على هدير الصَّدمة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد أحمد فؤاد

- تذكَّرتِك يا عليا..

  قلتُها مبتسمًا، بعد أن لمسَتْ عيناي اسمَها كاملًا في أوراقها، وأنا أتأمَّلُ في وجهِها الأبيض الجذَّاب، وأستدعي في خَلَدي، بسرعةِ الضوء، ذكرياتٍ قديمةً لا تُنسَى؛ ولم أكمِلْ مقطع أغنيَّة فيروز «عَ هدير البوسطة» المستَحوذة على كِياني ووجداني منذ زمنٍ بعيدٍ. المقطع الذي يبدأ بهذه الكلمات الثلاث، المنتهيات باسم حبيبة الطفولة.

 (تذكَّرتك يا عليا.. وتذكَّرت عيونك.. يخرب بيت عيونك يا عليا شُو حلوين!)

 ما حسِبتُني سألتقيها يومًا بهذه الطريقة التي لطالما سخرتُ من أشباهها.. صُدفة؟! وما معنى الصُّدفة؟ لولا أنني أعرفُهَا من قبلُ، وأني لَهَوْتُ معَها في طفولتي، وأنِّي رأيتُها عاريةً تستحمُّ، وهي ابنةُ سبعةِ أعوامٍ، في حمَّام منزلِها (الذي لم يكُن مُوصَدًا في أثناءِ زيارتِي لأسرتِها أنا وأمي)، ولولا أني عبَّدتُ لَها مسلكًا تحفُّه الورودُ إلى قلبي، لما أصبح لهذا اللقاءِ عندى معنًى.

  إن الصُّدفة هي الالتقاءُ المباغِتُ لماضيين، وما سِواها من الأحداث جُرِّد من الذِّكريات، فسقَطَتْ صِفَةُ الصُّدفةِ عنه.

  لم تتغيَّر كثيرًا عن آخر مرَّةٍ رأيتُها فيها.. يومَ أن فارقَتْ أسرتي شقَّة «الهرم» لنقيم في «فيصل»، في عطلةِ العام الذي اطَّلعتُ فيه على سرِّها المصون، وأنا حينئذٍ ابن عشر سنوات. لم أرَها في ذلك اليومِ إلَّا اختلاسًا، من وراء خَصاص شباك حجرة الضيوف «كما يحدث في الأفلام القديمة!»، المطلِّ على نافذة حجرتِها، هي وأختها الكبرى، المفتوحَةِ دائمًا؛ وعمدتُ إلى أن أشفَّ صورةَ وجهها على تعاريج مخي، لكي لا أنسى ملامِحَها ما حييت.

  حقًّا لم تتغيَّر. نفس العينين الحوراوين المتقاربتين.. الأنف الطويل الشامخ المشرِفة أرنبتُه على فمٍ أحمر الشفتين كالكرز. لم ينهض نَهداها المختفيانِ وراء بلوزتِها الطَّويلة وطرحتِها الكبيرة الرَّماديَّة، الواشيتين بالتزامِها الدِّيني، إلَّا يسيرًا، فلم تسرِقْها الأنوثةُ من طهر الطفولة. شعرُها كما قلتُ مغطًّى؛ غير أنني أعلم جيِّدًا أنَّه بنيٌّ كالكاكاو، سَبطٌ كالحرير، منسدلٌ وافرٌ إن يحرَّر.

– فيه مشكلة مع حضرتك.

  انتبهتُ إلى طول رنوِّي إليها، فأحسستُ الحرج، وقلتُ محاولًا التغلُّبَ عليه بابتسامةٍ مُرتَجِفةٍ:

– ما اتغيرتيش كتير يا عليا!          

 لم تكُن حتمًا قد أفاقت بعدُ من دهشتِها، التي ولَتْ قولي الأول فازدادت ذُهولًا عقِبَ الثَّانِي (الذي تملَّكتني فيه جرأة غير معهودة!)، وقالت بحدَّةٍ واضحةٍ، لفتَتْ إلينا شابَّين جالسين على صفِّ المقاعد المقابل لمكتبي، ينتظران ابتداءَ محاضرة كورْس الـICDL  :

– أفندم! إنتَ تعرفني أصلًا.. إيه الكلام السخيف ده؟

  فاضطربتُ، إذ لم أتوقَّع مثل رد الفعل العنيف هذا، الذي أفصَحَ عن انطِمَار ذِكراي لديها، فقلتُ معتَذِرًا بارتباك:

– معلش والله مش قصدي.. بسّ.. بسّ هو مش حضرتك علياء.. علياء بنت الباشمهندس فتحي البنَّا.. كنا بنلعب مع بعض واحنا صغيَّرين، قبل ما نسيب الهرم ونروح فيصل. أنا حازِم.

