جدي علي .. فصلٌ من رواية “شارع السبع بنات”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

علي صيام

 بالأمس كنت شجرة، أيوالله، رأيت نفسي مزروعًا باسقًا في وسط شارعنا، يطل رأسي عاليًا من فوق البنايات، الناس يجرون من حولي صارخين، يقف أبنائي وأحفادي تحتي متشبثين بجذعي، خفت يكون يوم القيامة، إذ مالي تحولت إلى شجرة! مددت فروعي أحميهم من الدخان المتصاعد في كل مكان، كل فرع ينتهي بثدي يلقمه فم أحدهم، شعرت بتدفق الحليب الدافئ إلى أفواههم راضعين ففزعت، الأرض تموج حولي والبنايات تقع، أرى بيتي يهتز كأنه جيلاتيني، زُلزلت الأرض وزلزلتني، لا أدري من أين أتت تلك الهزة بكل تلك القوة، هل انطلقت من جذوري أم أتت من خارجي؟ تصاعد دخان حرائق تندلع حولي فأكب لبن أثدائي محاولًا إطفاءها، شعرت برجفة قوية فخفت، ورجفة أقوى.. فاستيقظت..

– “الشاي يا حاج”.

استيقظت على يد زينب توقظني بعد أن غفوت قبل عيد ميلاد “دهب” ابنة حفيدي الذي يقيمونه في بيتي، بسملت واعتدلت أنظر لها وهي تمصمص شفتيها باسمة، تعرف أنني كنت أحلم من تصبب عرقي، ولكنها أبدًا لا تسألني عن ماهية الحلم إلا إن رويته، جففت عرق رقبتي بكم جلبابها وقبّلت رأسي وأنا أستعيذ بالله من ذاك الحلم الغريب، مسحت رأسي ثلاثًا وتفلت عن شمالي ثلاثًا، كدت أن أروي منامي لزينب، ولكن تذكرت كلمات أمها “نابئة” وهي خالتي رحمها الله، تذكرت حينما ذهبت أروي حلمًا أصابني شعرت أنه نذير سوء فنهتني عن الحكي، شدت جلبابها من عند الصدر وتفلت داخله وبسملت وقالت لي “إياك”، وعللت: “إن حكيته يحصل” لم تكن تلك نظريتها الوحيدة عن الأحلام فهي كانت تعرف الكثير عن هذا العالم اللامعقول الذي ما زالت تزورني منه بعد وفاتها بعقدين ونيف.

 قبلت كف زينب وقررت النهوض، خطوتان حتى الكرسي بجانب الفراش ثم جلست أرتاح، استغربت تكرار المنام في تعسيلة المغربية بعد أن داهمني أيضًا ليلة البارحة، وقررت نسيانه مع أول شفطة شاي.. نهايته، أردت أن أذهب للحمام ولعنت الحُمرة في قدمي التي تمنعني من الذهاب لأي مكان فور استيقاظي، أحاول أن أتذكر كيف تعاملت أمي -رحمها الله- مع ذلك المرض حين كانت في مثل سني فلم أتذكر، فترحمت عليها وفتحت من النافذة ما يسمح بخروج دخان سيجارتي، وحين لفحني الصقيع قلت قولها: “في كيهك صباحك مساك، تقوم من فطورك تحضر عشاك”، كيهك يعني ديسمبر شهر الخمول والنسيان، ولكن لا إنه شهر التذكر، شيء في هواء هذا الشهر محمل بالذكريات، نعم كيهك إسكندرية محمل بعبق الماضي، وكأن البحر ينفض كل ما ألقي فيه في كل العصور في هذا الشهر.

تحملت البرد وأسندت سيجارتي على “الطقطوقة” البرتقالية، مطفأة على شكل قوقعة يتردد صوت البحر في صداها إلى الآن، أما عنها فلها ولمن أهدتني إياها حكاية عجب عجاب، كان هذا في كيهك أيضًا وأنا صغير..

