جيلان زيدان
في آخر عملية قلب مفتوحٍ -كما يسمونها- عدتُ منها، حيثُ اعتدتُ أن أذهب لطبيبِ جراحةِ القلبِ ليُجري لي هذه العملية، ولكن الطبيب كان في كل مرة يجري لي عملية قلبٍ مغلق. وكان يخبرني بذلك بعد خروجي من غرفة العمليات، أنه وجدَ قلبي محكمَ الغلق، حاول فتحه وحاول فما استطاعتْ كلُّ مشارطه فتحه، مما اضطره لإجرائها على قلبي المُغلق، بطريقةٍ خاصّة.
وقبل شفائي، كان يشرح لي حالتي، ويطمئنني بأنها حالة عادية، مجرد أن أشفى من الجروح، وأتماثل للشفاء، يكون عليّ فقط أن ألتزم بقائمة الممنوعات لأتجنب أن يتكرر معي ذلك مرة أخرى، فألجأ لجراحات كثيرة.
“جنّبي قلبك مساس الآخرين به، قلبك معرض للعدوى الشديدة، إن مسوه بسوء أصابته العدوى كليًّا، وربما تطلّب الوضع استئصال القلب”.
قالها وكتبها لي في ورقة أيضا. أطبقتها في يدي، وانصرفت.
مغلقٌ للحياة
وصلتُ بيتي، مسحتُ آثار الدماء من فوق ملابسي، ومن وجهي آثارَ الخوف والألم، وتعاملت مع الأمر بشكل عادي يحصل كل يوم.
الحمد لله لم ينتبه أحد لما بي، رغم محاولاتي لتجنبهم قدر المستطاع، خوفا من مساسهم قلبي، فيحدث ما حدث. لم يكن الأمر غريبا إن تجنبتهم ولم يكن محببا إن خالطتهم. لذلك فقد أنصتُ لإيجابيات الموقف الأول، حفاظًا على قلبي، وابتعدتُ.
ظللتُ لفترةٍ طويلةٍ أمارس حياتي العادية، أذهب للعمل، وللتسوق ولزيارة الأهل، ولحضور المناسبات الاجتماعية، ولشراء متطلبات المنزل، وأقوم بعناية بيتي وأطفالي عناية تامة دون تقصير من عقلي الواعي الذي حمل وظائفه ومهام قلبي المغلق.
إلا أني ذات صباح شعرت بوخز عنيف جهة صدري، هل هو قلبي؟ نعم يبدو أنه هو. انسللتُ من يومي وذهبتُ لغرفتي لأتكشف الموضوع، وجدتُ ارتفاعا ظاهريًّاُ فوق قلبي. تعرّيتُ تماما، فظهر الجبل الكبير فوق قلبي بِبُرُوزٍ واضح، بقمةٍ مدبَّبة توخزني مثل دبوس وتجرح يدي كلما مررتها من فوقه.
نزفتُ من يدي بشدة، من تلك القمة الحادة كنصل سيف ساموراي، لم أستطع مقاومة جرحي. نمتُ وأنا أبكي بعنف، أبكي كما لم أبكِ من قبل. أفقتُ بين يدي طبيبي، لم أستوضح منه من جاء بي إلى هنا، كان يضع المشارط فوق قلبي ليحاولَ فتحه من جديد.
سألته هل كان مغلقا تماما، أم أن هذا خطأ ما؟
أخبرني أنني احتطتُ أكثر من اللازم حتى صنعتُ فراغا واسعا جدًّا حوله، وأغلقتُ على قلبي حتى أصابه الهواء الفاسد وتمكن منه وتخلله وجثم فوقه بهذه الوحدة التامة المتعفنة.
تذكرتُ أن لي فترة طويلة كنت أذهب إلى العمل أُسدل إيشاربي فوق صدري لما استغربتْ صديقاتي منظري، وسألنّي عن هذا الحجم الغريب الذي يرتفع بي، فما كنت أعرف كيف أجيب.. بل كنت أبتعد فحسب.
مغلقٌ لموت الحياة
أعمَلَ مشارطه فيّ، واستأصلَ الفراغ. بكيتُ مجددا، بكيت أكثر وأكثر.
“لمَ لمْ تكتب ذلك في قائمة ممنوعاتي من المرة الماضية؟” سألته من وجعي. فأنكر توقّع حدوث ذلك بسهولة، وأنه من الواضح أني أبعدت قلبي مسافة بلاد عمن حولي.
أخبرته أنهم هم السبب في ذلك. ولستُ أنا!
قال: لا فرق!
عدتُ للبيت، لم يلْحظْ أحدٌ على وجهي آثار دماء الخوف الذي كنتُ أنزفه من عيني، لم يشمَّ أحدٌ رائحة ألمي التي كنت أستشعرها جليّة وأحاول أن أستتر منها بروائح المطبخ؛ فأطهو أي شيء يفوق تلك الرائحة.
عدتُ للعمل، فما استغربتْ صديقاتي من زوال البروز! ولم يسألني أحد عن حالتي! فلماذا إذًا اهتممن عندما كان موجودا، ونفرن مني، وجعلن يتهمنني بعدم الاهتمام بنفسي.
مفتوحٌ بالحب
بعد يومين، ذهبت مع أولادي للنادي، أصررتُ أن أساعد قلبي بنفسي، فهو ما زال يهمني رغم عزلته المُحْكمة وغربته الشديدة عني.
في حمام النادي عندما احتاجت طفلتي لدخوله، وقفتُ أغسل يديها، عندما رأيت السيدة الواقفة بجواري تعيد فوق حمرة شفتيها، وتسوي ملابسَها، فكّت إيشاربها لتضبطَ هندامها وزرَّ القميص العلوي؛ الذي علِقَ بعقدها الفضي، عندها.. لمحتُ تجويفا بجسمها، تقوّستُ بذهولٍ لأستبين الذي لمحته. رأيت فجوة واضحة في صدرها جهة القلب.
تجرأتُ وسألتها: اعذريني، من فضلك، هل هذه الفجوة هي قلبك؟ هل قلبك موجود؟
قالت: نعم.. ولكنه مفتوح.
نزلتْ دموعي مثل خيوط شفافة رشقت بالأرض وسمّرَتْني مكاني. كذبابة خفاش وقعت للتو في شبكة عنكبوت ماهر.
فتحتْ باب الحمام وخرجتْ، وقفتُ أنظر لها ولزوجها الذي كان ينتظرها بالخارج ممسكا ولديْهما، قبض على كفها بحنان، وقبض على جسدها بابتسامةٍ ملأت تجويف قلبها بسعادة وحياة، وأنضحتْ من عينيها نفس المشاعر، وابتعدوا جميعا في صورةِ قلبٍ آمن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة وقاصّة مصرية،
والقصة من مجموعة “سبع رسائل منقرضة في بريد الفراغ” .. الحاصلة على جائزة الشارقة للإبداع 2023