المجاز السياسي.. الدلالات والتفسير 

المجاز السياسي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ناصر السيد النور*

يعود مجدداً الباحث وعالم الاجتماع السياسي والروائي المصري الدكتور عمار علي حسن بعد أربع سنوات من صدور كتابه (الخيال السياسي) 2018م إلى البحث والحفر المعرفي العميق في الفكر السياسي النقدي في كتابه الجديد (المجاز السياسي). ويتناول هذه المرة الفكر السياسي من خلال أداة المجاز كإحدى أدوات اللغة والبلاغة في كتابه الصادر عن سلسلة عالم المعرفة هذا العام. ويعد المجاز بتعريفاته اللغوية والبلاغية مواضعاته وإحالاته البيانية من أكثر أدوات البلاغة والبيان والتفسير والفقه خلافاً على صعيد النصوص التراثية العربية على مدى قرون. ولم يعد تصوره محتملاً خارج سياقه اللغوي البلاغي التقليدي. ولعلها المرة الأولى في تاريخ الكتابة العربية المعاصرة في ربط المجاز بالسياسة في نطاق ليس حصرا على فلسفة العلوم السياسية، ولكن على مجال تطبيق هذه السياسة عما إذا كانت سياسة ذات سلطات Police أو علم سياسة Politics أو ممارسة سياسية كما في الحكم Policy أو سياسة لغوية Politico-linguist وغيرها من مفاهيم سياقية تتفاوت في الاشتقاق اللغوي والإجرائي على مستوى التنفيذ السياسي أو الاستخدام الدارج اليومي في لغة الإعلام. فإذا عرفت الكتابات السياسية العربية الأحكام السلطانية للماوردي والمواعظ الإرشادية في الحكم كسراج الملوك للطرطوشي وتدبير السياسة، وكتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد للكواكبي وصولاً إلى المناهج النظرية في السياسية ككتاب المدخل في علم السياسة لبطرس غالي في العصر الحديث، وغيرها من المؤلفات والموسوعات التي تتفاوت ما بين التخصصات العلمية في علم السياسة والفلسفة السياسية، أو الدساتير والمنظمات السياسية والأيديولوجيا وتاريخ الأفكار السياسية. وغالب هذه مؤلفات الكلاسيكية منها والحديثة يدور في فلك كتابات ارسطو في السياسية واللفياثان لتوماس هوبز، وكتاب ميكافيللي الأمير الذي يستأثر به الحكام لا المفكرين.

ويأتي مؤلف (المجاز السياسي) بعنوان غير مسبوق ليربط بين أحد أدوات اللغة البلاغية وما تمثله من خطابات مضمرة في تعدَّد مستوياته المُوظَّفة في الحقل السياسي بقدر سعته، أي المجاز وصوره القارَّة في مجال التداول اللغوي العام؛ وبين ما تشكله اللغة (الكلام) كما يرى المؤلف في الخطاب السياسي العام وكيف تُحمَّل الكلمات والصور البلاغية والمجازية بمفردات سياسية يكون تأثيرها بليغاً في تكَّوين المَخِيَّلة السياسية لدى الجماهير التي استعرضها باستفاضة مستقصياً أصولها المعرفية وفضاءات استخدام دلالتها. وبالتالي لم يتجاوز المجاز فيما يذهب إليه الباحث أصوله ومواضعاته واستخداماته المتجذرة في الكلام واللغة، ولكن في اقترانه بالسياسة ومحاولة استقرائه في التعبير السياسي تزداد أهميته البيانية والوظيفية. وأهمية المجاز -اللغوية -في البيان العربي تفوقت على غيرها من أدوات البيان في البلاغة العربية وعدَّت سراً من أسرارها، وانحصر استخدام البيان -الواسع-في دائرة غزيرة الإنتاج من التراث الحضاري للعربية، فشكَّل في الذاكرة اللغوية والثقافية العربتين لوناً بلاغياً جاذباً وارتبط بمدارك عقلية بحتة كما في كتب المجاز العقلي وأسرار المجاز التراثيِّة وكلها مؤلفات، فمثلما شكل المجاز خطراً عند مقارباته الكلامية كما لدى المعتزلة أو في تفسير النصوص الدينية على نحو ما كتب حديثاً المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد في كتابه (الاتجاه العقلي في التفسير دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة)، ويمتد هذا الخطر ويضرب بظلال كثيفة على الواقع المعاصر وإن استحدثت المتون واختلفت بالتالي مجالات الممارسة والتطبيق. والمجاز لا معنى له إلا إذا أكتسب تصوراته المرغوبة في سياق التعبير؛ وإن جرى استخدامه من مؤسسات بعينها لتصوير الحقيقة المجازية غير تلك التي عليها في اللغة. ولعل المجاز وما يحدثه في تأويل المنطوق اللغوي لم تقتصر أهميته على العربية، فكل اللغات تؤثر المجاز Metaphor بتعدد أنواعه وتُخصّب به مدوناتها اللغوية كما يتضح من التطور الفيلولوجي لهذه اللغات ولتصيغ رؤيتها للعالم عبر دلالته. وكان مدخلاً في التفسير وتجاوز علاقات الكلمات والمعاني والمقاصد، أي قرائن المجاز بتعبير البلاغيين، أو ظلال المعاني كما يرى اللغويون أمثال اللغوي نعوم تشومسكي في نظريته اللغوية عن بنية اللغة والمعنى. وتكون مماثلة المجاز في الخطاب اللغوي تصدياً تستعيد به المقارنة تجاوزاً وتصعيداً لحركة اللغة في نسق أبلغ في الدلالة وطاقة تحفيزية تثير وتوحَّد مخيلة الأمم مختزنة في خطابها الاستطرادي Discursive رموزها الثقافية بتعدد وسائطها متضمنة خطابها السياسي، بالطريقة التي تتعقد بها اللغة السياسية باستخدام الخطاب السياسي في سيِّاق المجاز المفاهيمي، بما يفضي إلى شخصنة قضايا الخطاب السياسية العامة بإبراز هوية خطابية بدورها تمثيل أعلى للهُوية في بعدها اللغوي.

ومن الواضِّح أن كتاب (المجاز السياسي (يدل على الارتباط وتوظيف المجاز -ذلك العنصر اللغوي- بما يتعدى اللغة إلى أقصى درجة ممكنة من خلق صورة محددة في المجال السياسي، والسياسة كفعل متغير بحاجة الى استحداث مفرداتها اللغوية من بين أدوات أخرى تستخدمها ليس أقلها الحرب على مقولة الاستراتيجي البروسي كلاوزفيتز من أن الحرب هي السياسة بوسائل أخرى! فنحن أمام عنوان مستجد غاية في الابتداع ينبي عن اتساع مخيلة روائي له في الأدب نصيب وفير وإنتاج غزير. فإذا أخذنا دلالة العنوان (المجاز السياسي) بالمفهوم السيميولوجي فنجده عنوانا لافتاً ودليلاً إشارياً ومقاربة في الاستدلال تنهض على استراتيجية العنوان الذي يحيط بالنص ومحتواه فيما يتصل بالبعد السيميولوجي من أن المقولات الذهنية ونظم الفكر ما هي إلا انعكاساً للمقولات اللسانية. وخلافاً لكثير من الدراسات أو الكتابات العربية السياسية التي تخالف في تناقض فجٍّ بين العنوان والمحتوى ومن ثَّم يختل التحليل ويوهم العنوان بأكثر مما يوحي به المُتن ككتاب إصلاح المنطق لابن السكيت في القرن الثالث الهجري!

ولكن ما الذي يطرحه عمار في كتابه الجديد، وما الجديد بعد الخيال السياسي، وهل باتت الكتابة السياسية تركن إلى مفاهيمها النظرية المجردة وليس تأويلاً أو تحليلاً عن واقع متخم بنتائج الممارسات السياسية التي تعد كارثية خاصة في المنطقة العربية؟ ومن ثمَّ لا يحتمل المجاز وتأويلاته ، ولماذا المجاز السياسي وليس الحقيقة السياسية المٌتجليِّة في سياسيات تطبيقية ملموسة في العدل والحرية والتنمية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وغيرها من شعارات ضجت بها المنطقة؟ وهل المجاز السياسي ممارسة نظرية تصنف ضمن علم اللغة ودلالاتها الرمزية وآلياتها البلاغية وما ينتُجّ ضمن سياقات التكافؤ الإشاري والإيحائي والشكليِّ وغيرها من أدوات مما يعبر به عن المضامين غير اللغوية التي توظَّف في الخطاب السياسي الذي ينزع إلى المراوغة أو ما يطلق عليه الكاتب الشفرة الذكية بين القارئ “كاتب يراوغ بالمجاز، وقارئ يصطاد المعنى، كي يساعد من يمنحه إياه على الاستمرار”. بذَّل الكاتب جهداً في مقاربة أطروحته بين أعقد نظامين (اللغة والسياسية) يمثلان أهم الظواهر الإنسانية الوجودية كاللغة والانطولوجيا في علاقاتها الجدلية والتأسيسية وما تكشف عنه في تمظهراتها أو تمثلاتها الفينومينولوجيا في ماهيتها الفلسفية؛ والسياسة في نظريتها التقليدية ومؤسساتها ووسائل رسمها وتنفيذها في إطار أجهزة الدولة State Apparatuses واحتكارها للعنف المشروع بالتفسير الفلسفي القانوني العام. وسعى الكاتب بأدوات بحثية مُتمهِّرة بين مناهج بينية عدة غطت مجالات واسعة من المنظومات اللغوية وفلسفة التاريخ والأحداث السياسية والإعلام …الخ إلى فهم تفسيرات ودلالات المجاز السياسي أو كما يقول: “كان من الضروري أن يمتد إلى سبر أغوار مختلف التعبيرات السياسية، شفاهية كانت أو مكتوبة، بغية فهم ما تنطوي عليه من مجازات متعددة”.

المجاز السياسي:

يفصل المؤلف في كتابه عبر ستة فصول مشتملة على مقدمة ومَسْرد أهم المجازات السياسية المتداولة عبر مادة بحثية كثيفة على طريقته الموسوعية في المقاربة والتحليل بين المجاز في سياقه اللغوي والسياسة في فعلها النسبي، إذ يرى عبر مقدمته الشارحة إن الكتاب يتوسل المجاز لدراسة السياسة. وباعتبار أن المجاز مشروع تم إنجازه وتوطنت أسسه في منظومة البلاغة العربية، أي أصبح الثابت في العربية بينما السياسة تظل فعلا متغيراً ومتحولاً لكنها تحتاج إلى المجاز لأن اللغة تسبق الفعل السياسي برأي المؤلف أي مشروعية الفعل المبرر. وغالباً ما لا تأتي الحقائق السياسية الا متمازجة مع المجاز اللغوي والتصور الأسطوري ويأخذ مصداقية تكون لها صلابة الشرائع في قول الفيلسوف الألماني نيتشه. وتحَّول المجاز تاريخياً بدلالاته البلاغيِّة – الواسعة- وتفسيراته الجدلية في مدارس الفقه الإسلامي من وراء من توتر اللغة (المجاز) وممارسة السلطة (السياسة)، أي بما يُفسِّر صيغة خطاب السلطة والمعرفة في وصف الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، ومن ثَّم تحول المجاز على أيدي السلطة من أداة بيانية إلى أداة سياسية تتصف بالميكافيلية Machiavellianism المطلَّقة في تطويع الواقع السياسي بما يوافق سياسات السلطة السياسية ومواقفها الدينية العقدية المنحازة أيدولوجيا كالمعتزلة التي آثرت التفسير المجازي للقرآن في زمن المأمون بينما نفى فيما بعد الأشاعرة استخدام المجاز؛ بل وكان أداة قهر للمخالفين لها. وينبه الكاتب إلى “أن وقد انحاز المعتزلة إلى غلبة المجاز على الحقيقة وفي نظرهم إنه لا كلمة في مواضعتها إلا وهي تحتمل غير ما وضعت له”.