لا أعرف اسمها الحقيقي ولكن الجميع كان يناديها بسقساقة والصغار مثلي حينها ينادونها بالخالة سقساقة، كانت من الغجر، لجمالها سحر أسطوري، بعينيها الملونة اللتين أقسم إني لا أدرك لهما لونًا بين الرمادي والأخضر والأزرق وما غير ذلك، وشعر فاحم ثائر ينتهي فوق عجيزتها، وأحيانًا بعدها، لا أدري كيف تتحكم في طوله ولم أشغل بالي بذلك كثيرًا؛ فهي المرأة التي علمتني معنى الأنوثة بجمالها الأخاذ قبل أن ينبت شاربي، النمش المنثور على وجهها وثديها وما تحت ذلك، كانت كاملة ولكن الكمال لله فلم تمتلك إلا ذراعًا واحدة، قالوا إن الأخرى بُترت بسبب جمالها، قالوا إنها ضحت بها من أجل سحرها، ولكن أيًّا كان فتلك الذراع الناقصة لم تنتقص من جمالها الإلهي شيئًا، حتى إنها امتلكت في ذراع واحدة كل قوة الهناجرة، رغم أنها لن تحتاج لهذه القوة اللهم إلا قوة دق الوشم الذي ذاع صيتها فيه، فيقال إنها حين تختفي أيامًا يكون لدق الوشم في بلاد بعيدة أو عند الناس الأكابر فهي تعرف تعويذة الوشم المناسب لكل علة، أما عن القوة فمن ذا الذي تسول له نفسه على التجرؤ من الاقتراب من امرأة تربي في بيتها “ديب”، يمشي معها وينام تحت فراشها أو عليه كما يشيعون، ليس كلبًا من فصيلة الذئاب بل ذئب جبلي رمادي تطعمه اللحم الني وتسيطر عليه كأنه بِسة، هذا ما كان من أمر سقساقة.

 أما ما حدث معها أنني كنت أقرب عيال الحتة إلى قلبها، تعود من سفرياتها فتهديني الكرملة أو تطهو لي طعامًا لا يحضره غيرها ولا أعرف مم يتكون. حينها كم كان عمرك يا واد يا علي؟ عشر سنوات أو أقل، وطلبت مني ذات ليلة أن أقابلها عند عمود السواري، لماذا؟ لا أعرف إلى الآن والله إلا أنها قالت: “تصلي العشا ونتقابلوا هناك”، ورغم أن بيتنا كان في منطقة العمود وشُرفتي تطل عليه صباحًا ومساء إلا أن أساطير الليل كانت تمنعني من الاقتراب منه ليلًا اللهم إلا من خلال الشرفة، فعقلي يقول إن الشرفة تقع داخل حيز البيت ولا تعد خرقًا للأساطير فيمكنني البحلقة على راحتي، ولم أرَ أبدًا شيئًا من الأساطير وحين أحكي لسقساقة أنني ظللت ساهرًا كي أرى ملك الموت الفرعوني الذي يجلس ليلًا فوق العمود يراقب العباد حتى نمت ولم أره تقول: “يا عبيط ما أنت اللي نمت”، ورغم أنني لم أرَ شيئًا حينها إلا أن الخوف تملكني دائمًا، على كلٍّ فقد ذهبت إليها كما أمرت، كانت ليلة ممطرة والقمر بدر، الظلام دامس وأتحسس طريقي بخطوات مرتعدة، أخشى أن أنادي عليها فيرد علي أحد آخر.. أو شيء آخر، وجدتها تجلس تحت سفح العمود وكأن أبا الهول يحرسها، تتمتم بما لا أفقه، رأيتها بعيني تمسح شعرها بتراب عمود السواري، والذئب -أو كما تناديه دياب- نائم أمامها كجثة يبحلق في ثناياها بلسان متدلٍّ وعين شهوانية مثبتة على صدرها المكشوف المبلل بقطرات المطر، تعثرت خطواتي في الظلام والرعب فنادتني دون أن تلتفت، كانت أجمل وقد انعكس ضوء القمر على وجهها وأنار شعرها المعتم الهائج فتحولت خيوطه نورًا أو هكذا خيّل إلي بسبب الخصلات البيضاء التي تخللتله، سألتها: “إزاي عرفتي إنه أنا يا خالة سقساقة؟”.

