هذَيانُ مُحْتَضَر

 عبد السلام بوزمور   
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 عبد السلام بوزمور   

    ها أنا ذا قدْ تجاوزتُ الثمانينَ من عمري، ولَمْ أسْأمْ بَعْدُ. ما كنتَ يا زُهيرُ يا ابنَ أبي سلمى حكيمًا حينَ أردتَ تعميمَ انهزامِك أمامَ تَكاليف الحياة؛ فأنا لستُ مِمَّنْ سَلَّموا بحِكْمتِك ورَفَعوا الرايةَ البيضاء في وجه الحياة لمَّا بلَغوا هذا العمر؛ الحياةُ عندي تبدأ بعد الثَّمانين، أجَلْ، بعد الثمانين، لأنني تخفَّفْت من معظم أعبائها، فهاهو آخرُ عِبْءٍ، طالما تاقَتْ نفسي إلى التخَفُّفِ منه، ينزاحُ عن كاهلي، فقد اختطفَ المَنونُ شريكةَ حياتي، فخَلَتِ الطريقُ أمامي لتجديد فراشي الذي ظلَّ يئِنُّ سنينَ طويلة تحت سِياط الحِرمان، منذُ أن صارت زوجتي ناشزا.. كانتْ تعاقبني على خفَّةِ عقلي، كما كانت تقول، وهرْوَلَتي باستمرار خلْف كل امرأةٍ لعوب، فأعرَضَتْ عن تلبية حقي الشرعي. حينَ كنت أهدِّدُها بأن ما تفعله مخالفٌ للشرع، كان ردها مُفْحِما: وهل ما كنتَ تفعله، أيها المتصابي، موافقٌ للشرع؟ كانت ذكية، فلم تُبالِ بتهديداتي، لِثقتِها في العدل الإلهي، وليَقينِها أن اللهَ لن يحاسبَها على ذنبٍ جاء نتيجةَ عقابٍ على ذنبٍ أكبرَ منه.. تَركَتْني مُعَلَّقا بين الرغبةِ والرَّهْبة.

    تظاهرتُ بحزنٍ قاتلٍ عليها، ترفده أنهارٌ من عَبَراتٍ تماسيحية، لإِخْلاء ذِمَّتي من كلِّ  شُكوكٍ قد تُخامِرُ أبنائي وأحفادي، عن صِدق تعلُّقي بأُمِّهم وجدَّتِهم، لكنَّ تلك الدموعَ سرعان ما نَضَبتْ، لِأُفاجئَ الجميعَ، في اليوم الموالي للذكرى الأربعينية لوفاتها، بمظهرٍ جديد: حلَقتُ شاربي وشذَّبتُ لِحيتي.. كنت استمتعُ برؤية علاماتِ الاندهاشِ على وجْه كلِّ من يراني منهم في مظهري ذاك لأول مرة؛ بعضُهم تجْحظُ عيناه وترتَسِمُ على شفتيه ابتسامةٌ، سرعان ما ينتَبهُ فيبْتلعُها؛ كادتْ أنْ تستَهوِيَني اللعبةُ فاشتري بدلةَ جِين وحذاءً رِياضيا، وأخلعَ الجْلبابَ والسِّروالَ البلدي، ولكنَّني فضَّلتُ أنْ أدخلَ إلى الجِد، ففجَّرتُ في وجوههم مَطلَبي الذي لا مَحيدَ عنه، وهو حقي في الزواج، وبسرعةٍ قَبلَ فوات الأوان.

     ها قدْ مرَّت الآن سنتان كاملتان، وأنا أرْفُلُ في نَعيمي مع زوجتي الجديدة… هي ليست جديدة ًبالمعنى الحقيقي، وإنما هي جديدة بالنسبة لي، فأنا اليد الثالثة أو الرابعة التي تستعملها، إذا استَعَرنا لغةَ سماسرةِ السيارات المستعملة، فقد تَرَمَّلتْ قبل ترمُّلي بثلاثة أشهر، فاعتبرتُها هديةً من السماء؛ قررتُ أنْ تكونَ من نصيبي، قبل أن تضيعَ مني بأن يُبادرُ أحدُهم إلى الزواج منها، إِذ اعتادَتْ أن يَحوزَها أحدُ الأراملِ بمجرد انقضاء عِدَّتها.. وتلك كانت إحدى أهمِّ ميزاتها، فهي لا تعيش مرحلةَ فراغٍ بين زواج وآخر، عدا فترة العِدَّة الشَّرعية.. وأنتم تعرفون أنَّ الطبيعةَ تأبى الفراغ، ما يَتْرُكُ بابَ احْتمالِ مَلئِه بطريقة ما أمرًا واردًا، وهو ما لا يحصل بالنسبة لها، فيدعو ذلك إلى الاطمئنان.

     قلتُ لنفسي أنا أوْلى بها، فلمْ يَعُدْ في العُمر بقيةٌ تحتَملُ الانتظار، ولم يعد في طاقتي احتمالُ مَزيدٍ من الحِرمان؛ فأعْلنتُ حالةَ الطوارئ، ودعوتُ أبنائي إلى اجتماعٍ طارئ، في جدولِ أعمالِه نقطةٌ واحدةٌ وحيدةٌ: الزواجُ من فريدة. ألقيتُ عليهم خطبةً عَصْماء، رفعتُ فيها عَصا سَخَطي في حالِ عِصْياني وخِذْلاني، ومَدَدتُ لهم حبلَ ودّي ورِضائي في حالِ طاعتي وإرضائي، فانْفَضَّ الاجتماعُ بَعْد أنْ وافقوا بالإجماع.

     عَشيةَ اليومِ التالي، حلَّتْ فريدةُ ببيتي.. لنْ تَتخَيَّلوا، أيها السادة، مقدارَ ما غَمرَني من سعادة. فما أجملَ أنْ يعودَ الشيخُ إلى صباه!

…………….

*قاص من المغرب

 

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون