المرأة ذات التلفون

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 1
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. إقبال محمدعلي

كان عليّ شراء بعض الأغطية لحشية الفراش، ولم يعُقِني ألم الساق الذي بدأت أعاني منه مؤخراً، من الذهاب. نزلت إلى الشارع بعد  الفطور، متوجهة إلى مجمع ( دافرِن) التجاري الواقع في وسط مدينة تورنتو… توقعت أن يكون الجو بارداً بعد سماعي نشرة الاخبار الجوية  في البيت، لذا لبست معطفاً ثقيلاً، ويبدو أن النشرة لم تكن دقيقة إذ أن الهواء كان لطيفاً عذباً  والشمس ترسل شعاعاً خفيفاً دافئاً، ندمت على لبس المعطف الثقيل، لكني أيضاً، لم  أكن متشجعة  في العودة إلى البيت لتغييره.

 دخلت مخزن ( وول – مارت ) الضخم، اشتريت ما أحتاجه من أوعية لحشية الفراش بعدها صعدت بالدرج المتحرك إلى قسم الخضروات لشراء الطماطم  والجزر وبسبب وخزات الألم في ساقي، نسيت شراء علبة القهوة ولكنني لم أنس شراء بعض الضمادات لتغطية الجرح الذي أصبت به عند استعمالي السكينة الحادة الصغيرة التي اشتراها لي زوجي مؤخراً. رغم أن المسافة  للوصول إلى مجمع دافرن قصيرة، إلا أنه كان عليّ تغيير الحافلة مرتين: الأولى ركوب (الستريت- كار)، التغير الثاني سيكون في حافلة عادية.

خرجت من المجمع، أحمل أكياسي الضخمة الكبيرة التي تعِجُ بمشترياتي الضرورية متوجهة إلى موقع انتظار الحافلة التي ستحملني إلى بيتى.. كان ألم قدمي اليسرى الحاد يشغلني عما حولي… فجأة، صحوت على صوت امرأة عال تقف إلى جانبي. كان عليّ أن اأفع نظري إلى الأعلى فالمرأة طويلة، ممتلئة الجسم، كنت أبدو عنزة صغيرة  إلى جانبها. كانت بيضاء البشرة بعينين سوداوين، لامعتين كحيلتين، وفم صغير بشفتين ممتلئتين. شعرها أسود مجعد قليلا، مسحوب بكسل  إلى الخلف… وجه محبب ذو  نظرة حزينة…  كانت تتحدث بغضب وحِرقة، بتلفونها النقال مع شخص ما بلغة انكليزية طليقة، تنتقل بعدها إلى الاسبانية لتعود مرة اخرى إلى الإنجليزية.. استشففت من حديثها أنها كانت تتكلم مع زوجها أو صديقها طالبة منه التخلي عن أصدقائه ( المَثليين ) الجدد لأنها لا تستطيع أن تتقبلهم كأصدقاء: أنت تعرف موقفي من هذه القضية، عليك أن تتعلم كيف تحترم ذلك..، ويبدو أنه قاطعها في هذه اللحظة، سمعتها تصيح مرة أخرى: كلا، اذهب وحدك إلى هناك.. وأنا ذاهبة لا أدري إلى أين، فلا تبحث عني.. مرت لحظات ساد فيها السكون، رفعت عيني بفضول، وجدتها تمسح دمعة.. خفضت نظري احتراما لحالتها.

