إنجي همام
في مغامرة جمالية أدبية من التجريب والتجريد تخلق إبتهال الشايب عالما قائما على الأفكار .. أو تشخيص الأفكار، تطمس ملامح العالم الذي نعرفه لتخلق عالمها الخاص، تتكيء على التكعيب شكلا والسريالية مضمونا، الكاتبة التشكيلية كما يروق لي أن أصفها الآن، تبعثر عناصر الواقع … تطيح بها، وتشكل من مخيلتها الخصبة الواعية مستعينة بالفلسفة والفن التشكيلي كأبرز الأدوات المستخدمة في نصها البديع “شوك وحيد” واقعا آخر، نص يفيض بالرمزية بلغة مركبة، يدور النص في فضاء مخترع هو المربع .. تسكنه كائنات ذات تجسيد وتجسيمغريب عن ما نعرفه، عالمها تحكمه مصادر الضوء والغبار والهواء الأصفر، أحداث النص تدور حول صراعات وجودية مثل الهوية والغربة والرغبة في التحرر والتغيير والإنفصال، “الوحيد” بطل الرواية المحوري يعيش صراعا متعدد الطبقات في محاولة مستمرة لفهم ذاته وعالمه، هناك أيضا البديل والشبيه، كصور ومستويات أخرى لانقسام الذات، يحتمل النص طبقات من التأويل المتعدد بحسب رموزه وشخوصه وكياناته التي تحمل وجوها ثرية، يتنقل السرد بين صوتين، هما صوت الوحيد والقدر العظيم، يشكلان بنية النص، لا يسير النص في شكل خطي تقليدي .. بل أن الشايب اختارت المغايرة في كل شيء في تجربتها الأبداعية الجديدة، في ذلك المربع .. ذلك الفضاء الهندسي المعلق في الهواء، تسكن كائنات لولبية الشكل، تتحرك عن طريق الزحف، تتصل بمصادر الضوء من خلال أجسادها ويمدها الهواء الأصفر بالحياة، بطل الرواية كائن مختلف، يرى العالم من منظوره الخاص، يعيش أزمة هوية مزدوجة مع نفسه من ناحية، ومع من حوله من ناحية أخرى،
أسلفت منذ قليل أنه يروق لي الآن وصف الشايب بالأديبة التشكيلية وذلك النص تحديدا هو السبب وراء ذلك، أرى في “شوك وحيد” كتابة أقرب إلى التكعيبية.. تلك الشخوص المبنية بشكل بصرى هندسي “مرفق” “لولب” “وجه دائي” “جسم مخروطي” وذلك الفضاء المربع العالم منقسم إلى بوابات وقنوات وزوايا مرئية من عدة اتجاهات، ما يشبه لتجسيد بيكاسو للمشهد داخل لوحة.. وكان ذلك أول تأثير للنص على عقلى وروحى، السرد غير الخطي يمضى بنا داخل متاهة.. أو ربما هى لقطات متكررة عبر زوايا مختلفة كما لو أننا ندور حول الكائن لنراه من كل اتجاه في ذات الوقت. تملؤني الأسئلة طيلة القراءة حتى أنني رغبت في وضع قراءة على هيئة مجموعة من التساؤلات، لكنى أعود لألملم بعثرة أفكارى خلف أفكار النص.. وأعود لأسئلته التي يطرحها هو بشكل فلسفي عميق.. هل نملك حريتنا، هل نحن أفراد هذا العالم في الشكل البشري الإنساني أو في أى شكل آخر نملك بحق الحرية؟ أم أننا مجرد خيوط في يد كبرى لا حول لنا ولا قوة، هل التغيير فعل ممكن جائز؟ أم أنها مجرد أحلام طفولية تشدنا إليها يد النشوة في لحظات الجموح، ثم يعود الواقع ليعيد تشكيل نفسه وإحكام قبضته حولنا من جديد، هل كانت تجنح الشايب في وضع رموزها لفكرة المخلوقات والحرية والإرادة بشكل مطلق أم أنها كانت تنفلت من يد الرقابة لترمز لأوضاع إنسانية سياسية بحتة جرت وتجرى في كل عصر ومكان، بالطبع لكل قارئ ما أراد.
أود أن أعترف أن اللغة هى مدخلي إلى أى نص ومدخل أى نص إلى وهو ما حدث هنا
اللغة في شوك وحيد
جاءت مصنوعة بعناية مشبعة بالإنزايحات والمجازات، لغة شعرية دون ايتزال، مركبة دون تعقيد، لم تكتف بوصف العالم بل أعادت تركيبه من خلال اللغة، فلم يقتصر تفكيك الكاتبة على العالم الكلي.. بل راحت تفكك كل التفاصيل صغيرها وكبيرها إلى مكوناتها الأولية، ومن ثم تعيد تركيبها من جديد وفق منظورها الخاص… التوصيف للأشياء مثل (الهواء الأصفر – الخيط الممتد من الرأس – الأجسام اللولبية) وغيرها، قدمت بنية لغوية تعدت التصوير لتصبح جزء من بنية السرد نفسه. استخدام صوت الوحيد وصوت القدر العظيم خلق طبقتين داخل اللغة.. الأولى متوترة منكمشة والثانية باردة متأملة، في بعض الأجزاء جاءت اللغة غامضة ولكنها مقصودة.. فهى تعود لكائن يرى العالم حوله مفككا ويحاول من خلال حديثه أن يرتب شتاته الداخلي.
