذكرنى أحد، وإذا تذكر أحدهم، فإن الحاجز اللا مرئى سيرتفع.
– ابعدى عنها ١٧ كيلومتر.
هكذا نصح مديرى الزميلة الجديدة، بعد أن قدمنا لبعضنا البعض، واستأذنت فى الخروج لمحاضرتى، لكنى نسيت مفاتيحى فعدت لتصدم العبارة أذنى وأنا مندفعة لفتح الباب، أخذت المفاتيح فى صمت وهو لم يوضح شيئًا، والزميلة كان الذهول كاسيًا وجهها.
ما الذى جعل الديناصورات تسود على الأرض، لا بد من سر، الديناصورات انقرضت، قبل أن تنقرض قامت بينما الأحياء تتساقط، أخذت نفسًا عميقًا أمنع به دمعة من حفر أخدود فى وجهى، أضبط هندامى مع نفس عميق ثان، لا بد وأنه التنفس، شىء خاص بقدرة الديناصورات على التنفس، لعل رئتيها أكبر، لعلها أكفأ.
«أعتمد عليكِ كثيرًا لأنك الأكفأ». عبارة مديرى التى ظل يرددها كلما رأى منى تذمرًا أو احتجاجًا على كثرة المهام المطلوبة منى، بعد فترة بسبب التعود، بسبب الملل، تقل الكفاءة، فتنزاح الديناصورات وتنقرض.
تختلط الروائح.. بصل أخضر، يوسفى، طعمية.. مَن صاحبة العزومة؟
صاحبة العزومة من المتزوجات، الآنسات تخصص شيكولاتة، ساليزون على أقصى تقدير، لكن الرنجة واللمة هذه شئون عائلية، التفاصيل تحتاج إلى فيض أمومى وجرأة وتعود على المكان، وأنا ساق وحيدة بلا ثمار، بلا أزهار، بلا أوراق.. فقط تتصارع جذورى فى الظلمة، أشعر بهشاشتها، قلة ما يصلنى من رسائل، الترحيبات العميقة، الاسترسال فى سرد الحكايات عن الأزواج، الجمل المفتوحة بلا نهاية عن شقاوة الأولاد.. الضحكات التى لا تنقطع بمجرد دخولى المبنى وتضيف ضحكتى المزيد للصخب.
لسنوات امتدت جذورى، تشعبت، ارتبطت، تشابكت، لكن هذا الصمت والرائحة التى أخمن ماهيتها، تخبرنى أكثر عن الخلخلة التى تحدث لجذورى حتى تكاد تظهر على سطح الأرض، عن العرى التى تنفصم، الرسائل التى لا تصل فتنذرنا كمجموعة من هجمة جراد قادمة، أو سطوع زائد للشمس أو سحب سوداء وبرق ورعد.. أنا فقط مجرد ساق، الكل يدرك هذه الحقيقة، المحيط الهادر لم يكن سوى حوض زجاجى وأنا سمكة زينة أتقافز فيه.
كل يوم تتغير كلمة السر لبوابة المدينة، وكغريبة أو مستجدة يعطينى الحارس كلمة السر للغد، القدامى والمقربون لديهم الدليل لمعرفة كلمة كل يوم، لم أتسلم دليل هذا العام، والكل بدأ يلاحظ ذلك، لكنى ذات صباح على مكتبى وجدت ورقة مطوية بها كلمة أو رمز. خمنت أنها كلمة سر الغد لذلك اليوم، عند بوابة الخروج أعطانى الحارس الكلمة، فى سيارتى قارنت الورقتين فعلًا هى الكلمة نفسها، لكن واحدة مطبوعة والأخرى بخط اليد. فمن يتعاطف معى؟ من يغامر بثبيت جذورى التى تخلخلتها ضحكات مكتومة وخليط من روائح البصل الأخضر والرنجة واليوسفى.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون