عندما انسحب البوح

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سمية عبد المنعم 

في لحظاتٍ بعينها يصبح البوح بين يديها أيسر ما يُرتكب من إثم..

بعد لقاء ساخن يدنيه من عالم محبب لقلبه، تجذبه بدلالها المعتاد ليدخل معها في سباق مداعبات أسفل “الدُش”، ينسى لدقائق طويلة خجله الذي طالما أغضبها، لينتهي به ذلك الماراثون مستلقيا فوق أرضية الحمام، تنقره زخات من المياه، ساندًا رأسه المتعب إلى فخذها الرشيق، فيروح في نوبة قصٍ لذكريات طفولته، يحكي ويحكي، وتداعب هي شعره المبلل بأصابعها، التي تسرع

لتبعد عن عينيه قطرات ماء تنصت معها لحكيه الشارد..

ينبئه صوته بأنه يشعر بسعادة لم يصل لمداها من قبل، فيزداد فرحًا ونشوة معا..

فجأة تقطع حكيه عطسة صاخبة الصوت، فترتعد هي، وتسرع لغلق الدش، وتجذب صدره إلى حضنها في لهفة قائلة: يا قلبي، انت بردت، تقولها وتساعده على  الوقوف ثم تتلقف المنشفة وتحيط بها جسده، ولا تنسى أن تقرصه في فخذه بخفة وهي تطلق ضحكة مائعة، ثم تقبل شفتيه قبلة سريعة تتخللها آهة لعوب، قبل أن تتجه به نحو الفراش لتهيل عليه بأغطية عدة،..

بينما هو ينظر إليها نظرات سعيدة، حاول ألا تلاحظها في عينيه وهو يدعي انزعاجه الصبياني مما تفعل به.. ينتهي بهما الأمر إلى حضن طويل دائم بشكل أو بآخر، هكذا يبدأ اللقاء بينهما بحضن وينتهي إلى حضن..

قبلها لم يكن يظن للأحضان هذا الحضور القوي، وذاك الأثر في نفسه، ومعها أدرك أن بين يديها فقط يكمن ذلك النوع الفريد من الأحضان..

وحده حضنها يمتلك مزيجًا غريبًا من اللهفة والحنو والجنون والتعقل.. ليديها تربيتة ما إن يشعر بها ظهره حتى يستكين قلبه وكأنه استعاد وطنًا مفقودًا، حنونٌ تلك التربيتة، مشتاقة، وقوية حين تتحول إلى ضمة تكاد ضلوعه معها أن تتكسر، ثم تعود في لحظة واحدة إلى هدوئها، وكأنها تذكره بأن هدفها الأول هو إشعاره بالأمان.. ليس إلا.

ويشعر معها بالأمان.. كثيرا ما اعترف لنفسه بذلك، لكنه أبدا لم يخبرها.. مثلما لم يخبرها في لحظات بوحه بكثير من آلامه..

ظنت وتظن صمته إهمالا، تهميشا، ضمور حب، لكنه لم يرد أن يدخلها معه دوامة بؤسه، فقط يقصيها عنه كلما شعر باكتئاب، لا يريد منها ولها سوى لحظات الشوق، سوى ذلك الحضن الطويل الدائم الملهوف، الذي لا تشوبه هموم ولا تعكره مصائب، لكن أنّى لها أن تفهم..

أنّى لها أن تعرف، أنه حين مارس عليها قسوة وجفاء في ذلك اليوم، لم يكن السبب سوى كونه لا يملك ثمن علبة سجائره المفضلة، وحين أصرت على لقائه واضطر هو للإذعان حتى لا تظن فيه الظنون، لم تعرف أنه اقترض من جاره مقدار بن سادة، ليصنع لها فنجان قهوة واحدا، بينما أعد لنفسه كوب شاي مدعيًا أنه لا يبغي شرب القهوة..

مسكينة هي، كثيرًا ما يلتمس أعذارًا لثوراتها التي لا تنتهي، لكنه يظل صامتًا عن البوح بكوارثه… فلا ذنب لها أبدا.. ولا ذنب للحظات السعادة معها أن يعكر صفوها.

لكنه اليوم يشعر برضا لم يصبه من قبل..

ترك لها حضنه تسكنه وتعتصره كيفما شاءت، وترك لقلبه ذلك الشعور بالأمان بينما تمارس يداها فعل التربيت المبهر، ينصت باستمتاع إلى آهاتها الحلوة..

تركها تسكب على جسده الحب، فشعر بدفء كوب من اللبن يُسكب في جوفه، في ليلٍ قارس..

الدّفة تلك الليلة كانت بين يديها، وكأنه بذلك يقدم إليها اعتذارات جمة عما عانته من اكتئابه وصمته لسنة كاملة.

شبعت وأشبعته، هكذا أحس..

فانزوت بين أحضانه تلتقط أنفاسها، ثم غلبها النوم كطفل سعيد بعد يوم طويل من اللهو..

عندها فقط، انسل من بين ذراعيها، وهو يتجنب النظر إلى حضنها، استدار، وغادر..

لكنه لم يلمح تلك الدمعة المقهورة التي انسابت من عينها المغلقة، وضمة كفها الملتاعة على ذراعها.   

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاصة وشاعرة مصرية

مقالات من نفس القسم