خريف دماء وعشق .. حدوتة مصر كل يوم

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

 

 سامح القدوسي

تدور الرواية حول الثوابت المصرية المزمنة على امتداد شرائح مختلفة من تاريخها وطبائع علاقات مختلفة، ونستطيع أن نكتشف ببساطة من خلال الرواية أن الرغبة في الاستقرار أوالاستمرار رغبة مصرية أصيلة، وأن السلطة المطلقة عادة مصرية محببة للجميع، وأن "التفويض العام أو التام" أفضل آليات الإدارة المصرية لكلا الطرفين، والكاتب هنا يكتفي بكشف هذه الحقيقة ولا يتعرض للطعن عليها أو تقديم بدائل لها - ربما لخلو التاريخ الذي تعرض له وغيره من نماذج مختلفة -  ويشير  كثيرًا الى ألم نفسي يجتاحه وإيانا من جراء تلك الحقيقة.

 

 

وهكذا نكتشف أن الرواية تتفاعل مع أحداث الثورات المصرية الأخيرة من خلال تناسخ الأفكار، وعلى رأسها فكرة استغلال القدسية الدينية للهيمنة على الآخرين.

(لا بد للقوة من أسطورة ولا بد للجيش من معجزة أسمى من معجزات النصر الساحق ، ولا بد للقائد من قداسة تحمي منصبه الخطير ، وتحفظ خططه من فساد الجدل أو المعارضة ، لا بد أن يكون القائد في سماء لا تطالها أيدي البشر ، وإلا لصار القضاء عليه متاحا لكل طموح ، لذا وجب أن يتحصن القائد فوق عرشه بالتقديس والألوهية التي لا تتأتى لبشر) ص170

كما تطرح الرواية فكرة الإبقاء على اختيارات محدودة للآخرين ، على أن تكون اختيارات سيئة للغاية ، وترجمتها الحديثة (أنا أو الفوضى).

(سأتفهم مطالبهم جميعا إذا أخبرتني أن كل من يثور لمطالبه يملك مثلي وزراءً وعيوناً في أنحاء الأرض يخبرونه بما يدور فيعرف مثلي ما يصلح وما لا يصلح ومتى يصلح وأين يصلح) ص168

ولا تتجاهل الرواية الحكمة المصرية الخالدة المبررة (الدولة فوق المواطن) والتي تخفي خلفها محتوى أشمل وهو (الدولة فوق الوطن).

(- ولكنك تقتل هؤلاء الفلاحين والضعفاء ضمن من تقتل

– فليكن.. سيصيرون قربانًا للاستقرار والرخاء وهي غاية أنبل من غايات الآفاقين) ص167

·        والمدهش في هذا العمل أنه استعرض كل هذه الثوابت والأفكار بمبرراتها وتعاطف معها أحيانا ، وعرض دهس القواعد الإنسانية في قاعات الحكم من وجهات نظر أصحابها ، ولكنه أبرز دائما حقيقة أن هذه الثوابت لا تتغير أبدا ولا تنجح أبدا.

·        وأشار الكاتب الى أحوال اجتماعية مرة ثابتة ومزمنة ، وحتى الثوابت العاطفية المصرية استعرضها الكاتب ، فكلنا نتأخر عن الاستجابة لنداء الحب  ونخسر كثيرا بسبب ذلك.

·        كما أشار الكاتب في مواضع كثيرة بعد الجدل الى أن الحقيقة ليست مطلقة وأن التاريخ له أكثر من رؤية.

(وروى لنا –نفرو حتب- قصة جدنا العظيم “مري أون” بلسان الشماليين ، فسمعنا حديثًا يختلف تمامًا عما نعرفه في القصر وعما يردده أهل الجنوب ، كان مري أون هنا مجرد قاطع طريق!!) ص98

 

البناء الروائي

·        اتسمت (خريف.. دماء وعشق) بظاهرة فريدة في الرواية المصرية وهي ظاهرة تعدد الأبطال في الرواية، فلكل فترة زمنية وربما لكل مشهد في الرواية أبطال مختلفين، وينتقل القارئ في تفاعله مع أبطال المشاهد بسيولة شديدة، وهي سمة للأداء الروائي المتميز تساعد القارئ على التفاعل المستمر وعدم التعرض لنوبات الفتور في غياب البطل الأوحد عن المشهد.

·        جميع شخصيات الرواية تعيش وتتحرك وتفكر في المنطقة الرمادية بدرجاتها ، وتشعر في مواقع عدة أنك تعرف شخصيات الرواية بعينها في أرض واقعك حيث لا خير مطلق ولا شر مطلق ولا ذكاء مطلق ولا حكمة مطلقة، ويمتد العرض ليشمل جوانب الصراع النفسي الدائم داخل الشخصيات، ويلفت النظر أن شخصية الراوي تقف مع الشخصيات على نفس هذه الأرضية الانسانية ، فهو نصف حكيم ونصف طيب ونصف مقاتل ، وهذه المناطق الرمادية المنتشرة طوال الرواية تشعر القارئ بالواقعية وتدفعه للحياد والحيرة وهو أمر في صالح العمل بلا شك.

(وكيف يرى الرب عائلتي المجيدة؟! عائلتي التي بثت الروح في العدم، وأرست النظام والعدل والرخاء والمجد، عائلتي التي هلكت تحت العرش، والتي أجرت الدماء أنهارا كالنيل في موسم الفيضان، وأشعلت النار في الفلاحين كجحيم الرب، لتنقلهم الى الحضارة والوحدة!!) ص16

·        شخصيات الرواية تتشابك في علاقاتها مع كل الأطراف الأخرى، فلا شخصيات معزولة ولاعلاقات ثنائية منفصلة داخل العمل، ويعبر ذلك عن أداء رفيع ومجهود مكثف للكاتب ، ولسبب ما تداعب بالك وأنت تتابع القراءة صورة الكبير أسامة أنور عكاشة .

·        التصاعد الدرامي متواصل في الرواية ، وطوال الأحداث تغمرك الثقة في أن المشهد القادم هو الأخير، وتكتشف دوماً أن الدراما داخل العمل لا تنتهي تماما مثل الواقع وأن لكل علاقة دراما مختلفة، وهذه النتيجة الطبيعية لتعدد الأبطال ولصراعاتها النفسية داخل المنطقة الرمادية.

·        الفواصل والفقرات المرقومة – المكتوبة بخط مميز عن سياق الرواية – والتي تخترق أحداث الرواية متقدمة عن أحداثها أحيانا ولاحقة لها أحيانا أخرى خلقت نوعا مميزا من التشويق والتوقع والربط بين الأحداث، وأشارت الى حقيقة ثبات قواعد اللعبة التي تدور حولها الأحداث بغض النظر عن الزمن.

·        تمتلك اللغة العربية قدرا محترما من القوة والفخامة التي يعتمد عليها الروائيون والشعراء وبوجه خاص أولئك الذين يتعرضون للسرد التاريخي ، ولكن تبرهن الرواية أن الملمح الأهم في اللغة العربية هو جمالها ، وأن اللغة الجميلة تستطيع أن تفي بالغرض ، وتضيف حالة من المحبة بين القارئ والرواية ، وتكمن قوة اللغة الجميلة في المعنى الذي تطرحه بديلا عن قوة اللفظ.

(إن كل ميل تبتعد به المحبوبة عن العين تغوص به أميالًا داخل القلب) ص244

·        رائحة السينما تفوح في كل مشاهد الرواية ، والكاتب يستخدم الصوت واللون والإضاءة بنعومة شديدة ، وتستطيع ببساطة أن تتخيل المشهد كاملا من خلال القراءة، ولا أستبعد أن يكون ذهن الكاتب مشغولا بتحويلها لعمل فني أثناء الكتابة ، ونجح أحمد مدحت بالفعل في الوصول لحالة الصلاحية السينمائية.