ثُّم يدلف المؤلف في الفصل الأول إلى (السياسة والكلام)، ولأن السياسة مركب والكلام حامل المحتوى والوسيط بين أطراف ممارسي السياسية أو من تقع عليهم تطبيقات السياسة. فالسياسة لا تنزع عن اللغة وإشاراتها ودلالاتها الصريحة أو المضمرة أو المعبر عنها من خلال توظيف إمكانيات اللغة في البلاغة والمجاز ومختلف أدوات التوصيل اللغوي غير المباشر. ويسهب في شرح التواشج بين اللغة والسياسة وكيف أن الخطاب السياسي كما يؤكد مسكون بالمجاز، وبما أن المجاز من اللغة وإليها تكون ظاهرة اللغة مسكناً انطولوجيا وهو ما يوافق القول الفلسفي للفيلسوف الألماني مارتن هايدجر اللغة مسكن الوجود. ويشير إلى الأدوات الأخرى المستخدمة، ليست اللغة المنطوقة وحسب ولكن حينما تتجلى في الرسم والتشكيل وغيرها من فنون وأشكال تعبيرية. وهذا المنزع الفلسفي لا يكون مجرداً بل لديه تطبيقاته على الواقع الممارس حين تتفاعل لغة السياسة في حمأة الصراع السياسي فيرد مثلا سائداً في الحكومات العربية تجاه معارضيها الذين لا يملكون إلا الكلام وهو كناية عن نقص في الفعل المادي النَّاجز.

ومع ان الكلام ليس اللغة، فثمة صورة ذهنية تُخلقِها اللغة كما نموذج اللغوي السويسري فرديناند سوسير في الفرق بين الكلام واللغة وما يحدثه اللفظ المنطوق في الذهن ويكونه ما يعرف بالعلامة. وهنا يحدد المؤلف الى القول إن “… الكلام يتعدى الصوت واللفظ، ويسكن الجملة والعبارة، ويكون قابلا للتأويل والاجتهاد في تفسير معانيه ومراميه، التي تكمن في المفردات والتراكيب والعبارات”. ومن الأمثلة التي تبين مدى فعالية التصورات اللغوية ما كرسته مدرسة التابع في تنميط تخيل المجتمعات في دراسات ما بعد الاستعمار Postcolonial عن المجتمعات خارج المنظومة الغربية وكيف أن مختبرات التحليل الثقافي واللغوي عملت على تصنيف تراتبية المجتمعات التي أخضعت للدرس قبل الهيمنة والاستعمار وهي صورية مجازية موازية للفعل السياسي المهيمن، وصفها هومي بابا أحد منظري هذه المدرسة بالأمم السَّردية أو المُتخيِّلة بتعبير المؤرخ بنديكت أندرسون. وبهذا يشرح المؤلف كيف استفادت ووظَّفت السلطة -المطلقة- عادة المفردات اللغوية والصور البلاغية، ونحن كما يقول المؤلف “من يفكك بنية الخطاب السياسي العربي المتداول يجد أنه ليس مألوفًا عندنا أن نبحث في الآليات المحركة للغة في مجال السياسة، لأننا لم نتشبع نواميس استراتيجيات الخطاب عامة وقوانين استراتيجيات الخطاب السياسي تخصيصا”.

اللغة والسياسة:

 وتخضع اللغة المجازية في الكتاب لتحليل مسهب بما أنها مدار ومصدر المجاز كآلية تستخدم وفق الإدراك اللغوي للمرسل والمستقبل وبها تًنتج الخطابات السياسية والاجتماعية وترٍّسم حدود سياسات بين الحاكم والمحكوم؛ أي السلطة وما تريد فرضه من سياسات حقيقية أم متخيلة دعاية سياسية متخمة بالأكاذيب بحثاً عن شرعية مُفتقَدة في غالب الأنظمة السياسية العربية. وهذه السياسات ليست بحال – كما نفهم من المؤلف- برامج سياسات اقتصادية أو تنموية بقدر ما هي محاولة لصناعة خطاب سياسي يستخدم في التعبئة السياسية في نماذج ممارسة السياسة والسلطة في العالم الثالث. وباتباع سياسة على هذا النمط يؤكد الكاتب من الطبيعي أن يكون مصدرها البلاغة (اللغة) وما تنطوي عليه من استعارات ومبالغات وتشبيهات وليس دراسات أو مسوحات علميِّة تستهدف الوصول الى حلول في سياسات تكون نتائجها غايات الحكم الرشيد.

