يبعتدُ كثيرًا

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

وئـام غدّاس 

فوق حشيّتين بَاليتين وُضعتا على الأرض فردت الأمّ المفرش الورديّ الثقيل المحشوّ بالصوف والمغلّف بقماش ناعم أقرب إلى الساتان, لكن من نوعية رخيصة جداً، كانت الخياطة بخيط أسود بارزة على جانبيه، تشكّل في تقاطعها مثلثات تحاول أن تتشابه أو تكون موزعة على الأطراف بانتظام، رغم ذلك يمكن للناظر أن يميز بسهولة تفاوت أحجامها، تقاربها الشديد أحياناً أو تباعدها غير المبرّر, ما يجعل استنتاج ارتجالية هذا العمل اليدوي سهلة، فضلاً عن أن اليد التي حاكته كانت بلا شكٍّ غير خبيرة، لم تجتهد أيضاً لتكون كذلك بل كانت على الأغلب مستعجلة، الخيوط غير المتماسكة بدأت تنسلّ من مواضعها وتتدلى على أطراف المفرش, وعدم تماسكها لا يُبعد بدوره سبباً آخر لانفلاتها وهو قِدَم المفرش, أضف إلى ذلك استعماله اليوميّ لينام فوقه الأطفال.

 يعود هذا المفرش الوردي إلى تاريخ زواج الأم، صنعته لابنتها الجدّة “زهيّة”، كانوا فقراء واعتمدت في أكثر قِطع (الجهاز) على يديها بدل اللجوء إلى خيّاطة، لم تكن الجدة وحدها التي فعلت ذلك، كان الأمر شائعاً وعادياً، تماماً كحال كل الفقراء في البلدة الصغيرة النائية.

 لم تنتقل الأم إلى حياة أفضل، الزواج لم يكن يعني شيئاً من هذا، إنه نتيجة طبيعية لبلوغ الفتاة سناً معينة فقط، زوجها شاب في مثل عمرها يمتلك عربة صغيرة لبيع الخضار، كانت الحال عسيرة ليس في ذلك شك لكنه كان ينظر إليها بعين كبيرة جداً فلا تضيق عليه أبداً، أما على الأم فقد كانت تمرّ أوقات ضيق بلا حدّ.

– التصق بأخيك جيداً يا مالك لتدفآ

– أنا دافئ يا أمي.                                    

– حسناً، التصق بأخيك فوراً وإلا أبرحتك ضرباً الآن!

يلتصق مالك بأخيه الأصغر ممتعضاً، فيما ينظر إليه هذا الأخير نظرة حزينة معاتبة قبل أن يدير له ظهره ملتفتاً إلى الجهة الأخرى، حيث يتواجد سرير ضيق مصنوع من الخشب بالكاد يتسع لشخصين، كان السرير لأبويه، من آخر الغرفة يتناهى سعال الأب خافتاً مخنوقاً، بينما تغمغم الأم وهي تستعد لإطفاء اللمبة الوحيدة الصفراء, والخلود للنوم, إنه أقسى شتاء عاشته في حياتها، تطفئ الضوء، تكرّر: “التصق بأخيك يا مالك”.

يسود صمت في الغرفة، تقطعه بعض الأنفاس المسموعة، شخير مكتوم متقطّع، لابدّ أنه للأمّ، تتعب طوال النهار، في الكنس والمسح والتنظيف، ليس في بيتها طبعاً، إذ لا يصح أن يقال عنه بيت, هي غرفة واحدة مع فناء صغير مكشوف، مطبخ واطئ السقف كأنه جُحر، ودورة مياه، لكنها معينة منزلية ببيت مدير المدرسة الجديد 

توشك أمي على الولادة مرة أخرى، يقول مالك لنفسه، وهو يتململ تحت الألحفة الثقيلة ويحرك ركبتيه، ابتعد عن أخيه رغم توصيات أمه، لأن هذا الأخير يفعلها أحياناً ويتبول في الفراش، مع أنه في سنّ الرابعة الآن، عندما كان مالك في سنه أي منذ عامين لم يكن ليفعلها قطّ، يجعله هذا يشعر دائماً بالفخر، إنه الأفضل مع أن أمه لا تكفّ عن توبيخه لأتفه الأسباب، هو على الأقل يرى هذه الأسباب تافهة، وتراه على الدوام مسؤولاً عن كل ما يفعله أخوه, وترى أن من واجبه الحفاظ عليه ورعايته مع أنه يكره ذلك، الآن ها هي توشك أن تضع صغيراً آخر، وهو متيقن أنه سيكون مسؤولاً عنه هو الآخر، يفكّر كثيراً ويحتار ويتقلب طوال الليل حتى يأخذه النعاس.

