محمد حسني عليوة
في روايته الصادرة حديثًا عن دار أقلام عربية، يقدم محمد بركة نصًا نجد أنفسنا فيه أمام رؤية تتحرك في منطقة رمادية بين الاعتراف والوثيقة، وبين الواقعية القاسية والبحث الوجودي عن المعنى. فهي لا تكتفي بكسر التابو، بل تعيد تشكيل الأسئلة حول ما نعتبره أخلاقيًا أو مشينًا في مجتمعاتنا.
رواية، مهنة سرية، لا تُقدّم بسهولة مفتاح قراءتها، بل تتطلب من القارئ أن يستسلم لطابعها التأملي، والمجرّد، وأن يدخل عالمًا يتشكل من انطباعات وأحاسيس أكثر مما هو أحداث ومواقف، وهذا ما أجاده الروائي والكاتب الصحافي محمد بركة، الذي لم يُجرِ انتباهنا، فحسب، إلى تصور ناضج عن رواية عربية تتجرد من تقليديتها المعهودة المتوارثة، بل أفرد مساحة معتبرة لرحلة سردية معقدة، تتشابك فيها خيوط الذات، المجتمع، والوجود الإنساني.. قدّم فيها قصة “علاء”، الشخصية المحورية بما يكفي لتكون مقنعة؛ عن شاب، ليس – كما يتراءى- ضحية بريئة أو منحرفًا بلا مبرر، بل إنسان تشكلت خياراته من تفاعل معقد بين الظروف الاجتماعية والرغبات الشخصية، لنكون أمام حيلة “سردية” ذكية، عمد الكاتب لتخليقها برؤية انتقائية تُحرّك المياه الراكدة في بحيرة الوعي، وتصنع دينامية البعث الوجداني لرغبة كامنة شاهدة على حِسّية النزعة البشرية المجردة.
وهذه القراءة محاولة، لفهم لوحة سريالية منسوجة بخيوط الذاكرة، تتلألأ كمرآة مشروخة تعكس شظايا الإنسان في مواجهة الوجود، في سرد يرفض الأغلال التقليدية، يرقص بين سيرة ذاتية تُعرى الروح، بتأمل فلسفي يكتنفه الغموض.
-اللغة والصورة البلاغية: فضاءٌ للتأويل وانزياحات الذات
تتجلى اللغة في “مهنة سرية” كفضاء تأملي، ومعادل داخلي لحالة البطل الوجودية، تشبه تيار وعي متقطع، يتأمل الذات لا بوصفها مركزًا ثابتًا، بل ككائن قلق داخل عالم مُربك؛ فالقارئ لا يجد نفسه أمام نص روائي بسيط، بل أمام بناء لغوي أشبه بلوحة تشكيلية، تحتاج إلى تأمل من مستويات مختلفة؛ يترجم ارتباك الذات الحديثة ضمن عالم متشابك ومتناقض.
يُعزّز الكاتب هذا التأثير عبر توظيف تقنية التداخل الزمني والمكاني، حيث تنتقل السردية بسلاسة بين فضاءات متباينة، من قاعة رقص صاخبة إلى غرفة نوم، من أزقة وشوارع القاهرة النابضة إلى أروقة أوروبا، دون أن يشعر القارئ بانقطاع في النسيج السردي، وكأنّ الكاتبَ يُعمِل مشرطه في جسد التناقضات اليومية.
هذه التقنية تجعل اللغة أقرب في بعض المقاطع إلى قصيدة نثر، حيث تتدفق الاستعارات والتشبيهات دون توقف، وتتماهى مع الحالة النفسية للبطل.
وفي لغة أكثر حسيّة تنتقل من الإدراك البصري إلى الجسدي، نقرأ: (المرايا التي تكسو الحيطان وتعطي أبعادًا غير حقيقية، صدى الصوت الذي يجعل من “الآهة” الواحدة أنشودة للمتعة ترددها الغيوم. الأدوات التحفيزية المرافقة. النوافذ السحرية التي يتلصص عبرها الآخرون عليهم دون أن تراهم. لم تخطر من قبل تلك المشاعر الاستثنائية التي تلقى بها على حافة العهر. لأول مرة تدخل مكانًا في السابعة مساءً ولا تخرج منه إلا فجر اليوم التالي.)
الصورة البلاغية هنا تمثل طعنًا في اللغة نفسها.. تكشف عجزها، ثم تستعيد قوتها بجملة نابية، أو ذكرى حقيقية، أو سؤال بلا إجابة؛ فالحرمان، كما شق تعريفه الكاتب، هو أن تُدين “الرياح حين تبحث عن شيء تسحقه”.
فيظهر في جوهر النص، أن ثمة تواطؤ فريد بين الخيال والأسلوب، يضعه في منطقة وسطى بين الواقع والوهم، منطقة مُلتبسة بين الألم والرغبة، بين الحنين والفراغ، بين الحسي والمجرد. حيث تتجلى التناقضات الإنسانية في شكل من أشكال البحث المستمر عن معنى مفرط الإدهاش. بذلك، يصبح النص تجربة مستمرة التأويل، تُعاد كتابتها مع كل قراءة، لتظل حية في وجدان القارئ.
-البنية السردية: نسيج من الزمن الممزق والجسد الضائع
نلمس هنا، بنية سردية غير خطية، تعتمد التقطيع السينمائي.. مشهد داخل مشهد، صدمة داخل صدمة. الراوي يتنقل بين الحاضر – حياته المنعزلة في صحراء مصر – والماضي – طفولته في حي شعبي. هذا التنقل ليس عشوائيًا، بل رقصة طقوسية تُعيد ترتيب الزمن لتكشف عن الحقائق الدفينة.
تتجلى هذه البنية في تناوب المشاهد بين الوصف الدقيق لحياة الراوي (أعيش مختبئًا من العالم في بقعة مجهولة على طريق مصر – الإسكندرية الصحراوي. لا أستقبل زوارًا وأتفرغ لتربية النحل وركوب الخيل في المضمار الخاص بي، أما الليل فيتوزع ما بين التناوب على وضعيات اليوجا السبع ومباريات شطرنج ساخرة أخوضها بشرف أمام بطل العالم في الذكاء الاصطناعي..) وبين استعادة ذكريات طفولته، بما فيها (علاقته بأمه، تنمر زملائه، وملاحظاته لخيانات أمه). هذا التناوب يُولد إيقاعًا سرديًا يُشبه النبض: يتسارع حين يغوص في الذكريات المؤلمة، ويتباطأ حين يتأمل في معنى الحياة. البنية، إذن، ليست مجرد أداة سردية، بل مرآة لعقل الراوي المتفسخ، الذي يحاول جمع شظاياه عبر الكتابة.
اللافت أن الكاتب يوظف الذاكرة بطريقة متمرسة على الانتقاء والفرز، فنجد الطفولة حاضرة بقوة في كل مشهد من حياة الراوي البالغ. هذا التداخل الزمني ليس مجرد تقنية سردية، بل رؤية فلسفية تقول إن الحاضر مجرد إعادة تمثيل لجراح الماضي ورغباته المؤجلة.
كما أن ما يميز معالجة الكاتب، في روايته، أنه لم يجعل الفكرة تقع في فخ المباشرة.. مفضلًا تقديم الظواهر الاجتماعية والسياسية كجزء طبيعي من البيئة المحيطة بالشخصية الرئيسية، ما يمنح الرواية عمقًا واقعيًا ويجعل الأحداث جزءًا عضويًا من السرد.
وبدلاً من تحويل الأحداث الكبرى، كالثورة أو التحولات السياسية، إلى خطابات أيديولوجية، ركز على انعكاساتها النفسية والشخصية على الفرد، ما أكسبها حساسية عالية تجاه التجربة الإنسانية.
والعلاقة، الوشيجة التي صنعها النص بين الراوي وجسده، تتشابك مع طفولة تعرضت للتنمر بسبب لون البشرة السمراء. هذا التنمر يُشكل جرحًا نفسيًا يظل ينزف حتى في مرحلة البلوغ، لكنه يتحول إلى مصدر قوة عندما تصبح بشرته “ميزة تفضيلية” في مهنته. هذا التحول يُبرز إحدى المفارقات المركزية في النص: الجسد الذي كان مصدرًا للإهانة يصبح أداة للتمكين، لكنه يظل أسيرًا للنظرة الخارجية، سواء كانت نظرة التنمر أو نظرة الرغبة الجائعة.
