تاميران محمود
صدر مؤخرا عن دار ريشة بالقاهرة كتاب الأسطوات للشاعر ميسرة صلاح الدين، يتناول الكتاب سيرة أهم شعراء الأغنية المصرية في القرن العشرين، والدور الواضح لهم في تطور الأغنية المصرية. ويشرح الكاتب في مقدمة الكتاب سبب اختياره لهذا الاسم الذي يمزج فيه بين الثقافة الرسمية والشعبية بشكل واضح فيقول: “تعود كلمة “أُسطى” إلى أصلها التركي “usta”، الذي يعني “الماهر” أو “الحرفي المتمرس”، وقد استخدمت في مصر للإشارة إلى الحرفيين والصناع المهرة، ثم اتسع استخدامها لتشمل الفنانين والمبدعين في مختلف المجالات الذين تركوا بصماتهم العميقة في الوجدان الشعبي المصري. لقد لعب الأسطوات، من كُتَّاب وشعراء الأغنية، دورًا محوريًّا في تطور الفن المصري عبر رحلة في أعماق الغناء والطرب، محولين إياه من أطره الشعبية والفلكلورية إلى أشكال فنية أكثر تعقيدًا وتطورًا تعكس تاريخ مصر وهويتها الثقافية”.
وبهذا المفتتح أوضح الكاتب مقصده من وراء الكتاب وهدفه من رصد سيرة عدد من الشعراء المهمين وهم (بديع خيري، مأمون الشناوي، حسين السيد، فتحي قورة، مرسي جميل عزيز، عبد الفتاح مصطفى، حسن أبو عتمان، عبد الرحيم منصور، عصام عبد الله وسامح العجمي)، ويقدم سيرتهم في فصول منفصلة لا رابط بينها سوى تطور الأغنية المصرية وانتقالها من مرحلة الأداء المسرحي والأوبرا إلى عصر الكاسيت وما بعده.
أثر الفراشة في الأغنية المصرية
يستعرض الكتاب عصر المطرب صاحب الأداء والقصائد المغناة ثم ظهور الأغنية الحديثة فيبدأ الرحلة من مسارح شارع عماد الدين وأثر الشاعر بديع خيري في تحرير الأغنية المصرية من القصائد ذات الكلمات الفصحى إلى الزجل الخفيف والأغنية الشعبية التي تنقل حس الشارع المصري إلى النخبة بكلمات منغمه وهو ما ظهر في مزيج أشعاره بكلمات رجل الشارع العادي لتعكس همومه وآماله.
وكيف ساهمت أشعاره في بلورة تجربة سيد درويش الموسيقية الرائدة والتي تعد علامة تاريخية يجب الوقوف عنده طويلا فأثر بديع خيري في الحركة الموسيقية والشعبية ظهر بشكل يشبه أثر الفراشة من شارع عماد الدين يبيع أشعاره وأزجاله لمطربي المسارح ومحاولاته البسيطة لكتابة مسرحيات ليصبح بعدها الضلع الأبرز في تجربة الريحاني المسرحية التي رسخت للمسرح الكوميدي الحديث وكذلك كلمات أغانيه التي رصدت الحياة الثقافية والسياسية في مصر بألحان سيد درويش فنان الشعب الذي غزت موسيقاه بكلمات بديع الشرق الأوسط كله. وهو الأثر الذي ظهر في موسيقى عبد الوهاب. والأخوان رحباني من بعده.
حسن أبو عتمان
يستمر أثر الفراشة ويستعرض الكتاب علامة جديدة في الأغنية المصرية وهو الشاعر حسن أبو عتمان الذي ارتبط بداياته بشهرة الفنان محمد رشدي وما ثار حول هذه الشهرة من منافسة واضحة بين رشدي وعبد الحليم حافظ خاصة مع مزج الأغنية المصرية في هذه الفترة بصوت الشعب المتحرر من قيود الماضي والواعي بجودة الأصوات مما سمح بظهور نجم جديد في عالم الشعر الغنائي الى جانب عبد الرحمن الأبنودي ومرسي جميل عزيز.
مستعرضا حكاية من الكفاح الحقيقي لهذا الشاعر الذي واجه قدرا من الاستهانة والاستهزاء بقدراته بداية من نشأته الريفية البسيطة وامتهانه لمهنة الحلاقة وحتى وصوله إلى الشهرة وأنه استطاع أن يكتب تاريخ ومكان حقيقي في صف شعراء الأغنية المصرية. ومواجهة التغير الذي صادف الأغنية المصرية ما بعد حرب أكتوبر ليبدأ عهد جديد ووجوه جديدة في الأغنية المصرية.