أجابتني بعد أن ضربت دياب وهو يلعق عضوه فزمجر غاضبًا فضربته ثانية فأخذ يتمسح بها وهي تجيب:

“من ريحتك يا ولا وأنا هتوه عنك؟”.

كيف لها أن تعرف رائحة الجميع، سمعت أنها تملك حاسه شم دياب، فتساءلت هل تتحول هي الأخرى لذئب وأنا قد قاطعت طقوسها؟ لماذا استدعدتني هنا ليلًا؟ أعترف أنني أعشق الغجر وهالة المرح والسحر وخاصة الغجريات، حذرتني أمي منهن كثيرًا قائلة: “الواحدة منهم لو شمت نظرتك ممكن تاكلك”. طفقت حينها أفكر كثيرًا: أيووه كيف للنظرة أن تُشم؟ ولم أفهم! يتردد صدى كلمات أمي وأنا أواجه الآن عيني سقساقة، ومن كثرة ما سمعت طاف بذهني الكثير من الأسئلة وأنا أحدق في ثديها العاري، هل..
باغتتني فجرحت يدي بقرن الغزال في يدها ثم وضعت أصبعي في الرمال التي كانت تتحمم بها، أقسم إنني رأيت كيانًا يتحرك بجانب بقايا السيرابيوم، ولكنها وضعت يدها السليمة على وجهي كي لا ألتفت إلى ما يتحرك ورائي، ولكني رأيت انعكاسه في عين دياب المتحدي.. وشلني جمالها، لم أتجاوز العاشرة ولكن جمالها جعلني رجلًا يهيم ويتيه بها فابتسمت، وقد بدأ دياب يغار فيتمسح بها وعضوه الغليظ منتصب، نسيت يدي المصابة والكيان الأسود الذي يتحرك في الظلام، كان تركيزي كله معها فاستجمعت شجاعتي وسألتها:

“هل حقًّا دياب كان عشيقك؟ هل أنتي ساحرة كما يشيعون؟”، فأجابت:

“هقولك نصيحة يا ولا.. لا تصدق كل شيء، ولا تكذب كل شيء”.

ثم لعقت الدم الذي ما زال ينزف من أصبعي ولدهشتي فور أن رفعت فاها لم أجد أثرًا للجرح فشهقت لهولي، جسدها يرتج، عيناها تنقلبان للبياض وآهات وأنات وكلمات لا أفهمها، صدرها يعلو ويهبط، تنظر لي نظرة رعب ممزوجة بحنان، مدت يدها لمست خدي ثم فجأة ضمتني إلى صدرها وقالت: “يا كبدي يا ابني”. ماذا حدث؟ ماذا رأت؟ أبت أن تجيبني: “ربنا وحده يعلم الغيب، ربنا يحفظك يا ضنايا، إياك والبنات، ابعد” هكذا رددت، ثم عبثت بالرمال الممزوجة بدمائي، ثم ابتسمت فجأة ولدهشتي أخرجت تلك القوقعة العملاقة منها، برتقالية اللون في لون وشومها، تشوبها عروق خضراء كالمدقوقة في ذقنها، وأخرى حمراء أقسم إني رأيتها تنبض، أخرجت القوقعة من جوفها ماء له رائحة البحر نثرته سقساقة في الهواء فظل يسيل طويلًا أكثر مما يمكن لتلك القوقعة أن تحتوي وما إن جف قالت: “خد.. الجوجع ده ابقى طفي فيه سجايرك لما تكبر، يلا نمشي.. عوّأنا، زمانه جاي يقعد على العمود ومش هيرحمنا رحمة سليمان للنمل وهيساوينا بالتراب”.