والجسد، كمسرح لصراعات الراوي مع ذاته، هو بطل “النص” الفاعل، ومفهومه للرجولة، جنح إلى جعله كمتن متناقض: مصدر لذة وألم، أداة للتجارب والتمحيص. فالمهنة السرية -التي تُوحي بكونها تقديم خدمات جنسية للنساء الأجنبيات- تجعل من الجسد سلعة، لكنها في الوقت ذاته أداة تمرد على قيود المجتمع. وحيث تحول جسده إلى (ماكينة تعمل في صمت، آلة من اللحم تمنح الطرف الآخر مبتغاه دون أن تفكر في نفسها!) في المقابل، حرص على صيانة هذا الجسد من خلال نظام غذائي صارم وممارسة رياضية مكثفة، كما لو كان يسعى إلى إعادة صياغته كدرع مادي يقاوم هشاشته النفسية والوجودية.
كما أن –الكاتب- عزف على وتر إشكالية “إنتاج الصورة النمطية لجسد المرأة”؛ بوصفه معبدٌ تُقام فيه طقوس الرغبة، ومذبحٌ تُراق عليه الآلام، وسط ساحة صراع رمزي، تتعالى فيه الآهات والنداءات والاستغاثات، تتردد الحكايات، وتشيع الثرثرة تحت ضغط الأعراف والتقاليد.. فنرى “طنط وداد” وهي (تقف أمام المرأة حائرة في كيفية التعامل مع ذلك الوحش الصغير المستنفر داخل حمالة صدرها، هل تقمعه فتنال شهادة حسن السير والسلوك من المجتمع والناس أم تترك له حبل الغواية على الغارب فتنال إعجاب حضرة العريس الموعود.) لا تتعامل مع جسدها كامتداد لذات حرّة بل كموضوع اجتماعي يجب إدارته أخلاقيًا، لكنه بمثابة نقطة ارتكاز لتحليل أوسع عن الجسد الأنثوي، فتصوير الثدي كـ”وحش” يعكس رؤية مشوَّهة أو متخوّفة من جسدها كأنثى، وهو انعكاس لثقافة تنظر إلى الجسد بريبة وخشية، و حيث يُفرض عليها الاختيار بين قبول المجتمع (من خلال كبت رغباتها) أو تحقيق ذاتها (من خلال التحرر، حتى لو كان ذلك لإرضاء الرجل – العريس /الموعود) وقد نجح، الكاتب، في تقديم حالة تهيمن عليها الكوميديا السوداء في قلب معاناة الوعي الأنثوي، أو لنقل أنه خلق صورة حية ومكثفة للصراع الداخلي والاجتماعي في قالب درامي مبالغ فيه حول موضوع قد يبدو بسيطًا، لكنه في الثقافة المحافظة يحمل دلالات عميقة، تعزز فكرة أن خيارات المرأة محدودة ومرتبطة بقبول الرجل، دون تفسير ذاك “القبول” بـ”جاهزية الرضوخ” أو “تمكين المفاضلة”.
وإذا كان الجسد هو المسرح، فالروح هي الشخصية الرئيسية التي تتخبط على خشبته. تبدأ الرواية بإعلان الراوي إيمانه بالجنة، ليس لأسباب دينية تقليدية، بل لأنه لم يعرف “لحظة الإشباع الحقيقية” في حياته. هذا الإشباع -أو الرضا- هو الهدف الأسمى الذي يطارد الراوي، لكنه يظل بعيد المنال، ” تفلت من بين أصابعي كأنها ملوثة بالأوهام”. الجنة، إذن، ليست فكرة دينية بل صورة استعادية عن لحظة مثالية مُتخيلة، تتماس في صورة رمزية للحالة النفسية التي يتوق إليها: حالة سلام داخلي مفتقدة، متطلعة للبحث عن الرضا –المنشود- الذي نجح –الكاتب- في أن يصل بالشخصية إلى متاهات فلسفية ووجودية؛ تساءل فيها عن الحب، اللذة، الموت، والروح، مُقدمًا تعريفات شعرية مكثفة (“الحب: أشهر شهداء الابتذال اللغوي”، “اللذة: الكائن الوحيد الذي يموت لحظة ميلاده”). هذه التعريفات هي محاولات لتثبيت المعاني الهاربة في عالم يبدو خاليًا من اليقين. الروح، بالنسبة للراوي، هي ” مخلوق حساس نقتله قبل أن نجد له تعريفًا “، ما يعكس رفضه للاختزالية وتوقّه إلى المُطلق.