موجة من البرد تتسرب إلى الغرفة، وتلفح وجه مالك، يفتح عينيه مذعوراً، باب الغرفة مفتوح، الأب عند الباب يضع كوفيته الصّوفية على رأسه، يغلق آخر زرّ علويّ من المعطف الأخضر ويخرج دون أن يعيد غلق الباب، الأم ليست هنا كالعادة، تصحو باكراً قبل الجميع لتسخن الحليب وتعدّ شرائح الخبز المطلية بمربي السفرجل أو الزبدة، يتلفت مالك حوله، أخوه بجانبه يكتّفه بيديه، ملتحماً بجسده وكلاهما غارق في بركة مبلولة تحتهما، يدفعه بقوة بعيداً عنه، يفتح الطفل عينيه بفزع، فينهال عليه مالك صفعاً بكلتا يديه وهو يصرخ: “قذر قذر لماذا تلتصق بي أيها الأرنب النتن”، قبل أن يبدأ الأخ الأصغر في البكاء تدخل الأم وعلى عادتها تبدأ في توبيخ مالك على تعنيف أخيه بينما الصغير يبكي بحسرة من دون صوت, فقط خيوط ماء طويلة ونحيلة تترقرق على وجهه الصغير, وعينان ذابلتان من أثر الحزن والدموع, يرفعهما من وقت لآخر إلى وجه مالك الحانق.

يطلع النهار، وترتفع الشمس عالياً في السماء، تبدأ قطع الجليد التي تكسو الأرض في الذوبان شيئاً فشيئاً، بينما تكون أكثر صلابة في مناطق الظلّ، يجلس أمام باب البيت لمراقبة أطفال البيوت المجاورة وهم يلعبون، يرفع عينيه إلى النوافذ المفتوحة حوله وقشور الثلج لا تزال فوقها، ينفخ في كفيه ويحشرهما بسرعة في جيوب بنطاله، الأولاد يتصايحون وينشغل هو برسم أشكال ووجوه كثيرة بطرف حذائه فوق الثلج الأبيض ويفكّر أنه لا يكره البتة أخاه الصغير.

قبيل الغروب بقليل تدخل أمه من عملها، هذا موعدها في كل يوم، يبرد الهواء كثيراً وتكفهرّ السماء فجأة، يتحول لونها إلى أزرق داكن مائل إلى السواد، أصوات برق قوية راحت تنذر بأمطار غزيرة، تدخل جارة مسرعة وتدعو الأمّ لإدخال هذه الحشايا والمفرش الصوفيّ من الفناء قبل أن يغرقوا بالمطر، تسرع الأم لِلمّهم وتساعدها المرأة، يبدآن في الكلام، الأم تتذمر من مالك، تصل الكلمات مختلطة إليه لكنه يستطيع تمييز أغلبها، تقول الأم أنها تعبت من غسل المفارش والألحفة يومياً، فتضطرّ خصوصاً في هذا الطقس البارد أن تخرجهم إلى الفناء لتنشّفهم الشمس, مع أن ذلك يخلق رائحة كريهة داخل الغرفة، يسمع أمه تقول أن ابنها الكبير يقترب من السادسة، ورغم ذلك ما زال يتبوّل رغماً عنه من وقت لآخر أثناء النوم، هي متعبة لكنها ليست قلقة لأن ابن أختها ظل يتبول في فراشه حتى سن العاشرة  لكنه تخلّص من الأمر الآن تلقائياً، تتنهد الأم وتقول لجارتها أن مالك بسبب ذلك أصبح عصبياً جداً مع أخيه، تؤكد لها الجارة أنها الغيرة لأن الصغير لا يفعلها والكبير …………… ………………… 

…………………………………………………………

 لا يسمع شيئاً بعد ذلك فقط مجرد صفير يرجّ طبلة أذنه.

تفرد الأم المفرش الصوفي فوق الحشيتين الملتصقتين، تدعو صغارها للنوم، تطفئ اللمبة الوحيدة الصفراء، تدمدم أن الشتاء بارد جداً هذا العام ، تقول بصوت منهك: التصق بأخيك جيداً يا مالك! يبتعد مالك عن أخيه.. يبتعد كثيراً، هذه الليلة أكثر من أية ليلةٍ مضت.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 من المجموعة القصصية “روماتيزم”/ تصدر قريبا.

مقالات من نفس القسم