في رواية “بيت الجاز” لنورا ناجي، يصير الجاز أكثر من وقود تُضاء به المصابيح في الأزقة الضيقة؛ إنه مادة سردية خام، سريعة الاشتعال، تترك وراءها رائحة لاذعة تلتصق بالذاكرة كندبة نار. الرواية تشبه عود ثقاب اشتعل فجأة في غرفة مظلمة: يضيء اللحظة بعنف، ثم يخبو تاركا دخانا أسود يذكرك بأن الظلام كان هنا، وسيعود. هنا، حيث تتداخل حكايات ثلاث نساء كأطياف في ضباب، تعيد نورا ناجي تعريف “الخراب” ليس حدثا عابرا، بل حالة وجودية تتسلل إلى أعصاب القارئ قبل عينيه، وتعلمه أن الألم ليس مجرد شعور، بل هو عالم مواز نعيش فيه جميعا.
الجاز: استعارة للزمن السائل والألم المتطاير
الجاز في كيمياء الرواية ليس مجرد تفصيل مكاني، يتحول الجاز إلى مادة سردية خام: سريع الاشتعال كغضب مرمر الطفلة، عابر كأحلام يمنى الطبيبة، لاذع كأسئلة رضوى الكاتبة. الجاز هو نص مواز: رائحة تذكرك بأن الألم لا يموت، بل يتبخر ليصير سحابة تظلل الشخصيات في كل خطوة. سائل ينسكب كدمع حارق، إنه الوقود الذي يحرق الطفلة مرمر وهي تشعل جسدها، والرائحة التي تلاحق يمنى في مستشفى الجذام، والحبر الذي تكتب به رضوى أسئلتها الوجودية. الجاز هنا يتشظى إلى استعارات متعددة:
- سرعة التطاير: كغضب مكبوت ينفجر فجأة، ثم يختفي تاركا فراغا.
- الرائحة النفاذة: كذكرى مؤلمة لا تُغسل، تظل عالقة في ثنايا المكان.
- الاشتعال الصامت: كصرخة مكتومة تحرق من يمسك بها قبل أن تصل إلى الآخرين.
حتى ثورة يناير التي تطل كخلفية للرواية، تصور كشرارة التهمت نفسها سريعا، تاركة رماد أسئلة عن جدوى الاحتراق في عالم يكرر أخطاءه. وكما يتبخر الجاز سريعا، تتبخر الأحلام في هذا العالم، تاركة وراءها طبقة سميكة من الخيبة.
نساء ثلاث: دمى “ماتريوشكا” في متاهة الوجود
الرواية تحفر في ثلاث طبقات من الأنوثة المهشمة، كدمى “ماتريوشكا” الروسية: كل منهن تحمل في جوفها نسخة أصغر من الكارثة، وكأن الألم يتوارث كجين مسموم:
1. مرمر: الطفلة التي اغتصبت طفولتها
هي “نورا هلمر” جديدة ولدت في زمن القيود، لكنها حرمت حتى من فسحة الهروب. مرمر ليست مجرد ضحية اغتصاب جسدي، بل هي رمز لاغتصاب البراءة في مجتمع يرى في الطفلة جسدا قبل أن يراها إنسانا. تشبه شخصية “أنتيجوني” في تمردها الصامت ضد قوانين العائلة والمجتمع، لكنها تختلف عنها في عجزها عن دفن أخيها الرمزي: طفلها الذي ألقي من النافذة. سقوط الطفل هنا ليس حدثا دراميا فحسب، بل هو سقوط للإنسانية في هاوية الصمت.
2. يمنى: الطبيبة التي تشهد الموت مرتين
يمنى، التي تعمل في مستشفى الجذام، لا تواجه الموت الجسدي فحسب، بل تشهد موتا آخر: تحول المرضى إلى “جثث متحركة” بلا أطراف أو ملامح. تشبه “إليزا دوليتل” في مسرحية “بجماليون”، لكنها ترفض أن تكون دمية في مسرح المجتمع، فتفضل الاحتراق بصمت. مشهدها وهي تراقب مرمر من النافذة يذكرنا بلوحة “الصرخة” لإدفارد مونك: صمت يصيح بأعلى من الصوت.
3. رضوى: الكاتبة التي تحول الألم إلى حروف
رضوى، التي تكتب عن يمنى التي تكتب عن مرمر، تشبه “فرانز كافكا” في تحويل الألم إلى فن، لكنها تدرك أن الكتابة خيانة للحقيقة. حبرها لا يستطيع إعادة تركيب الأطراف المبتورة، ولا إحياء الطفل الميت، كمأساة الكاتب العربي: يمسك بقلمه كمن يمسك بملعقة ليفرغ البحر.
هؤلاء النسوة يجسدن سلما من الانهيار: من اغتصاب الطفولة إلى صمت المشاهدة، ثم محاولة توثيق الكارثة. وهن معا يشكلن مرآة للمرأة العربية التي تحاصر بأسيجة العادات والتناقضات.
الجذام الاجتماعي: حين تتعفن الأرواح قبل الأجساد
الرواية لا تكتفي بوصف جذام الجسد، بل تنقب عن جذام أعمق: عفن ينهش الروح قبل الجلد. مستشفى الجذام هنا ليس مكانا للعلاج، بل فضاء للانهيار:
- المرضى: ليسوا من يفقدون أطرافهم فحسب، بل كل من أجبروا على إسقاط أحلامهم كأجنة ميتة.
- بيت الجاز: وطن صغير تلقى فيه الفضلات البشرية من نوافذ الإهمال.
- المقابر: حيث تدفن الأحلام مع الجثث، وكأن الموتى أكثر حظا من الأحياء.
في هذا السياق، يصير سقوط الطفل من النافذة رمزا لسقوط الإنسانية في فخ الصمت.
الكتابة بين الخيانة والخلاص: محاكمة الحبر
الرواية ترفض أن تُختزل في إطار “الأدب النسوي”، رغم أنها تنبش في جراح المرأة بعمق. نورا ناجي تنسج ألم شخصياتها بخيط إنساني يربط الذكور بالإناث: القارئ – أيا كان – يجد نفسه في دهاليز هذا الألم. قد لا نشارك مرمر اغتصاب طفولتها، لكننا نعرف طعم الخذلان. قد لا نمر بتجربة يمنى مع الموت اليومي، لكننا نختبر صدمة اكتشاف أن العالم قاس. قد لا نكتب كرضوى، لكننا نحمل أسئلة لا تجد إجابات.
هذا التوازن يجعل “بيت الجاز” عملا كونيا، كأعمال إيلينا فرانتي التي تذوب فيها الشخصية في السياسي. الكتابة هنا ليست حكرا على جنس أو فئة، بل هي مرآة لعالم يغرق في تناقضاته.
ثورة يناير: جركن جاز في وجه الوهم
الثورة في الرواية ليست حدثا تاريخيا، بل استعارة لـ”انفجار الألم” الذي لا يغير شيئا. المشهد الذي تلقى فيه مرمر طفلها من النافذة يتزامن مع سقوط الشهداء في الميادين، وكأن الكاتبة تقول: “الحرية التي حلمنا بها ولدت ميتة، كالطفل الذي سقط على رصيف المستشفى”. الثورة هنا تشبه الجاز: ومضة سريعة تضيء الظلام للحظات، ثم تختفي تاركة رائحة الاحتراق.
هذا التشابك بين الشخصي والسياسي يذكر بأعمال نجيب محفوظ، خاصة في رواية “ثرثرة فوق النيل”، حيث تتحول الثورة إلى حفلة عبثية، لكن نورا ناجي تجعل الثورة مجرد خلفية لسقوط أكثر قسوة: سقوط الإنسان في شرك نفسه.
السرد: مقطوعة جاز بلا إيقاع
تتقاطع مستويات السرد في الرواية كأنغام جاز عابرة: الراوية تقفز بين الماضي والحاضر والمستقبل في جملة واحدة، وكأنها تحاكي فوضى الوعي الإنساني. اللغة تتنقل بين الشعر (“الكتابة هي الألم”) والواقع المدمي (“شخر زيزو فوقها كحيوان”). هذا الانزياح الزمني يذكر بتقنيات فرجينيا وولف في “الأمواج”، حيث يصير الداخل خارجا، والزمن سائلا لا يمسك.
الرواية أيضا تستخدم تقنية “الميتاسرد” ببراعة: رضوى تكتب عن يمنى التي تشهد على مرمر، وكأن الكاتبة تفتح بابا خلفيا للقارئ ليرى كيف تُنسج الحكاية. هذا الانزياح لا يهدف لإبهار القارئ، بل لتوريطه في لعبة السرد: أنت لست متفرجا، بل شريكا في الجريمة.
هل نخرج من “بيت الجاز” أم نبقى فيه؟
الرواية لا تقدم خلاصا، بل تطرح سؤالا وجوديا: ماذا نفعل بالألم بعد أن يشتعل؟ هل نطفئه بالصمت؟ نحنطه في الكتابة؟ أم نتركه كجركن جاز مفتوح قد يحرق كل ما حولنا؟
“بيت الجاز” ليست مجرد رواية، بل هي طقس للاحتراق الذاتي. نخرج منها كمن يلقى به في بحر من الأسئلة: لماذا نكتب؟ ولماذا نحترق؟ وكيف نبقى أحياء في عالم يموت كل يوم؟
الرواية تشبه مرمر وهي تشعل النار في جسدها: احتراق طوعي لتقول لنا: “انظروا! هذا ما تفعلونه بنا”. ربما لن نغير العالم بعد قراءتها، في ظل عالم مليء بالصمت والخذلان، تأتي هذه الرواية كصرخة مكتومة، تروى برائحة الجاز، وتقرأ كأنها لهب لا يطفأ. كلنا مرمر، ويمنى، ورضوى.. وكلنا في بيت الجاز، نحترق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صدرت الرواية عن دار الشروق عام 2025 .. ووصلت للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ يوسف بن عيسى للرواية.





