أشرف قاسم
فى روايته الأحدث “سنوات النمش” يرصد وحيد الطويلة التحولات الكبرى التي طرأت على الريف المصري، والموروث الشعبي من العادات والتقاليد والتي يرويها الكاتب على لسان طفل رأى بعينيه تلك الأحداث، وعاين مصائر أبطالها، كل هذا يسير في خط متوازٍ مع الأحداث السياسية في تلك الحقبة، بداية من نهاية العصر الملكي، عصر الظلم والاستعباد، مروراً بالحقبة الناصرية وما جاءت به ثورة ٢٣ يوليو من مكتسبات للشعب كقانون الإصلاح الزراعي، وقرار تأميم الملكيات الزراعية الكبيرة، ونكسة ١٩٦٧م، وقرار التنحي الذي أعقبها وخروج الشعب مطالباً عبدالناصر بالعودة إلى الحكم، ثم موت عبدالناصر وأثره في الشعب الذي لم يكن يتخيل أن يموت الزعيم الخالد “حبيب الملايين”، وصولاً إلى عصر السادات وسياسة الانفتاح.
يعتمد الكاتب في روايته أسلوب القطع والوصل، أو اللقطات غير المتتابعة التي تشبه “البازل”، فهو لا يحكي “حدوتة” ذات بداية ووسط ونهاية ذات وقائع متتابعة، بل اختار أن يلتقط لقطات معينة من حياة تلك العائلة، ليسلط الضوء عليها بشكل مباشر، وكلعبة “البازل” فإنك في النهاية حين ترتب تلك الأجزاء “اللقطات” ستجد أن تلك اللقطات الفلاشية غير المتتابعة قد كونت لديك صورة كلية لتلك العائلة، وتلك الحقبة، واكتمل لديك المشهد.
كل ذلك من خلال لغة حية نابضة مشبعة بوهج الشعر، ذات دلالات عميقة، استطاع الكاتب من خلالها أن ينقل للمتلقي صورة حية لأدق مشاعر أبطاله وأفكارهم، دون أن يجرح قداسة المعمار الروائي، ودون أن يُدخلَ القارئ في دهاليز الغموض، ولكنه يفتح عينيه على أسئلة كثيرة حول الحياة والموت والحب والفقر والسعادة وماهية الوجود وسؤال الهوية، ومعنى الخلود الذي يبحث عنه جده الكبير من خلال شخصيته القوية المتسلطة التي تفرض كل شيء على الجميع بالقوة، وهذا ما يحيلنا إلى تفسير العائلة التي يرسم صورتها وحيد الطويلة بأنها ليست سوى صورة مصغرة للمجتمع، تمثل قوة الردع من خلال نفوذها وسلطتها المستمدة من ثرائها الفاحش، حتى لو كان هذا الثراء قد جاء من طريق السرقات والسطو على ممتلكات الغير.
كما رسم وحيد الطويلة عدة صور للمرأة التي تتحدى أعراف هذا المجتمع وتقاليده، وتعلن سلطتها في مواجهة سلطة الرجال، كما فعلت شقيقة الراوي، التي اقترنت بضابط شرطة ضعيف الشخصية أمام تسلطها، فخضع لها من أول يوم لأنه يحبها، فمارست عليه سلطتها، بل إنها مارست بعض سلطات عمله نيابة عنه.
وكذلك العمة “فريال” عمة الراوي الجميلة السابقة التي ضربت بأعراف المجتمع عرض الحائط بعد طلاقها من زوجها الأول والذي كان لصاً، وأعلنت عن رغبتها في الزواج مرة أخرى، ما يعتبر خرقاً لقوانين العائلة، بل راحت تبحث بنفسها لنفسها عن رجل تقترن به، وتعلنها صريحة في وجه الجميع: “خلقت النساء للرجال والرجال للنساء”، وكأنها صورة حية للثورة على الأعراف البالية التي لا ترى في المرأة إلا أنها سقط متاع ولا بد أن تكون تابعاً الرجل، وكذلك “المكاوية” زوجة “المكاوي” اللص الكبير تخلف زوجها في كار اللصوصية عقب وفاته، وتعامل معاملة الرجال، وجدة الراوي لأبيه والتي تهوى سماع سيرة أبي زيد الهلالي وتشرب المعسل، ذات القلب القاسي الذي لم يؤثر فيه موت صغيرها فأغلقت عليه باب الحجرة وذهبت لتستمع إلى شاعر السيرة الهلالية.
وإذا كانت العائلة هي المعادل الموضوعي للمجتمع، والجد هو المعادل الموضوعي لقوة السلطة، فإن المرأة هنا هي المعادل الموضوعي لطائفة المهمشين في المجتمع، بضعفهم واستسلامهم وأحلامهم المجهضة، وإن شذت عن تلك القاعدة بعض شخصيات الرواية ـكما أسلفناـ كشقيقة الراوي والعمة فريال والمكاوية وجدته لأبيه، فهن أيضاً المعادل الموضوعي لصوت الثورة والتمرد، ورفض التبعية.
إن رشاقة السرد في “سنوات النمش” ليست جديدة على الكاتب، فهي سمة غالية في مجمل أعماله، فنراه يتنقل بخفة طائر بين العديد من النماذج التي تمثل مجتمع القرية المصرية خلال تلك الآونة التي رصدتها الرواية، من الجد القوي المتمسك بالعادات والتقاليد التي تمنحه السطوة والسيطرة على الجميع، إلى العم اللص الكبير الذي لا يتورع عن جمع ثروته من اللصوصية وصداقة أبناء الليل، إلى زوج أخت الراوي ضابط النقطة ضعيف الشخصية أمام زوجته، وكذلك خلال رصده لنماذج المرأة في هذا المجتمع، فنرى المرأة المغلوبة على أمرها، المستسلمة لسطوة ذكور العائلة، والمرأة “الحرون” كما عبر الكاتب، والمراة “النغشة” صاحبة المزاج الهائمة في حكايات الهلالي وشرب المعسل، وكذلك المتمردة التي لا تبالي بأعراف العائلة، فتثور عليها، وامرأة الغواية كالفكهانية التي جاء ذكرها في الفصل العشرين من الرواية.
ربما تكون تلك النماذج المختلفة وهذا الخليط المتنافر الذي رسمه وحيد الطويلة هو “النمش” الذي انتشر في وجه هذا المجتمع ليصبغه بصبغة مغايرة، و”يتناسل في حياة الجميع، يسري مسرى الدم”، وربما كان “النمش” صورة حية لما تختزنه الذاكرة من وقائع وأحداث تترك ندوبها في الروح كما يترك النمش ندوبه على الوجه.
كما يلعب المكان دوراً محورياً في بنية النص الروائي، فقد أجاد الطويلة وصف الحياة الريفية خلال تلك الفترة التي غطتها الرواية، بلغة مباشرة يغلب عليها الوصف دون بهرج ودون تزيدات لا يستدعيها الحدث، يصف القرية بليلها الدامس ولصوصه، ويصف بيت العائلة وعلاقات الرجال بالنساء، يُطَعِّم كل ذلك ببعض الأمثال والحكم الشعبية، وبجرأة في بعض المواضع التي تستدعي ذلك.
وإذا كان المكان يستدعي تلك اللغة فإنه أيضاً يستدعي شخصيات مأزومة نقابلها كما رسمها الكاتب بطموحاتها الأعلى من إمكانياتها كشخصية “القذافي” التي جاءت في الفصل الحادي والعشرين من الرواية وتابعه “العكس”، فهما من أبناء الفرع المائل في العائلة على الرغم من ثرائهما، ولكنهم من الأسر المهمشة التي لا دور لها ولا وجاهة أمام المجتمع، ما يدفع القذافي إلى التحول ومحاولة فرض وجوده بالقوة والنبوت الذي يحمله خلفه تابعه “العكس”، يحلم أن يكون كبير العائلة وصاحب الأمر والنهي لمجرد أنه حاصل على دبلوم ويعمل سكرتيراً للمدرسة الإعدادية، يفتعل المشكلات مع العائلات الكبرى، ويضرب العكش بنبوته ويسقط من يسقط من الضحايا، لمجرد أن يقول للجميع: أنا هنا، “يريد أن يقيم انقلاباً كلما طافت فكرة فاسدة بباله”, وفي النهاية يقتل العكش نتيجة جبروته، ويقع القذافي فريسة أوهامه وكوابيسه، “إنه يموت في كل لحظة يعيشها”.
استطاع وحيد الطويلة أن يقدم لنا صورة حية، بمثابة وثيقة لتلك الحقبة التي جرت فيها أحداث روايته، وأن يُسقطَ بعض رموزها على واقعنا الراهن، من خلال لعبة “الأسماء” تارة كالقذافي والعكش وخيري شلبي، ومن خلال لعبة “السخرية والفكاهة السوداء” كشخصية البرشومي الذي يواقع “الحمير” تارة أخرى، وأن يقدم لنا توليفة من العلاقات الإنسانية التي يعج بها مجتمع القرية، كاللصوص ومنشدي السيرة الهلالية، والمهمشين الذين يسعون خلف لقمة العيش ولا طموح لهم سوى الستر، كل ذلك وأكثر دون أن يفقد الحكي وهجه وإدهاشه، على الرغم من طول الرواية التي تجاوزت المائتي صفحة.
نحن هنا بإزاء متعة لا تنتهي، استطاع الكاتب أن يقدمها للقارئ في ثوب قشيب مغاير، نص يترك المتلقي في حالة من الوجد والرضا، يشبه رضا من ذكرهم وحيد الطويلة في ثنايا روايته الجميلة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر مصري
نقلاً عن جريدة القاهرة المصرية
شاعر مصري
نقلاً عن جريدة القاهرة المصرية