وللعلم، فإن الشخصيات النسائية في الرواية، تتجاوز التصوير السطحي كأدوات للإثارة، إذ تُجسد كل منهن جانبًا من علاقة الراوي بنفسه، وبعدًا نفسيًا وثقافيًا غنيًّا تمنحه واقعية وتعددية.. فالأم، هي: الكل، البداية، الأصل، الخوف، الولاء، الحنان. بينما تمثل “إميلي” الطُموح البريطاني العملي، و”أديلا”، تعكس الشهوة والاحتواء والفساد الحسي النبيل. في حين تبرز “طنط وداد”: كرمز للمرأة المصرية، بما تحمله من عبث، حيلة.. وكبت طبقي شعبي.
هذا التنوع/الخلّاق، في الخلفية يخلق تفاعلًا ديناميكيًا يُثري النص، حيث تنقسم الرغبة إلى تعبيرات متباينة، عن النساء الأوروبيات اللاتي يظهرن كشخصيات متحررات من القيود الاجتماعية التقليدية، ويقُمن بشراء المتعة دون الشعور بالذنب. في المقابل، تبدو الشخصيات المصرية محاصرة بين الرغبة والخوف، بين التطلع للحرية والخشية من العار.
هذا التقابل/النوعي لا يقع في فخ التعميم؛ فالنساء الغربيات أيضًا لديهن تعقيداتهن ومشاكلهن، وأن التحرر الجنسي لا يعني بالضرورة السعادة أو الرضا. كما أن البطل نفسه، رغم انفتاحه على الثقافة الغربية، يبقى محمولًا على تناقضات هويته الشرقية.
تضفي، تلك التنويعات، بُعدًا إنسانيًا أعمق، يتخطى إطار الإثارة.. في تفاعل انشطاري يتم فيه انقسام نواة الرغبة إلى نواتين متنوعة أكثر وأصغر حجمًا، بما يُسهم في ترميم الصورة الذهنية الممزقة بإعادة تنظيم الفوضى إلى أفكار متماسكة تنبض بالطاقة والوضوح.
وهذا الحال عندما تقترح معادلًا مصطلحيًا لمفهوم الجنس في الرواية، ولعل أهم ما في فيها معالجتها لعلاقة الجسد بالهوية. فقد وثّق الكاتب تفسيره لمهنة البطل، بأنها كـ”فن” وحرفة لها قواعدها وأخلاقياتها الخاصة. وهذه النظرة للجنس كصنعة قابلة للإتقان والتطوير تصدم القارئ العربي المتعود على رؤية الجنس إما كحب مقدس أو كخطيئة مُحرمة.
لذا لم يجعل القفلة الختامية للحكاية تقترح خلاصًا، لأنها، ولأنه -الكاتب- برقَت في مخياله أنه يكتب الألم بطريقة تُشبه التنفس، عن حياة ليست مأساة، بل نكتة ثقيلة جدًا، مكتوبة بخط رديء فوق لافتة مزيفة.
– افتكاك العزلة في قلب الذات
العزلة، هنا، بمثابة خلفية تُرسم عليها تفاصيل الرواية؛ فالراوي يعيش في “بقعة نائية على طريق مصر – الإسكندرية الصحراوي”، بعيدًا عن العالم، محاطًا بنحلٍ يُغني وخيلٍ ترقص تحت النجوم. هذه العزلة ليست ملاذًا، بل منفى اختاره ليهرب من عالم يراه غريبًا. لكن الفراغ الذي يُطارده: فراغ مغلف بغياب الارتباط الذي يُشبع الروح، كأن الراوي يُحيك عباءة من الريح ليُدفئ بها قلبه البارد، عبر طقوس يومية صارمة (اليوجا، الشطرنج، السباحة في مياه باردة)، كما لو أنه يحاول ملء –تلك المساحة- بحركة دائمة.