كانت هناك عجوز تقف غير بعيد عني، تسأل الآخرين، عن الحافلة الذاهبة إلى مستشفى (سانت جوزيف)… استدرت إلى السيدة وقلت لها: ابقي معي لأنني سأخذ الباص نفسه. اطمأنت السيدة ووقفت قريباً مني. وجدت نفسي أواجه محل مارشال للملابس، استدرت بجسمي إلى الشارع لأتاكد من وصول الحافلة ليقع نظري على رجل متكئ على الحائط في نهاية الواجهة و المرأة ذات التلفون تبدو في نهاية حديثها معه متوجهة مرة ثانية إلى مكان انتظار الحافلة حيث كانت تقف سابقاً. كان الرجل أقصر منها، لا يبدو على وجهه الغضب، ظل محافظاً على هدوئه و هو يستمع إلى تعليقاتها الغاضبة هادئاً مما جعلني أحكم على مدى ذنب هذا الرجل وخوفه من فقدان  هذه القلعة التي يبدو حيالها كصبي صغير. كان ممتلئ الجسم ذا شعر أسود فاحم ( مصبوغ) يلبس ملابس رياضية، رمادية اللون. إذن كانت  تتحدث بالتلفون مع هذا الرجل! هذا ما كنت أفكر به عندما سمعت، صوتها  يتعالى مرة أخرى : قلت لك إنني لن أعود، آن الاوان أن تعرف كيف تحترمني أمام اهلك، أمك، أختك.. لا أستطيع أن أتحمل الطريقة التي تعاملني بها أمام هؤلاء…. كلا اذهب وحدك لأصدقائك الخنيثين.. كلا لن آتي.

 ـنهت المكالمة، إذ كان عليها صعود الحافلة.. وضعت مشترياتي الكثيرة جنب مقعدي وطمأنتُ المرأة العجوز بأنني لم انس ما وعدتها به وإذا بي أسمع صوت المرأة الاخرى العالي الغاضب من بعيد، مرددة على الرجل في وسط الحافلة، أمام الناس، العبارات نفسها.. حزنت لحالها. تذكرت حالي مع زوجي السابق، تذكرت عدد المرات التي كنت أغادر فيها البيت حافية القدمين بسبب مرارة الكلمات القاسية و الإهانات التي كانت تتردد على لسانه ندما يفقد أعصابه على أشياء تافهة. كنت أدور لساعات في الشوارع كالمجنونة، أعود بعدها إلى البيت، إلى اطفالي مشفقة عليهم، لأجنبهم غضبه عليَ  ترك البيت، استمر هذا الحال لمدة ثمانية عشرعاماً، إلى أن واتتني الشجاعة يوما ما، أن اطلب منه مغادرة البيت إلى غير رجعة.

كان عليّ أن أغير الباص، طلبت من المرأة العجوز أن تتبعني.. استدرنا بعد مشي قليل ناحية اليسار في انتظار االستريت كار.. كانت المشتريات ثقيلة وألم قدمي يشتد، قررت الجلوس على إحدى دكات المدرج الحجري الصغير خلفي.. تأتي بعض الفرق الموسيقية الجوالة صيفاً لتعزف في هذا المكان أو ان يجلس ساكني المنطقة  أو العابرين على درجاته للتمتع بشمس الصيف أو الجوء للراحة كما في حالتي لما تعانيه ساقي المسكينة من ألم… كانت المرأة ذات التلفون جالسة هناك أيضاً تتحدث مع الرجل مرددة نفس الكلمات بصوت عال وبعناد: لن أعود.. قلت لك لن أعود.. ثم أغلقت الخط.

كانت تبدو، متعبة بائسة في هذه اللحظة. لم أتمالك نفسي، التفت اليها قائلة: آسفة لتطفلي، انت امرأة جميلة وشجاعة، فلم لا تتركي هذا الرجل؟. أجابتني بعيون مغرورقة بالدمع: لدي طفل معاق عمره عشرة سنوات.. فتحت له بيتي حين لم يكن له بيت يستقبله من الاهل أو الأصدقاء..  لا أدري ما الذي علي أن أفعل.. لا أدري.

ساد الصمت بيننا. وصلت الحافلة، توجهنا معا للصعود.. حملت أشيائي وطلبت من العجوز أن تتبعني، طلبت من سائق الحافلة أن ينزل العجوز عند المستشفى، وضعت مشترياتي على الكرسي، احتد الألم في رجلي وشغلني عما كل ما حولي.. قبل نزولي نظرت ناحية المرأة فوجدتها وهي ما زالت غارقة بتلفونها، ودعت العجوز و نزلت بخطوات متمهلة من الحافلة، توقفت قليلاً لأريح قدمي،بعدها سرت بحملي إلى البيت.

02/04/2016

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون