“الرجل الذي جمع شتات نفسه”.. والدفاع عن قضايا البسطاء

سعد القرش
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سعد القرش

من القصة الأولى وربما من الإهداء أيضا يشعر القارئ للوهلة الأولى، أنه أمام كاتب يدافع عن البسطاء، وبتینی قضايا المطحونين، ويطالب بحقهم في حياة كريمة، بعيدا عن الانسحاق والإذلال، وفي الوقت نفسه يمجد اللحظات الإنسانية التي تكشف جوهر هؤلاء وقدرتهم على المقاومة، حتى لو فشلت محاولاتهم المستميتة.

ولأن الأديب حسين عبد العليم محام، فهو لا ينسى أن له فضية، وهذا يبدو” بوضوح في مجموعته القصصية الرجل الذي حاول جمع شتات نفسه، التي صدرت مؤخرا بالقاهرة عن دار سعاد الصباح، وتضم ثماني عشرة قصة قصيرة في ثلاثة أجزاء أو وحدات شبه مستقلة.

ولا يلجأ الكاتب إلى اللغة المباشرة لكي يبدو أنه صاحب قضية، ولكن يحاول أن يعبر عن ذلك بالهمس، ا والإيحاء، وإن اضطره ذلك إلى الكتابة بلغة وسيطة، لا هي فصحى تماما، ولا عامية تماما، وإنما تأخذ أفضل ما فيهما.

إحساس غامض

وتكاد بعض قصص المجموعة تجعلك متحفزا  ومستعدا إما للدفاع عن نفسك، أو على الأقل لبذل محاولة لابد أنها فاشلة، ولكن يكفي الإنسان شرفا أن يقاوم ويحاول ويفشل ثم يقاوم ويحاول، وحتما سوف تنجح المحاولة يوما ما..

في قصة “السيدة التي وجدت ملقاة” يتسرب لدى البطل إحساس غامض بالشك في ابتسامات أصحاب الوجوه الحليقة، وبينما هو جالس مع صديقه، يتبادل أصحاب الابتسامات عبارات ونظرات ذات مغزى فيما هم يدخنون ويتعاطون الشراب… لم يكن أمام البطل الضعيف إلا اتخاذ قرار سریع بمغادرة المكان أو الأبتعاد عن عيونهم، حتى لا يصير بطلا لتمثيلية تبدأ بإطفاء النور، وضربه ضربا مبرحا، تم الاعتداء عليه، وتركه في الركن، ثم تضاء الأنوار، ويتبادلون تساؤلا بدهشة: «من هذا؟، ثم يصيحون: “آه.. آه.. السيدة التي وجدت ملقاة”، بعدها يصفقون في فرح ويعانقون بعضهم.

هي لعبة الكبار إذن، بفعلون ما يبدو لهم، دون أن يجرؤ أحد علی الاعتراض، ثم ان الاعتذار أو الدهشة في صورة دبلوماسية وتجاهل لعظم الذنب الذي ارتكبوه، وعندما يقبل البطل أن ينتقد، يتضح له أنه عار تماما بأفكاره أمامهم، وهم يعرفون هذه الحيلة، وقبل أن يقفز أو يتسلل إلى المكان الذي حدده، يظلم المكان وتنتهي القصة التي يشعر القارئ بعد انتهائه منها، بأن كل شيء قد تم، إلا أن المحاولة الشريفة لا يقلل منها أنها فشلت حتى يظل الإنسان يقظا، وهذه هي وظيفة الفن الراقي، الذي لا يدعو إلى الاستنامة والاسترخاء، وإنما يشجع على مزيد من القلق الإيجابي الذي يهدف أولا، وأخيرا إلى التغيير.

معركة صغيرة

هذا هو الإنسان في مواجهة قوى أكبر منه، أو متآمرة عليه عنه، كما في “أشياء صغيرة”، حيث يتتبع بعض الطلبة التعاملين مع الأجهزة خطوات زميل وزميلة لهم وتنشب بينهما معركة صغيرة تنتصر فيها الأجهزة ويلوذ الطلبة بالهرب، ويواجه البطل زميلته التي عرضت عليه اقتراحا بعمل محضر في قسم الشرطة لهؤلاء الطلبة باقتراح سلبي .. نشرب حاجة ساقعة وبعدين نروح، ويفكران مرة أخرى في العلم ويضحكان غير مصدقين فداحة ما حدث، ويتأبط كتبه ويحيط كتف حبيبته بيده الأخرى في حنان واحتواء.

وقد تتحول المقاومة الى سخرية من نوع خاص كما في قصة “النهار يأتي مبكرا عن موعده”  إذا يعاني السجين من آثار الضرب، ورائحة الزحام، ولا يجد السجين البريء من تهمته إلا إدارة حوار وسافر مع زميل له، ولا يستطيع الضابط أن يجاريهما في الأقوال ولا الأفعال البهلوانية فيأمر بضربهما، مع التهديد بأن البيه الكبير سوف يقلعهم ملط، ويخليهم ينطقوا تمام.

ولا يستطيع قارئ المجموعة إلا أن يتوقف طويلا أمام تلك الدفعات من الشاعر الإنسانية في قصة “الشيطان” لتلك المرأة المقهورة التي سافر وتركها مع ابنها الشيطان، الذي تذهب به الى طبيبة الوحدة الصحية لعلاج عينه. وعند الخروج يفلت الولد

من يدها، ويجري بعيدا، وهي حرصا منها على سلامته تناديه، وتحايله، ولا يجدي معه ذلك، فتجري وراءه وتسب اباه المجنون إلي أن تهلك تماما وعندما يدخل حارة سد تتمكن من الإمساك به، ولا تدري إلا وهي تهوي بكفها المعروقة على وجهه فتفجر الدم منن أنفه وفمه ، ويستمر في سبه لها. ويحاول التخلص منها، وعندما يدخلان الدار، تحكم إغلاق الباب، ويقترب منها، وتمسح له الدم والعرق، وتنسى كل شيء، وتاخذه في حضنها ، وانهمرت من جديد في البكاء .. ولعل الكثيرين قد رأوا على هذه اللحظة، ولكنها تحتاج الى عين لاقطة لفنان يقظ لكي يكتبها ويعطيها دلالاتها وأبعادها الإنسانية، وهو ما فعله حسين عبد العليم محامي الفقراء.

وتظل لهذه القصة خصوصيتها الفنية والموضوعية التي تعد بيانا فنياَ ضد محاولات الاستسلام والقهر بكل أشكاله ورفضا للانسياق مع القيم الغربية السائدة، بحثا عن قيمة أعظم تليق بالشرفاء.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم