قبلة بطعم الملح

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

جيلان صلاح 

"لماذا لا تحادثينني؟".

تَمسَح سطح المنضدة المصقول، تأهبت لأن تغطِّيها بالقماشة المزيتة، تتظاهر بأنها لا تسمعه، صوته في الخلفية سارينة إسعاف تدوي على مبعدة، أو بوق سيارة عالقة في زحام ظهيرة القاهرة.

"لقد افتقدتك أمس".

ليس مايكل طفلًا ولا رجلًا، إنه بين بين. ما كلامه إلا ترددات صياح الدرافيل في عرض البحر، أو تغريدة كروان عند الفجر، أو تناغم أطفال الكورال وهم ينشدون ترانيم عيد الميلاد. تتحسس الصليب المتدلي من قلادتها وتتنهد، كم هو صغير! مايكل طبعًا لا الصليب. أضحكتها المقارنة فتوقفت عن تنظيف السطح الخشبي حين قال: "هل تعلمين أن أمي طلبت مني أن آتي إليكِ؟ إنها تتساءل منذ فترة، تُرَى لِمَ لم تعُد ميرا تزورنا مثلما كانت تفعل زمان؟".

أدارت عينيها في محجريهما. أمه! نظرت إليه بطرف عينها، يقف وحيدًا عند مدخل العشة. يضرب الأرض الرملية بطرف حذائه مُحدِثًا خشخشة خافتة. شديد الحرج، شديد الأمل، يخفق قلب ميرا لرؤيته هكذا. تعلم أنه الآن حزين، دومًا تتدلى كتفاه إلى أسفل كلما عجز عن مواجهة مصاعب الحياة، وهي قليلة بالنسبة إلى مَن هم مثله. أما هي... تنهدت، لعل البحر بالخارج يسمع.

"تبدين حزينة"...

رفعت رأسها ونظرت إليه في عدائية فتراجع خطوتين... ياله من طفل!

"أعلم فيمَ تفكِّرين، أنني صغير السن عديم الخبرة، لم أقضِ وقتي في مسح الأرضيات وتنظيف الغرف مثلك".

ابتسمت ابتسامة جانبية وواصلت الكنس. هذا الكوخ ملك أفضل رجل في البحر الأحمر، مالك صانع الخزف، الذي أهداها أكبر هبة يمكن لأحد أن يمنحها لمن هن مثلها، علّمها الحب. إنه الوحيد الذي يعطيها أكثر مما تستحق لحبه لها، وكل لقاءاتهما معًا كانت على منضدة صُنع الخزف، وبعد كل لقاء كان يعلمها شيئًا جديدًا: كيف تصنع مطفأة سجائر، اثني عشر عصفورًا كما صنعهم يسوع بالضبط، مزهرية أو جَرَّة فخارية تصبّ فيها الماء المحلَّى بالحبهان وروح الورد، فتشرب كلما اشتاقت إليه.

أما الآخرون، فهم يعطونها مالًا كثيرًا ليستردُّوه مُضاعَفًا، فلا يكتفون بالحب، بل يسلبونها حدود حريتها خارج الفراش عن طريق قرص فخذها وهي منحنية تجمع الفضلات من الأرض، أو احتضان مؤخرتها بكفوفهم الغليظة بينما تحاول أن تنظِّف الرفوف العليا.

"أتعلمين؟ العام القادم سأكمل ثمانية عشر عامًا. هل تعلمين أنهاالسن القانونية للزواج هنا؟".

تركت ما كانت تفعل ونظرت إليه في حيرة. هو، يتزوج؟ تأملت قامته المتوسطة، شعره البني المتجعد عند الجانبين، عظامه البارزة وجسده النحيل كورقة بفرة تلفها من أجل سيجارة ليلية ممتعة.

"وما شأني؟"، لكنها مهتمة، تُرى من سيتزوج؟ واحدة أخرى من الحمقاوات اللاتي يملأن الكنيسة أيام الآحاد. ربما صديقة معه في الخدمة. ما شأنها هي؟ إنها مجرد "ميرا خدمة الغرف"، هكذا يطلقون عليها في البارات عندما تذهب لتتسلى ليلًا، وهكذا تظنها أمه الدكتورة ساندرا. تُرى لماذا يأخذون الدكتوراه في علوم البحار؟

"أتعلمين لماذا أقول لكِ هذا يا ميرا؟".

"لا أريد أن أعرف"، غمغمَت في ملل مصطنَع وهي تلقي بالقماشة المتسخة على الأرض.

"من وراء قلبك"، قالها وهو يضحك. كم تكره ضحكته! فهي تبرز عيب أسنانه المتراكبة وتوضح صغر سنه. إنه لا يحاول ولو مرة أن يحجمها أو يوظفها لخدمة الموقف. يضحك كطفل، ويغازلها كطفل، ويقبّلهاكطفل.

من يسمعها تتكلم سيقول إنها تكبره بآلاف الأعوام. إن هما إلا عامان يتيمان، إلا شهرًا. لكنهما كانا كافيين بظروفها وظروفه كي تسبقه خبرةً وضراوةً بآلاف الأميال.

"أنا أحبك يا ميرا".

التفتت إليه، لم يعُد يضحك تلك الضحكة البلهاء. بالكاد يفتح عينيه من شدة الشمس التي تسربت لمدخل العشة، وأضاءت التماثيل الخزفية بهالة من نور.

يتكلم كل المحبين عن الليل وسحر نجومه وقمره، لكنها لم تشعر بالحب أبدًا إلا متدفئة بضوء الشمس.

"أنا...".

أمسك بيدها ووضعها على صدره. النبض متسارع والعظام تكاد تمزّق الجلد خارجة. بسطت كفّها على صدره، هاهو ذا القفص الصدري. حبست أنفاسها ثم أطلقتها على هيئة عداد لضلوعه.

"واحدة، اثنتان، ثلاث...".

في ثانية كانت هي وكان هو، وفي ثانية أخرى لم تشعر بأن أسفل منهما أرضًا. اقترب منها برائحته التي لاتنقطع منها روح البحر وحياة الأسماك. لم يكُن كبقية الفتيان يشعّ بالكولونيا أو يضجّ باحتراق الحشيش ودخان الشيشة، كان مختلفًا، ككل شيء فيها، شعرها المعقوص في ضفيرة أو ذيل حصان، بشرتها التي تزداد سُمرةً يومًا بعد يوم، ملابسها التي لا تكاد تغطي جسدها الفائر. ألصق فمه بفمها وقبّلها، كانت قبلاته واثقة على عكسه، ورغمًا عنها قبّلَته.

"هل تحبينني يا ميرا؟".

ارتعشت شفتاه من وطأة انتظار الإجابة. ضمّت كفيها كما لو كانت تصلّي وقرّبت وجهها منه.اصطكّ أنفاهما، شفاههما، أسنانهما. شعرت بجسده يتمدد ليصبح جزءًا منها، توأمَين ملتصقَين أصبحا، أو مفصليات في جسد جمبري، كلما تفككت من الجذع نما جزء آخر مكانها.

"أريد أن أعرف"، سألها بإلحاح. تلاقت نظراتهما وارتعشت شفتاها في خوف. هل تحبه حقًّا أم أنها فقط تحب القُبَل؟

"كلّا، لا أريد أن أعرف؛ لن يغير هذا من الأمر شيئًا".

هوى قلبها في مصعد صدرها. إنه هنا، هو وهي والنوارس، وطائر الخطاف، والدرافيل، والجندوفلي، والأصداف وأسماك البالون والشوكي والدجاجة والهامور وتنين البحر والكابوريا. خرجا من العشة في مواجهة البحر الساكن. كل هذه الكائنات كانت عالمها. وعندما يجِنّ الليل كانت تخرج للرمال عارية، تستلقي عليها وتنتظر أن تأتي أسراب السلطعون لتتغذى على دمائها، بينما تتغذى هي على دماء مايكل وأمثاله في الصباح.

"أريدك أن تجعلني عروس بحر، أو سمكة أبي سيف"، قالتها وهي تجذبه جهة البحر. على وجهها رانت ابتسامة دلال لم تعرف مصدرها.

"أنتِ عروس بحر، الكل يطلق عليكِ هذا هنا".

استدارت لتواجهه وأخذت تتحرك مولّية ظهرها شطر البحر، "إنهم لا يفهمونها كما أفهمها. يظنون عروس البحر فتاة مثيرة ترتدي البيكيني، بينما هي في الأساطير لا ترتدي شيئًا ولا تعرف معنى كلمة إثارة".

"لكن عروسات البحر كُنّ يُغرِين البحارة بالسباحة ضدّ التيار فيما مضى ثم يلتهمونهم عندما تتحطم جثثهم على الصخور. إذن فهُنّ يعرفن كثيرًا عن الإثارة".

مالت عليه وهمست: "وأنت؟ ألا تخشى أن آكلك كما تقول الأسطورة؟".

"أنتِ الأسطورة الوحيدة التي أومن بها".

انسلّت من أمامه وألقت بنفسها إلى العمق، أسفل سطح الماء، رأت الشعاب الحمراء والزرقاء والبرتقالية ورأت أفواج السمكات تحيط بها. سبحت إلى جانبهم، تضرب الماء بقدميها وتبتسم، وإلى جانبها وجدته، يسبح وإن لم يكُن بنفس سرعتها.

تلاقت الأعين، دارت بجسدها حوله وابتسامتها تتسع، قدماها تتركان خلفها ذيلًا من الفقاعات. يحاول أن يفعل مثلها لكن جسده يمنعه، مرونته غير مكتملة وحركاته مازالت تحتاج إلى كثير من الحرية والانسيابية، رغم أنه يقيم في المجمع منذ أكثر من خمسة أشهُر فإنه ليس مثلها. إنها ابنة الماء والرمل والبحر، فتاة الشبوط التي لا تعرف للسباحة بديلًا.

شعرت بذراعه تلتف حول خصرها، في الماء كانت اللمسات أخطر، والأجساد أخَفّ. تلاصقا، وإذ واجهته، استقَرَّا كحصانَي بحر في صلاة عابرة.

تَحسَّس شفتيها في رقة ثم لمسهما بشفتيه ونفخ من روحه فيها. شعرت بأنفاسه الحارة تدخل رئتيها فتثقلهما، تنفست فيه، ومنه، وفيه، ومنه، حتى صعدا إلى أعلى، وعبث بهما الشاطئ من مدّ إلى جَزْر إلى مد.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القصة من مجموعة "هكذا تكلمت لا لوبا" الحائزة على المركز الأول في مسابقة المواهب الأدبية التي نظمها المجلس الأعلى للثقافة 2016 






مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

قلب