ليلتها عدت لمنزلي فوجدت أمي قد علمت بغيابي فلم أكن قد انتبهت أنني تأخرت كثيرًا، وبيديها الاثنتين ظلت تضرب ظهري وهي تبكي وتصرخ؛ بعد أن خافت أن أكون خُطفت، تكورت على “الجوجع” خشية أن ينكسر وأنا أتحمل ضرباتها ولكنها مالت على ظهري تضربني، تقبلني، تبكي وتدعو الله أن يحفظني، كنت متكورًا على الأرض ومن مجلسي شعرت أنني رأيته بجسده الأسود وتاجه الفرعوني وذيله المدبب، وقبل أن يلتفت أغمضت عيني ونمت وقد تعلمت يومها من سقساقة شيئًا مهمًّا حتى وإن لم يصدق حكايتي أحد لكن أن تكون نشأتك بجانب مكان أثري ستعلمك قانونًا مهمًّا في الحياة.. من الجهل أن تصدق الأساطير، لكن من الغباء أن تجزم أنها لم تحدث!

لا أعلم لم تذكرت هذا الآن! آه إنه كيهك اللعين “برد فوق وبرد تحت وبردًا وسلامًا للعقل”.

عقلي مؤخرًا أصبح أكثر تمردًا، يهجرني فجأة وينفصل عني، يسافر بي لأماكن وأشخاص لم يعد لهم وجود ثم أعود فجأة لواقعي، جلست شاردًا أحدق في كوب الشاي المسجى أمامي، أتحسس صور أحفادي تحت الزجاج، بالرغم أن منها صورًا مر عليها عقدان وربما أكثر، إلا أنني أعشق وجوههم في تلك اللحظة، يتوقف الزمن في الصور ويعود بي إلى تلك الحالة كلما سرحت بها.

للصور مفعول السحر.. أيوالله تمتلك تلك القدرة على إيقاف الزمن بل والسفر فيه بنظرة واحدة، أماكن لم يعد لها وجود، طعام تجمعت قهقهات حوله، مشاعر ظننا أنها لن تزول، وأخرى تمنينا زوالها، أصدقاء اختاروا اللحظة المناسبة للاحتفاظ بها وتمنوا ألا تضيع للأبد.

 أشفق على هذا الجيل من هذا الكم الهائل من المعرفة، حتى إنهم فقدوا متعة السحر، ولم يعد استخراج الأرنب من القبعة يبهرهم، لا يملكون القدرة على تقدير آلة الزمن التي يحملونها بين أصابعهم طوال الوقت.. ربما لأنها أصبحت متاحة.. طوال الوقت.
هذه صورة لحفيدتي وهي صغيرة مبتهجة بفستان مبلل ببولها، وهذه تضحك بين ذيول الطاووس، وصورة أكبر أحفادي وقد حلق شعره “زلبطة” حين ذهب معي أنا وزينب للعمرة، كانت تلك هي المرة الأولى لزينب التي تركب فيها طيارة، أتذكر شكلها وعينيها الحمراوين من أثر دموع تحبسها، فور دخولي للطائرة كانت تحتضنه تحاول ألا تبكي وتطمئنه، ما إن رأتني حتى صرخت: “الله يا حاج، كده تسيبنا والطيارة تفوتنا”. ولم تدرك أنها بداخل الطائرة لأنها دخلت من ممشى متطور فلم تقف على سلم الطائرة تلوح لعيالها كما شاهدت في الأفلام كثيرًا، وفور أن فهمت ضحكت وضحك كل من كان في الطائرة.