فولدت تجربة غنائية شعبية شديدة الخصوصية تجربة خرجت من رحم الشارع المصري والموسيقى الشعبية استطاع فيها الشعر مزج الموال الشعبي بالكلمات الغنائية التي تبلور تجربته الواسعة مع تجربة المطرب محمد عدوية الذي تربع على عرش الأغنية المصرية بفضل تجربة حسن أبو عتمان الشعرية والتي انتهت بعد توقف عدوية عن الغناء بعد الاعتداء عليه
إلا أن الشهرة التي لاقتها أغاني عدوية في هذا الوقت شهرة فاقت كل الحدود والتوقعات وحتى بعد عودته بعدد العلاج ووفاة الشاعر حسن أبو عتمان، عاشت كلماته وفاقت حدود الشهرة لما لقوة وجودة صوت عدوية الذي رحل مؤخرا عن عالمنا بعد تربعه على عرش الأغنية الشعبية لأكثر من أربعين عاما.
عبد الرحيم منصور
يواصل الكاتب استعراض أهم تجارب الشعراء ومنهم تجربة الشاعر المميز عبد الرحيم منصور الذي يعد الى جانب خصوصية تجربته إلا أن أثر الفراشة ممتدا في تجربته الشعرية بداية من رحلة لويس جريس في البحث عن المواهب الشابة في صعيد مصر، حتى رحلته التي راهن فيها على التعاون مع الشباب الذين التفوا حول بليغ حمدي وأحمد منيب في بداية الثمانينات مثل محمد الحلو وعماد عبد الحليم ومحمد منير.
وعند تقييم هذه التجربة تحديدا نكتشف انه أكثر الشعراء الذين صادفهم التوفيق خاصة في تجربته مع محمد منير الذي مزج في موسيقاه بين الموسيقى العربية والنوبية والغربية فنرى أن اغانيه قدمت بأكثر من رؤية موسيقية كما نجدها في التعاون بينه وبين هاني شنودة وفتحي سلامة ورومان بونكا
اعتمد ميسرة صلاح الدين في كتابه على التطور التاريخي للشعر الغنائي والمنهج الوصفي بشكل ذكي لم يتعارض مع تركيزه على الشعراء الذين لعبوا أدوارا واضحة في الأنتليجيسيا المصرية ولعبوا أدوارا واضحة خارج حدود الوطن العربي كما في تجربة حسن أبو عتمان مع عدوية وعبد الرحيم منصور مع محمد منير
وقد كان عبد الرحيم منصور حريصا على تقديم نفسه كشاعر عامية أكثر من كونه شاعرا غنائيا له أعمال ترتبط بتاريخ الوطن في لحظة انتصار أكتوبر المجيد لتعيش أغنياته إلى اليوم بأصوات عظيمة تحمل تاريخ اللحظة.
عصام عبد الله
في ظل التغير الذي شهدته الأغنية المصرية وتحديدا في الفترة من بين السبعينات حتى التسعينات وظهر الكاسيت بديلا عن الأسطوانات وهي المرحلة التي شهدت تطورا في صناعة الأغنية على مستوى الهندسة الصوتية وتمهيدا إلى البرمجيات الأحدث تقنيا والسموات المفتوحة والأنترنت في هذه الفترة ظهر الشاعر الذي رسم نجومية عدد كبير من المطربين الذين بذءوا في استخدام التقنيات العلمية وهندسة الصوت أكثر من الاعتماد على فرقة الموسيقى خاصة مع انتشار الفيديو كليب في هذه الفترة.
ظهر الشاعر عصام عبد الله بشكل يحمل رشاقة الكلمة في الأغنية حتى يواكب هذا التطور المتسارع في تاريخ الأغنية المصرية التي تحررت تماما من فكرة الألحان المركبة لصالح اللحن السريع والجملة الموسيقية المتكررة وظهور المطرب بشكل عصري ومتكرر.
وبالرغم من النجاح الذي شهدته أعماله مع عدد من المطربين الشباب وقتها وأغاني الأطفال إلا أنه فضل العمل في مجال الإعلانات التي كانت تشهد طفرة في هذا الوقت مع فترة الانفتاح حتى رحيله في عام 1996.
وهنا لم الأثر فبعد وقاته بأكثر من أربع سنوات تقدم المطربة أنغام أغنية وحدانية التي كتبها قبل وفاته بوقت طويل ليعود اسم عصام عبد الله ليتصدر الساحة مرة أخرى.
يعد كتاب الأسطوات تجربة تستحق الإشادة بمجهود الكاتب الذي أبرز أهم المحطات لأغنية المصرية بمجهود واضح تفوق فيه قلم الشاعر على الباحث في مواطن كثيرة إلا أن العمل المنجز يعد إضافة إلى المكتبة العربية، وكذلك دار ريشة التي أقدمت على نشر هذا العمل الذي يحمل بين طياته تاريخا واضحا لتطور الأغنية المصرية وكلماتها.