في هذا الكتاب يطوَّف الدكتور عمار على حزم من النظريات والدراسات اللغوية السياسية والسيكولوجية وعلى مصطلحات لغوية ونظريات سياسية شكلت بنية خضع فيها المجاز اللغوي إلى تحليِّل عبر الخطاب السياسي مما جعل مادة الكتاب لا تخلو من تعقيد من أكثر من جهة: البحث في المحور النظري للغة باستخدام أحد أهم أدواتها (المجاز)، وتتبع استخداماته بالمعنى السياسي في لغة الإعلام والسياسة بالطريقة التي يستخدمها ممارسو السياسة وقادتها. وهذا التركيب البحثي جعل من البراهين والفرضيات البحثية في مادة الكتاب تُسهٍب في استخدام المادة المرجعية لما يفهم من تشكيل للأصول النظرية للمادة البحثية. وهذا يتضٍّح في تعدَّد مسارات الكتاب بفصوله وخاتمته ومسرده بالمجازات السياسية المستخدمة مما يجعل منه مرجعاً لا غني عنه في الدوائر الأكاديمية والسياسية الاستراتيجية وصانعي القرار والسياسات العامة والعلوم والإنسانيات والنظرية والإعلام؛ ولكن تتعذر قراءاته على القارئ العادي وإلى حدٍّ ما المثقف العام!

ولكن كيف تطوّرت الرؤية البحثية في هذا الكتاب لعالم الاجتماع السياسي الذي اتصل مشروعه البحثي والفكري والأدبي منذ وقت بعيد؛ أي منذ مؤلفه البارِّز في التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر والعديد من مؤلفاته السياسية والفكرية والأدبية الأخرى؟ أي كيف طورَّ الصيغة والرؤية العلمية المنهجية في تحليل إحدى الظواهر الإنسانية (اللغة) المجردة على واقع معيش كالسياسة. فتجربة الكاتب تنبثق عن لغة ابداعيِّة متمكنة في تأصيلها الإبداعي وتخصُّص في العلوم السياسية إلا أن أهم ما يميز كتاباته السياسية كما في هذا الكتاب الخروج من دائرة التقليدية المتوارثة في المناهج البحثية المتبعة في مثل هذه الدراسات. فما بين مادة المجاز وموقعه في اللغة والسياسة وتموضعها في السياق الاجتماعي تَوَغَّل الكاتب مفسراً دلالات وتفسيرات المعاني بأدوات محكمة في رؤية التَّداخُل بين منطوق اللغة ومرموزاتها وتفسيراتها المجازية شملت الدعاية السياسية والمكونات الاجتماعية (الجماهير) والإعلام (الصورة) وغيرها مما يستخدم في الخطاب السياسي بتوظيف المجاز. فإذا كانت رؤيته في كتابه السابق (الخيال السياسي) الذي لم يكتمل كما يقول “إلا أن معناه لن يكتمل إلا بالنظر في “المجاز السياسي”، وبهذا التمدَّد في التعبير عن الفعل السياسي وتداعياته يكون الباحث قد طَّور من رؤيته النظرية في الربط ما بين المجاز السياسي والخيال السياسي وكلاهما أداتان ترتبطان بالبعد الشعوري في إمعان التفكير والخيال تستخدمان في الخطاب السياسي وبحاجة إلى تفسير يتقصى الدلالات كما تجسدها عبارات الخطاب ونتائجه الفعلية في الممارسة السياسية.