أفقت حين لسعت السيجارة أصابعي، لم آخذ منها شيئًا فأطفأتها لأشعل أخرى بعقل سليم –أو هكذا أملت– ووجدت “دهب” بنت حفيدي تعاكسني من بعيد وتضحك فضحكت، رفعت عيني بعدها لأواجه وجهي في المرآة وما فعل الزمن به، ظهر مُنْحَنٍ لرجل فارع وشارب رمادي وشعر ذهب نصفه وإن احتفظ بنعومته، أبتسم في رضا وأنا أسمع ضحكاتهم تأتيني من خارج غرفتي، اتكأت لأذهب إليهم، وما إن خرجت من الغرفة أسرع الكثير منهم ليساعدني، اتخذت موقعي قريبًا من الشرفة التي أحب النظر منها لشارع السبع بنات، تعلق قلبي بالشارع منذ كنت صغيرًا، كنت أصعد لأسطح البنايات أشاهد الشارع الطويل الذي تنقلت فيه في فترات حياتي المختلفة حتى وصلت لآخره حيث أنا الآن وأرى البحر من بعيد، تحسست إفريز حامل المصحف الذي وهبني إياه جدي رمضان -رحمه الله- قبل وفاته، وقد أوصى الجميع أن تؤول ملكيته إلي، وكان قد صنعه بنفسه، حامل خشبي ضخم من الخشب الأرو قد دهن بجملكة حمراء قانية مائلة للسواد، بحواف مورقة منقوشة وجذع الحامل ينتهي بمقرنصات ترفعه، أما أعلاه حفر داخله بخط الثلث “لا غالب إلا الله” وظهره حفر بأشكال سداسية مفرغة.

 تذكرت كيف كان يجلسني بين ساقية وهو يقرأ من مصحفه الكبير المكتوب بخط يده كاملًا -باعه أبناؤه مع ما باعوا من محبرته الفضية وريشته وعُوَيْناته التي بلا حوامل- بكيت حين علمت بقرارهم هذا وأنا صغير.. قرأت لروحه الفاتحة وبدأت اقرأ من المصحف أمامي أقرأ الواقعة مثلما علمني سيدي الله يرحمه استجلابًا للرزق.

بسم الله الرحمن الرحيم

إِذَا وَقَعَتِ ٱلۡوَاقِعَةُ (1) لَيۡسَ لِوَقۡعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٞ رَّافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ ٱلۡأَرۡضُ رَجّٗا (4) وَبُسَّتِ ٱلۡجِبَالُ بَسّٗا (5) فَكَانَتۡ هَبَآءٗ مُّنۢبَثّٗا (6) وَكُنتُمۡ أَزۡوَٰجٗا ثَلَٰثَةٗ (7) فَأَصۡحَٰبُ ٱلۡمَيۡمَنَةِ مَآ أَصۡحَٰبُ ٱلۡمَيۡمَنَةِ (8) وَأَصۡحَٰبُ ٱلۡمَشۡـَٔمَةِ مَآ أَصۡحَٰبُ ٱلۡمَشۡـَٔمَةِ (9)

أطلت “دهب” بوجهها باسمة من بين صفحات المصحف مقلدة صوتي وأنا أقرأ جاهرًا، تضحك وتشد المصحف، وبالرغم من الوهن الذي أصاب قدمي إلا أنني لم أستطع منع نفسي من حملها، جلست على فخذي تحسست لحيتي المحلوقة ودست أصابعها المنمنمة في فمي ثم نزلت وأنا ما زلت أكمل القراءة مبتسمًا، تدور بين أقدامي والمصحف على حامله أمامي ثم أكملت حبوّها مبتعدة، كنت أعلم أنها ستسدير الآن في محاولة منها لإفزاعي وستحزن إن لم أكن أنظر إليها، استادرت فتصنعت المفاجأة لتغرق أكثر في قهقهاتها ثم ابتعدت.

 أحمد الله الذي أمد في عمري لأرى أبناء أحفادي، طفقت أعدهم جميعًا خمسة من الأبناء والبنات ولكل منهم ثلاثة أطفال أصبحوا الآن شبابًا ورجالًا ونساء ومنهم من تزوج وحقق دعائي فأنجب.. لا لن أكمل عدهم فالعد يقل البركة، ما شاء الله والحمد لله، لكن فرحتي بأن يجتمعوا اليوم في عيد ميلاد دهب الأول له شعور خاص لأنهم لم يجتمعوا جميعًا تحت سقف واحد منذ سنوات، اقترب مني حفيدي وأعطاني الشاي، يسألني عن صحتي وعن إمكانية أن أقف بجانب دهب وهي تطفئ شمعتها الأولى من كثير إن شاء الله، تحاملت على قدمي وإن لم تكن لي نية في الغناء وقفت أتمتم بآيات الله التامات من شر ما خلق أن يحفظها، وأنا أمسح شعرها حتى نفخت الشمعة وتعلقت برقبتي تقبلني وهم يبعدونها عني خشية أن ترهقني فضحكت حتى شعرت بمعدتي تحثني على الجلوس.

