عَـتباتُ الشّوق.. العبور إلى الروح

عَـتباتُ الشّوق.. العبور إلى الروح
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شعيب حليفي

على مدى قرون طويلة،  كانوا مثل سُحُب وابلة تُسافرُ في مواقيتها من أقصى نقطة في الغرب المُحاذي للبحر الأطلسي المترامي في المجهول.قبل مجيئ الإسلام،  ارتحل المغاربة الأمازيغ فرادى وجماعات في علاقات ما زالت آثارها مع المصريين ؛ وتقوّت بآصرة العلم والدين مع وصول الإسلام الذي حقق ما كان مُفتقدا،  فكان الفقهاء والعلماء يشدّون الرِّحال إلى  مصر، قلب الشرق العربي،  طلبا للعلم والاختلاط بالعلماء لسنوات قبل العودة إلى مراكش وفاس،  أو البقاء الأبدي هناك،  وهي سُنة جرت على مرِّ القرون،  خصوصا مع تنظيم الحج المغربي إلى الحجاز ومروره على محطة استراتيجية هي مصر.

كما كانت لمبادرة فقيه  مغربي في مطلع القرن الثالث عشر الميلادي من مدينة آسفي،  اسمه محمد أبو صالح،  أهمية بداية تنظيم الرحلة عبر مصر في ركب نبوي معلوم،  ومن خلال  نقط وزوايا معمورة  لضمان أمن وسلام الحجيج المغربي من المغرب إلى مصر،  في أكثر من  إسم لهذا الركب: الصالحي،  السجلماسي،  الفاسي،  المراكشي، الشنقيطي،  أو أؤلائك الذين اختاروا الرحلة من الاندلس. وكلها رحلات هدفها الظاهر أداء شعيرة الحج،  غير أن الرحالة غالبا ما يجد في السفر فرصة للإبداع والإكتشاف فيتحول إلى أداء شعيرة أخرى في عبوره الذي لا يخلو من حكايات وعِبَر،  خصوصا في مصر،  بالإسكندرية والقاهرة،  باعتبارها محطة متعددة المنافع تختزن من المفاجآت ما يُليِّنُ النفس. وقد  سجل المؤرخون والرحالة والشعراء استكمال الإحتفالات بعد التقاء الركب المغربي والمحمل المصري  واستعدادهما للخروح في رحلة مقدسة نحو الحجاز ؛ فأبدع  شعراء الملحون نوعا مخصوصا لهذا الحدث أسموه ” المرحول “،  كما أبدع شعراء الفصحى بقصائد تسرد ارتحال النفس وأشواقها.

ولا عجب أن تكون عائلات مصرية من أصول فاسية ومراكشية وطنجية،  وأحياء ومساجد وأوقاف مغربية مخصصة للزوايا كما سيذكر أبو سالم العياشي ذاك وهو بالإسكندرية،  معتبرا زاوية محمد أبو صالح، هناك،  واحدة من المزارات التي يقيم بها المغاربة أثناء عبورهم.

وخلال عشرة قرون، منذ وصول ابن العربي المعافري في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي ( 1092م) أو الغرناطي،  بعده بقليل،  ثم  ابن جبيرالذي وصل  الإسكندرية يوم 26 مارس 1183 وتدوينه لمشاهداته. لم يخلُ  قرن من القرون السابقة من كتابات مغربية عن مصر باسكندريتها وقاهرتها،  بأشكال مختلفة تُعبّر في محصلتها عن الشغف بمصر،  وهو ما سيؤكده العياشي في شهادة بليغة على لسان ابن خلدون.

يقول أبو سالم العياشي:” وقد ذكر ابن خلدون في كتابه: كتاب منتهى العبر إن بعض ملوك المغرب سأل بعض العلماء ممن حجّ عن مصر فقال له: أقول لك فيها قولا واختصر،  من المعلوم إن دائرة الخيال أوسع من دائرة الحس،  فغالب ما يتخيله الإنسان قبل رؤيته إذا رآه وجده دون ما يتخيله ومصر بخلاف ذلك؛ كل ما تخيلته فيها،  فإذا دخلتها وجدتها أكثر من ذلك“.

مؤرخون وعلماء، فقهاء ورحالة بالعشرات ممن سجلوا مُشاهداتهم بصدق وعفوية ومحبة،  وقد لامسَ وجدانهم وعقلهم في تجارب حياتية فريدة،  عبروا إليها برّا أو بحرا، فجاءات كتاباتهم  برؤيتين متقاطعتين:

ـ سياحية في معالم الإسكندرية  بمنارها  ومرساها وباقي عمرانها  ؛ وفي القاهرة بحر النيل  والجامع الأزهر والأهرامات والمساجد  والخوانق والزوايا  والمدارس والسلاطين والطوائف والحياة العامة.

ـ ثقافية وعلمية من خلال اللقاء بالعلماء والفقهاء والمشايخ وزيارتهم والأخذ بإجازاتهم ومحاورتهم والمشاركة في المناظرة والدروس  والقضاء،  واقتناء الكتب ونسخ النفائس منها،  وزيارة الأولياء والمزارات.

وقد حفلت كتابات  كل الذين زاروا مصر بأوصاف وتقييدات تنوعت،  منذ أولى الرحلات  لأبي بكر إبن العربي المُعافري ” ترتيب الرحلة للترغيب في الملة ”  وقد دامت عشر سنوات ( 1092م- 1102م) دخل فيها الإسكندرية  سنة 1099 م بعدما كان قد زار القاهرة،  قبل سبع سنوات من هذا التاريخ،  وهو يافع رفقة والده.وبالإسكندرية التقى بالعلماء وعلى رأسهم  أبو بكر الطرطوشي؛ كما تولى التدريس بمحرس ابن الشواء. رحلة ضاعت في حياة صاحبها فقيّد  ملخصا عنها مما علق بذاكرته في كتابه قانون التأويل.

    أما ابن رشيد السبتي صاحب الرحلة المسماة ” ملء العيبة بما جُمعَ بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة مكة وطيبة ” فسيملأ أسفارا، ضاع ما ضاع منها،  بأخبار وتراجم  العلماء في الإسكندرية والقاهرة حوالي سنة 1286 م، ؛ وكذلك أبو القاسم التجيبي  الذي كتب ” مستفاد الرحلة والإغتراب ” بوصفها  رحلة للبحث عن العلماء،  فجاء مؤلفه – بما بقي منه – برنامجا كاملا لتراجم وفهارس علماء الإسكندرية التي حلّ بها يوم الإثنين رابع فبراير 1297؛ ثم انتقاله إلى القاهرة  لاستكمال لقائه بالعلماء وضمِّ أسمائهم إلى برنامجه،  وذلك يوم الثلاثاء خامس مارس من نفس السنة.أما السراج القيسي الملقب بابن المليح،  صاحب رحلة “أنس الساري والسارب من أقطار المغارب إلى منتهى الآمال والمآرب وسيد الأعاجم والأعارب” والذي رحل من المغرب سنة 1631 م قاطعا المسافة من مراكش إلى مصر في سبعة أشهر،  لن يختلف عمن سبقه أو من سياتي بعده.

مؤرخون ورحالة جاءت مُشاهداتهم وأوصافهم مراجع أساسية للكتابة والتخيل والمقارنة،  انطلاقا مما يُولده ذلك الانبهار والشغف بالحياة والمجتمع  والحضارة  المصرية ومعالمها الروحية والتاريخية… مما حقق صفحة للتثاقف والتفاعل  والحوار في أبهى صورها الخلاّقة،  بين ثقافتين أو أكثر،  مغربية وأندلسية ومشرقية.

            ***    

النصوص التي يتضمنها هذا الكتاب، هي مختارات تمثيلية، ومقتطفات بتصرف أحيانا،  شذرات فقط من مؤلفات زار مؤلفوها مصر، في حج ثقافي عبروا من خلاله إلى مكة والمدينة  للحج الديني.نصوص تتوقف طويلا عند مصر الإسكندرية والقاهرة  لترسمَ صورا لرؤى وأفكار عن الأمكنة وهي مُحملة بأزمانها الحاضرة والماضية،  وبشخصياتها من علماء وفقهاء وساسة ومواطنين بسطاء من المجتمع

نصوص تُغطي مرحلة حوالي عشرة قرون، منذ القرن الحادي عشر الميلادي وإلى غاية القرن الواحد والعشرين،  تنوب عن القرون السابقة التي ضاعت منا نصوصها أو غلبت معانيها الرحالين في أسفارهم العنيفة فلم يكتبوها ؛ كما تنوب عن ملايين الحجاج والسياح الزائرين لمدينتي الإسكندرية والقاهرة  عبر كل القرون السالفة،  ومنذ نهاية القرن السابع الميلادي.

والقارئ لهذه النصوص،  مُفردة أو في سياقها النصي،   سيُصادف أنها نص واحد،  فؤاده واحد بألسنة عدة،  فيه من الجَمال ما يجعله شعورا شفّافا وأدبا رقيقا  وتاريخا للثقافي وسجلا للتاريخي والجغرافي والإثنوغرافي..إنها تمثيلات فيها من الصدق والعفوية بروح الإعجاب والنقد وحس التثاقف. إنها التاريخ الفعلي  للصِّلات الوطيدة،  على مرّ التاريخ،  بين المغرب في أقصى الغرب الإسلامي ومصر التي تشكلت صورة مشرقة وجسرا للعبور إلى الروح والذات.

*مقدمة كتاب “عَـتباتُ الشّوق.. من مُشاهدات الرحالة المغاربة في الإسكندرية والقاهرة” للكاتب المغربي / شعيب حليفي. وصدر الكتاب 5 فبراير 2015 في سلسلة “كتاب الهلال

 

مقالات من نفس القسم