وبتحليله للصورة في فصل مفصل عن مدى تعدَّدها وتشكلها الذهني واللغوي والنصي والمغزى من استخدامها، استطاع بتتبعه البحثي مقاربة الصورة من مستوى صورة اللغة الشعرية، على نحو ما قاله الشاعر اللاتيني قديماً هوراس من أن الشعر هو التصوير. وقد ركزّ الكاتب على تحليل الصورة بمختلف دلالتها وما توحي به أو ما تحاول أن تستنطق به عوضاً عن أشكال كثيرة في التعبير. وبمسح شامل قرَّب الكاتب الصورة بحسب سِّياق الاستخدام التصَّويري Imageology والنمطي في الفنون والأديان والنقوش والنصوص والصورة الرقمية الحديثة ولم ينس أن يشير إلى ما ارتبطت به الصورة وتعامل الآلة الإعلامية لبعض الدول في تبرير وخلق سياسات أدت الى صراعات على نطاق متسع أحدثت تحولات على الخارطة الدولية. وهذا ما يطلق على بلاغة الصورة السياسية وبهذا تكون الصورة قد شكلت نصاً مجازياً مترعاً بالتصورات والمفاهيم وأصبحت بالتالي للصورة سلطة ممارسة مؤثرة تأخذ أشكالاً كثيرة في الأزياء والاحتجاجات وغيرها من أنشطة إنسانية يحتويها قالب الصورة سواء أكانت صورة ثابتة أو متحركة أو مرسومة وصولاً إلى الصورة الرقمية وما أحدثته في عالم تكنولوجيا المعلومات. ولكن تظل الصورة الذهنية كما يرى المؤلف وخاصة في “تفاعل الإنسان مع المكان والزمان والسياق والعلاقات الشخصية والأفعال المرتبطة بالطبيعة والخبرات المكتسبة حيالها، والأحاسيس والمشاعر والانفعالات”. ونكتشف في هذا الفصل الممتع في موضوعه كيف أن عالماً وأحداثه تقوده الصورة المجازية وخاصة في حالات يسمها المؤلف بالمبالغات السياسية وتوظيفها في الحماسة والخطابة وغيرها من أنماط بث الصورة المجازية التي توظف اللغة بما تتملكه اللغة من مآثر شعرية وقدرات خطابية عالية.

ويكتسب هذا الكتاب أهميته ليس حصراً على المجاز اللغوي وفلسفة اللغة أو البحث في مفاهيم العلوم السياسية أو بمعنى يكون موجهاً لطائفة عريضة من الدارسين والمهتمين بالمجال السياسي، وإن بدت صرامته المنهجية في التحليل التي تنبع من حدَّة بحثية بحتة، وتخصصية على نحوٍ شامل؛ ولكن تبقى القضايا التي يثيرها محل اهتمام جاذب لطائفة عريضة من المهمتين بقضايا الشأن العام ومادة معرفية زاخرة تدخل في الخطاب التداولي برؤية متجددة وبأدوات مستحدثة فيما يمكن أن يسمى بالنقد السياسي المعرفي.

وبعد، نخلص إلى أن المجاز السياسي والبحث عن تجلياته على الواقع ليس رؤية طوباوية تتعامل مع السياسية كفلسفة اللغة وما يتصل بها من سياقات نظرية وحقول دلالية، فقد وجدنا أن الواقع المجازي هو ما يفضي عبر صياغاته المتعددة إلى رسَّم صور ذهنية أساسها الاستخدام المجازي في حياتنا السياسية. فما بين الخيال السياسي والمجاز السياسي تتاح خيارات رؤية الفعل السياسي ونتائجه وتحليل ظواهره بما يؤدي إلى ما يعرف بالعلاج المعرفي لكتاب شكَّل مبحثه (المجاز السياسي) نقطة متقاربة ما بين اللغة والتعابير الثقافية والسياسية الأخرى ووظيفة اللسانيات Interlinguistic ويُعدُّ من أميز الكتابات العربية الرائدة في هذا المجال.

………………………..

* كاتب ومترجم سوداني.

مقالات من نفس القسم