وفي نفس الوقت، ليست اختيارًا عابرًا، بل ملاذًا من عالم يراه غريبًا ومعاديًا. لكنها –أيضًا- لا تُحقق السلام المنشود، بل تُكثف شعوره بالفراغ الوجودي. على الرغم من مهنته التي تقوم على التواصل الحميم مع العميلات، إلا أن هذه العلاقات تبقى سطحية، محكومة بالمال والرغبة المؤقتة. حتى علاقته بـ”روزيتا”، التي تتطور إلى شعلة حب، لكنها تنطفئ تحت رماد الواقع، حين تختار زوجها الملياردير، فتتحول معها العلاقة إلى آلية غريزية مليئة بالتنازلات المؤلمة.
كتابة الذات: سيرة الهوية والهامش
يُقدّم النص صوتًا فارقًا، ينبعث من تلك المساحات المهمّشة التي يُفضّل الوعي الجمعي طمسها أو التغاضي عن وجودها. قوة هذا الصوت، وببراعة الراوي العليم، تكمن في جرأته التعبيرية التي تخترق أعماق النفس البشرية، دون أن تستسلم لمنطق الإثارة السطحية أو الابتذال، مُحافظًا على صدق الألم والتجربة.
وتكمن قدرة النص في كشف التوترات العميقة التي تحكم البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع المصري، خاصة لدى جموع الشباب الطامحين إلى حياة كريمة ومستقبل مشرق.
ويتبدى هذا التوتر كمرآة تُظهر الحقيقة وتشوُّهها؛ فالراوي يرى فيها نفسه (النسخة الإفريقية المعدلة من ويل سميث)، لكنه يرى أيضًا شروخ ذاته، صراعه مع هويته، بين ما هو عليه وما يُريد أن يكونه، كأنها بحرٌ يُغرقه في أعماق لا نهائية.
تمتد هذه التناقضات عبر النص ككل، بين الشرق والغرب، بين الريف والمدينة، بين الجسد والدين، وبين الفقر وسؤال الكرامة. حيث كل شيء يبدو حقيقيًا ومشوهًا في الوقت ذاته.
هنا، تتحول القراءة، التي ليست سهلة على الإطلاق، إلى عملية كشف عن تناقضات مجتمعية حادة، تترك القارئ/ المتلقي حائرًا أمام مشهدية قاسية تُجسِّد صراعًا وجوديًا بين المثالي والواقعي، بين المكبوت والمعلَن.. بين الرغبة المقموعة وتحولها الى عار، (أريدك بعرقك وبدائيتك يا صديقي الأفريقي الأجمل، اخترقني بجوعك وغضبك وحنقك على الغرب الذي سرق خيرات قارتكم السمراء.) وبين اللافتات التي تزيّن واجهة المحل فوق أكوام القمامة كجزء من لعبة البيع والاستهلاك المجتمعي؛ فالقيم في هذا السياق، المُشوّهة عن عمد، صارت انعكاسًا مريرًا لواقع تغوص فيه الحقيقة تحت طبقات من فتائل الاشتعال الوشيك، وإزاء صيرورة الانزياح الدلالي الذي يفرضه منطق السوق.
ما فعله، محمد بركة، ليس إعادة تمثيل، أو طرح أسئلة جوهرية عن الواقع فحسب (عرفتُ أن التاريخ يعيد نفسه فعلًا، جوهر الحكمة الإنسانية يتكرر عبر الزمان مع بعض المساحيق الحداثية التي لا تقدم ولا تؤخر. في زمن غير الزمن حين كانت الأشياء واضحة والفوارق جلية والشبهات زواحف صغيرة تتوارى خجلًا)، لكنه أيضًا قدّم رؤية إبداعية، لا تهرب من الألم ولا تواريه، بل تُبرزه بصدقٍ وجَرأة، في وجه عالم تغيب فيه الحقيقة وراء ستار من التناقضات الثقافية والاقتصادية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر وناقد مصري