فاطمة الشرنوبي
كشّ ملك!
إذا حدّثتكم عن الفراودة، فسأحدّثكم عن رقعة شطرنج امتدّت على أرض القرية، حيث تحرّكت بيادق عائلة جميل في معركة مصيرية، قبل أن يسقط الملك ويختفي هو وزوج ابنته المستقبلي في ظلال الغموض. كان المشهد صراعًا بين الانتصار والانكسار، التربع على العرش والانحدار عنه، بين المراوغة والمواجهة، وبين العقل والسيف. ظلّ جميل ملكًا، رغم بطئه وتردّده، حتى لحظة السقوط، حيث همس له الخصم بكلمتين حاسمتين: “كشّ ملك!” فتلاشت معه أحلام ابنته عناية، وتهاوت آمال الفراودة بأكملهم، ليُسدَل الستار على عصر مضى، ويبدأ عهد لم يألفوه من قبل: اللعنة.
غاب الملك ولم يعد، فقد “نادتهما الندّاهة وهما على الطريق، فهرعا إليها تاركين الجمل بما حمل“. منذ تلك اللحظة، حلّت اللعنة على رؤوس الجميع: الزيجات لم تكتمل، والأرحام غدت عقيمة، وكأنما أُطفئ وهج الحياة في القرية.
لكن، أليست اللعنة أكذوبة؟ أليس لنا أن نُعمل العقل وندرك زيفها؟ ومع ذلك، تشابكت أحداث الرواية بأساطير الإغريق وبابل؛ ميدوسا وعشتار وزيوس وهيرا تجلّت أرواحهم في شخصيات الرواية، في تماهٍ مذهل بين الأسطورة والواقع، وكأنّ لعنة الفراودة ليست سوى استدعاءٍ رمزيّ لصراعات أزلية لم تُحسم يومًا.
ديستوبيا متنامية… من يوتوبيا الحلم إلى كابوس الواقع
بدت الفراودة في بداياتها يوتوبيا مكتملة الأركان، قرية نابضة بالحياة، تجود أراضيها بالخيرات، حتى تحوّلت مع مرور الزمن إلى مدينة كابوسية. تراجعت خصوبة الأرض كما تراجعت خصوبة الأرحام، تحجّرت التربة كما تحجّرت العقول، وامتدّ الإسمنت كجدار خانق، يسدّ الأفق أمام أي أمل بالنجاة.
في قلب هذا المشهد المأساوي، برز نائل، بصوته الجهوري وخُطَبه الجوفاء، يقتات على مخاوف الناس وسذاجتهم، مقنعًا إياهم أن الطاعة المطلقة ستجلب لهم الخلاص: “من ينصع للأوامر، سيُزفّ إلى عروسه، ومن تأخّر حمل زوجته، سيرزق بالبنين!” وبينما كان الجميع يلهث خلف السراب، كان نائل يزداد ثراءً، يتراقص بين أكوام الذهب، فيما كانت القرية تزداد فقرًا واندثارًا.
كانت الفراودة يومًا ما فردوسًا أخضر، تفيض منه أشجار الموز والتفاح والمانجو والبرتقال، وتمنح حقولها القمح والقطن، لكنها تحوّلت إلى قفرٍ بلا حياة. وكأنّ لعنة المتنبي تردّدت في الأرجاء:
“مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ“
وعندما حلّ “ترياق الخلاص“، لم يأتِ بالخلاص، بل بمزيدٍ من الأغلال. كانت خدعة أخرى أوقعت الفراودة في دوّامة أشدّ عمقًا، مكّنت نائل من امتصاص آخر ما تبقى في جيوبهم. وسكر القوم بخيبتهم، حتى لم يعودوا يميزون بين الصحوة والوهم. ولمّا أدمنوا الانقياد، طوّقوا أنفسهم بسياجٍ من الأوهام، أقاموا الأسوار، وتركوا ظلالهم تذوب في العدم، كما لو كانوا أشباحًا تلاحق سراب النجاة.
بصيص هوى من قلب الكابوس … “لترتشف من ماء الحياة“
وفي ذروة هذا الليل المعتم، انبثق لقاءٌ بين عناية العطشى ومنصف المخلّص، وكأنه نافذة تُفتح على بصيص من الأمل. ربما أراد الكاتب أن يمنح القارئ فرصة التمسك بشيء من الرجاء، أو لعلّ هذا اللقاء كان جنينًا لروح جديدة قد تمحو قبح القرية، التي التهمها الخراب.
ولأن كل ظلم يستدعي ثورة، جاء الخلاص على هيئة “ثورة ناعمة“، حيث نهضت النساء، تحطّمن قيود العادات، وصرخن في وجه الظلم: “لا زراعة ولا تصليح، إحنا الأولى بالتلقيح!”
إن كانت الرواية ديستوبيا تلقي الضوء على تأخر سن الزواج، وانقياد الجهّال وراء الذقون والخرافات، فهي أيضًا تستحضر روح أدب الريف، حيث الأرض ليست مجرد موطن، بل كيان حي يتنفس مع أهله ويموت بموتهم. بلغت الديستوبيا ذروتها حين تحوّلت الأرض إلى كتلة إسمنتية باردة، لا تُنبت إلا الحزن.
من الفن وإليه ألوذ
ووسط هذا المشهد القاتم، كان لا بدّ من ملاذ. وكما لا يلوذ الفنان من العالم إلا بفنّه، كان فخر ذلك الطائر الحر، البوهيمي الذي لفظ الفراودة كما لفظته، قائلًا: “رسّختُ أقدامي في تربة الفن“. هجر قريته، وغادرها إلى باريس، حيث غمس فرشاته في الألوان، وصنع لوحات خالصة من شوائب العالم.
رأى فخر الحقيقة بصفائها الأوليّ، مجرّدة من القوانين التي لم توضع إلا لتفصل البشر عن البشر، فلم يجد سبيلًا لمواجهة الديستوبيا إلا بالتجرّد والعودة للطبيعة، حيث لا أوهام، لا لعنة، لا نائل، ولا أسوار تطوّق العقول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية مصرية