الجغرافيا المتخيلة
الجغرافيا هنا هي ابنة ذلك الخيال الذي قام بتفكيك العالم ليخترعه وفق رؤيته.. في فضاء هندسي يمثل واقعا مغلقا معلقا في الهواء يحده اتجاهات هى الشمال والجنوب والشرق والغرب، يخضع لإنغلاق دوري أفقي ورأسي.. ذلك الفضاء الهندسى المعرف بالمربع لم يكن مجرد خلفية جغرافية بل هو أيضا كيان فعال يتعاطى مع الشخصيات ويعيد تشكيلها، القنوات والغرف والبوابات ومصادر الضوء جميعها تفاصيل مكانية مبنية على منطق داخلي صارم.. لا توجد جفرافيا خارج المربع، بل مجرد إشارات إلى المدخل المظلم إو بوابات الشمال مما يعزز حالة العزلة الوجودية وعهي في النهاية جغرافيا رمزية أحالتني لكتابات كافكا غير أنها هنا تتخذ شكلا بصريا أقرب للتكعيبية المرسومة>
الشخصيات
يُعد “الوحيد” شخصية غير نمطية أو تقليدية بل هو أقرب ما يكون إلى فكرة مجسدة.. يعانى من اضطراب هوية.. إنقسام داخلى.. وقلق وجودي دائم. أما البديل فيشبهه غير أنه أكثر طواعية منه، الشبيه جاء كمرآة لماض أو خيال متبق، الأب أو الملك يرمز إذا السلطة والتحكم في مصائر من حوله، الصراعات بين الشخصيات ليست خارجية فقط، بل هي أيضا إنعكاسات نفسية معقدة مثل “التماهي، الإنكسار، التنافس والذنب” أما أهل النور وسكان المدخل المظلم فتلعب دور المحفز أو النذير.
الزمن في النص
اعتمدت الرواية التجزئة والتكرار والتراكب.. فجاء الزمن دائري يتكرر فيه الإنغلاق والإنبعاث فلا نحصل على الأحداث بشكل متسلسل، بل نكتشفها بالتدريج كقطع فوسيفساء أو بازل. الأحداث الكبرى لا تظهر بشكل فجائي، بل تبنى بتوتر بطئ نسبيا. بنية الراوية أقرب إلى المعمار الصوتي تتوالى المشاهد كحلقات، كل منها يضئ جانبا من العالم الداخلي للشخصية أكثر من كونه دافع بالسرد للأمام.
الصور والمجازات في شوك وحيد
صاغت الكاتبة الجسد بلغة معدنية مثل مرفق، لولب، أصابع عظمية، أما الخلاص فصورته على شكل التعلق بمصادر الضوء أو نزع الجسم اللولبي، ووصفت الحرب كفعل بارد وعيني كمن ينزع ذرا من قميص أما المجازات عندها فهى آلية للفهم، لا يمكن للقارئ أن يتصور العالم دونها حيث أنها تؤسس لمعجم هذا العالم، فهى تشبه البناء التجريدي البصري الذي يفكك العالم ليعيد صياغته، لم يكنن هناك مباشرة أو وعظية في طرح الصور بل جاءت بشكل فني ناعم ونفس تأويلي رهيف.
الشكل
من حيث الشكل الفني فقد جاءت الرواية في مقاطع قصيرة تشبه اللوحات أو مقاطع قصيدة نثرية من خلال تناوب الأصوات وتركيب الجمل بشكل إيقاعي، ليس هناك فصول أو ترقيم، بل وحدات سردية متداخلة، البناء الكلي اتخذ شكل دورة (زحف – إدراك – نزع – حرب – إنغلاق – إعاد تشكل) مما جعل النص أشبه بمقطوعة موسيقية قائمىة على الإيقاع والتكرار وتراكب الأصوات ووحدة النبرة الداخلية من توتر وهدوء أو تقطيع.
الخيال
الخيال في النص توليفة خاصة بين السريالية وكوابيس دستوبية مستقبلية، لكن وبالرغم من تلك الأجواء الوعرة إلا أن الشاعرية ظلت مسيطرة على روح اللغة، فحتى أكثر اللحظات قسوة وقتامة صاغتها الكاتبة بجمالية عالية. الرواية كما ذكرت في البداية قائمة على الأفكار أو بوضوح أكبر تشخيص الأفكار وتحويلها لكائنات ذات تاريخ ومصائر، “شوك وحيد” تجربة رمزية غنية بالطبقات والأبعاد النفسية والفلسفية والسياسية، تطرح الأسئلة أكثر مما تقدم إجابات، وتختبر حدود الشكل السردي التقليدي، ليست رواية سهلة القراءة ولا تمنح نفسها لقارئها ببساطة، غير أنها تمنحه اختبارا جماليا وفلسفيا.. كما تقدم صورة زاهية للأدب العربي التجريدي وهو ينحت رموزه الخاصة خارج الأطر الغربية المعتادة. لا تصلح الرواية لمن يبحث عن سرد مباشر حيث أنها تتطلب التأمل والتفكيك، هى ليست رواية واقعية ولا حتى فنتازيا تقليدية، بل عمل رمزي بصري لغوي يعيد اختراع العالم من خلال التكوبين والتفكيك، هى رواية الجغرافيا الداخلية والهوية الهاربة واللغة التى تصوغ المصير. في الأخير ليس غريبا كل هذا عن رواية تم إهداؤها إلى كل شيئ مضمر وغائر.. وكاتبة تكتب للأفكار والأشياء البعيدة المختبئة التى لا تمنح نفسها دون عناء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية وناقدة مصرية، الرواية صدرت عن دار النسيم 2025