(وأسفر صبحٌ جديد، وجرت النسائم الرقيقة من خلال النافذة تذوب في موجاتٍ ناعمةٍ من ضوءٍ أزرق مبهج، وفي صوت دسم مثير يناديني في رقة:

         سيدي مري آخت .. جئت مبكرا لأطمئن عليك

ثم دارت لترفع الستار الحريري عن مخدعي. ابتسمتُ لرؤية وجهها الوسيم في ابتسامته الأنثوية الجديدة، وقلت : أشكرك) ص198

·        استعان الكاتب لتوصيل رسالاته بإضافات من الشعر والحكمة ومأثورات تخصه غالبا ، وجاءت كلها للحق رقيقة وراقية وغير مفتعلة ، وأضافت في أحيان كثيرة.

(لا تكون الحرية إلا بعد عدل وبعد عقل ، فالحر المنفلت من الظلم لن يسفر قلبه الا عن السباع والحيات التي ينطوي عليها ، والحر المنفلت بجهله لن يكون الا فوضوي … وبعد العدل والعقل تختفي خبائث قلوبنا فلا تسفر حريتنا الا عن كل مستحسن ومحبوب) ص134

·        إستطاع الكاتب ببراعة يحسد عليها الهروب من الإسقاطات السياسية على الأشخاص أو الأحداث ، وانتقل الى حالات مبتكرة من الإسقاط على الحالة أو على المشهد أو على المبدأ ، فالقارئ يستطيع أن يرى في (نارمر) ملامح فاروق وعبد الناصر ومبارك والمرشد العام رأي العين كلما تغير المشهد ، ويرى في بعض الفترات محمد علي وعبد الناصر والسادات مجتمعين ، ولكنه دائما يرى الحالة العامة مكتملة تماما ، ويتذكر في كل مشهد مشاهد معاصرة مختلفة.

·        تسارعت الأحداث بشكل مفاجئ في الرواية ما بين الفقرة 122 الى الفقرة 126 بهدف رغبة الكاتب في العثور على (نفرت) ، وبدت هذه الفقرات معزولة دراميا عن أحداث الرواية وأقل اتقانا في الحبكة والتعبير ، وإن كان الكاتب قد حاول علاج هذا الخلل في الفقرة 127 التالية مباشرة بعدم نجاح تجربة العودة الرومانسية بين (نفرت) و(مري آخت).

·        لم يكن الكاتب موفقا برؤيتي في الصفحة 193 حينما تحدث بصوت الراوي عن دفاع جنوده عنه مشبها ذلك بدفاع الرجل عن امرأته ، وهو تشبيه يجلب للخيال مباشرة صورة لضعف القائد وقلة حيلته على أقل تقدير ، وهذا أمر غير محبب في اعتقادي ، كما أنه في الصفحة 250 ينسحب مري آخت من دور الراوي للحظة ، ويعلن أن الحكيم (مري آخت) – وهو الراوي نفسه – تقلد الوزارة ، ثم يعود لدور الراوي بعد سطرين فقط ، وربما كان من الأفضل أن يمتد زمن ذلك الخروج ويكون مميزا ومختلفا في اللغة والشكل أو يكون مشارا اليه بشكل أوضح أو أن يبقى مري آخت مستمراً في دور الراوي.

 

خارج السياق

لو كنت مسئولا عن إخراج هذه الرواية المطبوعة لأرفقت بها خريطة توضح المواقع والمدن والاتجاهات الوارد ذكرها بأحداث الرواية لتكون الصورة أقرب، واستبعدت صفحة الشكر السابقة لها لتظل عملا مستقلا ، واستبدلت صورة الغلاف بوجه مصري أو بيوت مصرية لا تخطئها عين ليعطي رحابة أوسع تتسق مع الرحابة التي أعطاها الكاتب لنفسه والقارئ حينما تخلص في كلمته السابقة للرواية من قيود تحقيق التاريخ والأسماء والرؤى الدينية.

 

ختام

         (الحل أن يصمت الجميع !! .. الأشرار والأخيار .. الفوضيون والنبلاء .. الأمراء والفلاحون .. وليحتفظ كل امرئ بأحلامه في قلبه)  ص 167

         (هل تدري ما أسوأ ما يمكن أن يحدث ؟! .. أن يطول الشعب الظلم فلا يجد إلا الثورة)  ص260

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

شاعر مصري ـ الرواية صادرة عن دار دوّن ـ 2017

مقالات من نفس القسم