 شعرت بزلزلة الأرض من تحتي وبدأت الدنيا تدور بي وخشيت أن أخبرهم أو أستعين بأحدهم فأقلقهم، وما إن وصلت لمقعدي مستعينًا بعكازي الخشبي الذي ورثته عن سيدي حتى تعالت الأصوات.. لا لا لم تكن داخلي بدأت أتيقن الآن أن الزلزال حقيقي، نعم فالنجفة ترتعش بل تنتفض والصراخ في الخارج يزيد ثم فرقعة مدوية.. ركض من ركض نحو الشرفة وتعالت الحوقلة والهيللة في جذع ورعب وصراخ ينبئنا بتهاوي البنايات حولنا، وفزع المهرولون والراكضون في الشوارع تحتنا، كنت أنظر لأحفادي وأحث عقلي على التفكير بسرعة والصراخ أصبح في بيتي وبجانبي، اتفق أبنائي والرجال على ضرورة الهدوء وزعق حفيدي يطالب الجميع بالاختباء تحت الطاولات إلى أن يتبينوا ما عليهم فعله، قفز آخر يبعد الثريا التي كادت تسقط فأسقطها عنوة كي تسقط بين يديه وانقطعت الكهرباء، زاد البكاء والولولة وأنا لا أتحرك ولا أقوى على الحراك وإن شعرت بيد زينب زوجتي وهي تحوطني تخشى علي من أي شيء لربما يطالني، كانت صغيرة حينما فعلتها أول مرة أيام قصف العدوان للإسكندرية، هكذا احتضنتني في المخبأ.. نعم تذكرت!

وقفت وطلبت منهم أن يهبطوا أدراجهم سبعة طوابق لا أعلم إن كنت أستطيع اليوم نزولها وسط هذا الاهتزاز فصرخت في ابني الأكبر: 
“يا رضا.. خدهم كلهم وروح دكان عمك شحته العلاف.. حتى لو لقيت دكانه مقفول خبط.. كسر الباب.. زعق بكل عزمك وأنت بتخبط وتقول يسقط الإنجليز وهو يدلك على الباقي “.

كنت أعلم أن شحته ينتظرني فهو من أقسم إنه حتى إن مات سيورث دينه لي لأحفاده، حاول رضا أن يجعلني أنزل معه وحين رفضت أقسم ألا ينزل دوني فأقسموا جميعًا وسط صراخهم وبكائهم فأذعنت، نزل أحفادي أول من نزل بزوجاتهم وعيالهم، وقبل أن أكمل طابقين وجدت الرجال أمامي مرة أخرى، منهم من جاء يحملني أو يعين من تبقى معي وفي سرعة حملوني كما حملني والدي أيام القصف، ورغمًا عني رأيت شبحه بين السياج الحديدية ونحن نتجاوزها فابتسمت له كما كان يبتسم بعد أن نصل إلى المخبأ فأقول له:

 “يابا.. شفت الحديد بيجري ازاي؟”.

ومهما حاول إقناعي أنه من كان يجري بي لا الحديد فلا أقتنع وأعيد جملتي له في كل مرة فابتسمت له وضحك، وضحك شحته حينما رآني وسألني وابنه يغلق الباب خلفي بعد أن تأكد أن الجميع دخل:

 “لسه الحديد بيجري يا حاج؟”.

ضحكت وضحك وبكى وهو يسندني وهو يتسند على ولده ويهبطون بي درجات المخبأ ومن خلفنا سمعنا صوت البنايات تسقط وصوت أجراس كنائس “السبع بنات” تدوي متداخلة مع صوت تكبيرات المساجد..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي مصري .. الرواية صادرة عن دار المحرر 2023 

مقالات من نفس القسم