  سمعتُ ضحكةً ساخرةً من أحد الشابَّينِ فلم أبالِ، وتابعتُ ملامِحَ عليا التي بدأت تتبدَّل. قطَّبَتْ لحظةً، ثُمَّ قالت باقتضابٍ، هازَّةً رأسَها:

– آه فعلًا.        

  واستطردَتْ قائلةً بنبرةٍ أقلَّ تحفُّظًا، إلَّا أنَّها لم تزل فاتِرَةً مقارنةً بعَلاقتِنا القديمة «هل تذكَّرَتْ رؤيتِي عُريَها؟»:

– طيِّب فيه مشكلة في الورق يا حازم؟

  تفحَّصْتُ أوراقَهَا منكمشًا، كقطَّةٍ في زمهرير يناير، خوفًا من أنْ يتسلَّلَ من بين ضلوعي، صوتُ وَجِيبِ قلبي المهرول فيفضحُني؛ وتفحَّصَتْ عيناي الضالَّتَان، ما وضعَتْهُ أمامِي قبل دقائق. صورة البِطاقة الشَّخصيَّة.. الرقم التأميني.. إقرار من من كليَّة طبِّ قصر العيني يثبت أنَّها في الفرقةِ الخامسةِ منها.. خمسمائة جنيه هي تكاليف كورْس الـ ICDL الذي يشرف على تنظيمه «وعلى تنظيم كورْسَات في اللغات الأجنبية والبرمجيات» السنتر الذي أعمل فيه.

  قلتُ لها محاولًا سترَ اضطرابِي:

– مافيش مشكلة خالص.. الورق كامل.. كأنِّك كنتِ عارفة متطلبات الاشتراك.

– أنا كنت جيت هنا امبارح، واللي هنا قال لي على الحاجات دي.

  أنا لا أكون في السنتر ليلًا. عملي ينتهي في الثانية بعد الظهر، بعد ستِّ ساعاتٍ أقضيها جالسًا على الكرسيِّ الخشبيِّ، خلف الطاولةِ العريضة، أستقبل المشتركين في كورْسَات السنتر، والرَّاغبين في الاشتراك؛ ومن بعدي يأتي زَميلي ماهر صيام المرحُ عذبُ الابتسامَات، ليعمل حتَّى الثامنة مساءً.

– والمعاد هيكون إمتى ان شاء الله؟ 

أجبتُها على خلفيَّةٍ من معلوماتٍ سابقةٍ، وشبحُ أملٍ يتراءى لي:

– فيه مجموعتين واحدة سبت واتنين واربع الساعة 12 والتانية حدّ وتلات وخميس الساعة 4.

  وأخذتُ أدعو في سري أن تختار ما أتمنَّى.

  رفعتْ رأسَها في شموخٍ مفكِّرةً «كما كانت تفعل في الطفولة» وقالت أخيرًا:

– حدّ وتلات وخميس الساعة 4 هُوَّ أكتر واحد هيناسبني.

  إنَّها الطَّعنة! 

  هززتُ رأسي آسفًا، والتقطتُ إحدى الوريقات المدوَّن عليها اسمُ السنتر، ورقمُ الهاتِفِ الأرضِيِّ والموبايل، وشرعتُ أكتبُ بحروفٍ معوجَّةٍ يائسةٍ، الموعِدَ الذي اختارتْهُ، ثم ناولتُها الوريقةَ، وانثنيتُ أكتبُ اسمَها الشفَّافَ، والمبلغَ الذي دفعتْهُ على فاتورةٍ، وأعطيتُهَا إياهَا بعد أن طبعتُ عليها ختمَ السنتر.   

  أخذَت الفاتورةَ فِي صمتٍ، ثم قالت مبتسمةً لأوَّل مرَّةٍ:

– شكرًا. 

  وهمَّتْ بالانصراف، فنهضتُ مادًّا يُمناي إليها لأصافحَها (المصافحة الأخيرة)، قائلًا بنبرة الوداع:

– مع السَّلامة يا عليا.      

 فنظرَتْ إلى يدي الممدودة، وأومأت مُسبِلَةً جفنيها، وقالت:

– معلشّ يا حازم.. مش باسلِّم على ولاد.       

 فودَّعتُها بعينيَّ الوداعَ الأخير، حتَّى خرجَتْ من باب السنتر، وجلستُ منطفئَ العزيمة، ألعنُ حظِّي المربد، حتى دلف من الباب ماهر مبتسمًا، وحيَّانِي، فأجبتُه بفتورٍ؛ ولأول مرَّةٍ «طوال فترة عملي بالسنتر» استفزتني ابتسامتُه الواسعَةُ البيضَاء!

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاصّ وشاعر مصري ـ والقصّة من مجموعة “زعربانة” الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب، والمرشّحة على القائمة القصيرة لجائزة ساويرس 2017

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون