التأريخ ما بعد الحداثي في كتابات صنع الله إبراهيم

صنع الله إبراهيم: الرواية كذبة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. نعيمة عبد الجواد

الفيلسوف والمنظِّر وعالم الاجتماع ما بعد الحداثي جون فرانسوا ليوتار Jean-François Lyotard (1924-1988) الفرنسي الجنسية يعتقد أن جميع الموضوعات والتخصصات العلمية متعددة الخطاب؛ أي أنها لا تخاطب فرعًا واحدًا من العلوم، بل تتخطى ذلك لموضوعات أخرى؛ فمثلًا الرياضيات ترتبط ارتباطًا وثيقًا بعلم الاجتماع والفلك والفيزياء والطب، وغيرها من العلوم، وينطبق ذلك على جميع فروع العلوم الأخرى. ويرى ليوتار وجود ارتباطًا وثيق الأواصر بين البلاغة والسياسة. وحين قام بتحليل التاريخ، وجد أنه عبارة عن سردية كبرى تكتنف في حواشيها نظريات وفلسفات عن العالم؛ مثل: نظرية تقدُّم التاريخ ومعرفة كل شيء وإمكانية الوصول إلى الحرية المطلقة. وعارض ليوتارد هذا النوع من السرديات؛ لأنها لا تستطيع احتواء جميع أطياف البشر واتجهاتهم. وكذلك، من الصعب الإتفاق على وجود شيء حقيقي أو حقيقة ثابتة، إن وجدت بالفعل؛ والسبب أن لكل فرد وجهة نظره في سرد القصة، بل ولديه قصة شخصية التي تختلف عن قصص الآخرين. وبتنبُّه البشر لذاك الاختلاف والتنوُّع بين أطياف البشر، بزغت السرديات الصغرى في المجتمعات الما بعد حداثية؛ أي حكايات وقصص أبطالها أفراد عينهم ينتمون لنفس المجتمع، وإن اختلفت ظروف وبيئة كل منهم عن الآخر وبالتالي وجهة نظره التي تعبر عن واقعه الثقافي والتعليمي وخلفياته الاجتماعية.  ومن ثمَّ، تلك السرديات ترسم خريطة دقيقة للمجتمع باستخدام الألعاب اللغوية والتي هي عبارة عن استخدام اللغة بطريقة تخدم وجهة نظر من يستخدمها.

وفيما يبدو أن الروائي والقاص المصري صنع الله إبراهيم (1937 – ) قد سار على نفس ذاك الدرب طوال مسيرته الأدبية؛ فلقد عمد إلى تدوين دقائق مجتمعه والمتغييرات الطارئة عليه بشكل تفصيلي خلال جميع أعماله الأدبية، وكأنه يجعل من كل عمل أدبي سردية صغرى ترسم خارطة الحاضر والمستقبل لمجتمعه. ولكي يؤكد أن كل ما يذكره صحيحًا ومبنيًا على وقائع استمدها من المجتمع وليس الخيال، يعمد صنع الله إبراهيم إلى إلحاق قصاصات من الجرائد والمجلات بكل أعماله؛ ليؤكد للقاريء أن عمله الأدبي مجرد إنعكاسًا لما يدور في مجتمعه؛ أي تأريخًا لحقبة ما في هذا المجتمع. وحتى يُقْبِل المتلقي على قراءة هذا النوع من التأريخ، يستخدم صنع الله إبراهيم حرفته في الألعاب اللغوية في صياغة تأريخه على هيئة عمل قصصي أو روائي يمسّ المجتمع ويتفاعل معه القاريء.

ومن الجدير بالذكر أن الكاتب الروائي والقاص صنع الله إبراهيم البالغ من العمر حاليًا خمس وثمانون عامًا قد ولد في القاهرة في حي مصر الجديدة لأب كان يعمل موظفًا من الحكومة وينتمي للطبقة الوسطى المتيسرة. وأما أمه، فكانت تنتمي للطبقات الفقيرة وكانت تعمل ممرضة. ولقد تعرَّفت على والده عندما تم توظيفها لرعاية زوجته المصابة بالشلل، وفيما بعد تم زواجهما وكانت ثمرة هذا الزواج الكاتب صنع الله إبراهيم الذي ولد لأب مسنّ وأم شابة، واشتق اسمه من ذلك الموقف؛ لأن هذا الحمل الذي نتج منه الطفل هو صنيع الله.

وصنع الله إبراهيم هو ليس مجرد روائي وقاص، بل كاتب ذو وجهة نظر سياسية يحاول التعبير عنها ليس فقط في جميع أعماله، ولكن في حياته الشخصية. فهو يساري النزعة، وثائرًا على آية أوضاع مهينة للإنسان. ويذكر أن صنع الله إبراهيم كان من أشد مؤيدي الرئيس جمال عبد الناصر وثورة 1952. وعندما التحق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة عام 1952، أصبح عضوًا ناشطا بالحركة الماركسية الديمقراطية من أجل تحرير الوطن التي كانت تؤيد الرئيس. ولما تعارضت أهداف الجماعات الماركسية مع أهداف الدولة، عمد جمال عبد الناصر لقمع الرؤوس الماركسية بالدولة في نهاية خمسينات القرن الماضي. وعلى هذا، زجَّ صنع الله إبراهيم – الذي كان وقتها يعمل صحفيًا – بالسجن عام 1959، وحكمت عليه المحكمة العسكرية بالسجن لفترة سبع سنوات. لكن تم الإفراج عنه عام 1964 على إثر زيارة وزير الخارجية الروسي نكيتا خريشوف  Nikita Khrushchev لمصر لافتتاح سد أسوان.

ولم تثني تجربة السجن صنع الله إبراهيم عن التعبير عن أراءه اليسارية سواء في حياته العامة أو في كتاباته، فلقد كان دائم الانتقاد لجميع النظم الحاكمة المتعاقبة، بغرض الإصلاح. ويذكر أنه كان منذ مستهل الألفية الثالثة كان عضوًا نشطًا في حركة “كفاية” التي كانت تنتقد ما يسود المجتمع من سلبيات. وكانت أولى تجاربه الروائية التي أصدرها بعد خروجه من السجن رواية “تلك الرائحة” 1966 التي كتبها في قالب تجريبي فظهرت في شكل “رواية مفتاحية” Roman À Clef oman a Clef تجريبي فظهرت “رواية مفتاحية” سجن رواية “تلك الرائحة”ح. في حياته العامة أو في كتاباته، ويذكر أنه كان منذ مستهل الألف . وهذا النوع من الروايات يهتم بسرد وقائع حقيقية قام بها أشخاص حقيقيين، وحتى يفلت الكاتب من المساءلة القانونية، يجنح إلى ذكر الأسماء والمواقع بطريقة التشفير والتي يسهل على المتلقِّي فكَّها. ورواية “تلك الرائحة” تروي تجربة السجن التي خاضها صنع الله إبراهيم، والتي لن ينساها بسبب رائحة العطن والفساد التي تفوح من جميع أرجاء المكان.

وبالسير على درب التجديد، ظهرت الرواية الثانية له “نجمة أغسطس” (1974)، والتي تعد عملًا فنيًا فريدًا مملوء بالتجديد والتجريد؛ فهي أنموذج للرواية التجريبية، لكن لولا عدم وصولها لغايتها لكانت أصبحت إحدى علامات التجديد في الرواية العربية والفن الروائي بشكل عام. وموضوع الرواية هو تشييد المشروع الوطني العملاق “السد العالي” والذي من خلاله صار شاهدًا فنيًا واجتماعيًا ومؤرخًا للحدث. فظهرت الرواية كلوحة تشكيلية تحاكي هيئة السد وعناصر بناؤه، وتحوَّلت فصول وأصوات الرواية إلى مواد البناء التي يمكن بناء السَّد بها.

أما رواية “اللجنة” 1981 التي وصفت بأنها أجمل ما كتب صنع الله إبراهيم فهي ترصد التحوُّل الاجتماعي ومظاهره بعد الانفتاح الاقتصادي الذي أفرز طبقات اجتماعية جديدة وأدى إلى تدني طبقات أخرى كانت تعد من الصفوة، فانتقد المجتمع في شكل ساخر كاريكاتيري تفعمه المرارة، وفي نفس الوقت يؤرخ لتلك الحقبة الهامة ومتغيراتها، ولكن في شكل فني راقي تجريبي النزعة.

وعلى هذا المنوال ظهرت جميع أعمال صنع الله إبراهيم التالية والتي يظهر فيها شخصه على هيئة راوي شفاهي للأحداث. و تتميَّز كل روياته بأنها مكتوبة بضمير المُتكلِّم، باردة النبرة، موضوعية الصيغة، كما لو كانت تقارير صحفية تنقل الواقع. وللوصول لذاك الاستنتاج، يعمد فيها إلى الوصف الدقيق للأحداث، وسردها بأناة لدرجة قد تصل لحد الملل، وإن كان المقصود منها تصوير الواقع وتأريخة، بالإضافة إلى محاولة نقل الشعور بالإحباط والرغبة في مقاومة وظاهر الفساد الذي يشعر به الكاتب إلى المتلقي ذاته. فهدف صنع الله إبراهيم الرئيسي هو حثّ المتلقي على مقاومة هيمنة القوى السياسية الكبرى والشركات العابرة للقارات التي تغزو أفكارها دول العالم الثالث، وتعيد صياغة الشكل الاقتصادي والاجتماعي بها.

روايات صنع الله إبراهيم تقاوم النمط التقليدي المألوف للرواية سواء جوهرًا أو قالبًا، لكن العلامة المميزة والفكرة الأساسية التي تربط جميع أعماله هو تدوين التاريخ من وجهة نظره، التي تروي حياة الضعفاء والمهمشين والذين يعانون من القهر، مما جعل منها سرديات  صغرى مجموعها يؤلف سردية كبرى تؤرِّخ للحقب التاريخية المتعاقبة التي مر بها الشعب المصري. تأريخ صنع الله إبراهيم الما بعد الحداثي رواها الشعب بصورة أو بأخرى، ولسوف تقرأها الأجيال التالية من الشعب.

 

 

 

مقالات من نفس القسم