قصتان

محمد عبد المنعم زهران
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد عبد المنعم زهران

“المتجول في الأحلام”

لماذا تقف هكذا وحيدًا..؟

     ولماذا تتلفت فى كل اتجاه دون أن تدرك شيئًا.. حائرًا، وعندما اصطدم بك الرجل الذي يسكن غرفة على سطح العمارة التي  تقطنها، نظرت إليه ونظر إليك دون كلمات، كنت تعرفه فهو يعمل أجيرًا فى أشياء كثيرة، مثل أي عامل باليومية، وأردت أن تعتذر له، ولكنه تجاوزك فى ضيق دون أن يلتفت، هممت بأن تتكلم، لكن عرق غزير هبط من جبهتك وعنقك الآن.

     توقفت سيارة أجرة وحملتك إلى آخر الشارع، لأنك أردت أن تستقل المترو، جلست فى المقعد الخلفي وكان السائق ينظر إليك عبر مرآته، قال إنك أول زبون فى سيارته الجديدة وابتسم، فابتسمت بدورك. وفورًا أدار تكييف السيارة، استرخيت في التو وانتابك خدر السيارات المسرعة على طريق ناعم، وتسلل إليك خيط نعاس. قاومت النوم وعندما رأيت السائق يقود مبتهجًا كمن يعزف لحنًا على آلة صماء انتبهت. هبطت في آخر الشارع لتفكر في أشياء. بحثت عن المرأة التى تبيع السجائر على الرصيف بجوار محطة المترو، لم تجدها واندهشت! قررت العبور إلى الاتجاه الآخر من الشارع حيث يوجد كشك لبيع السجائر، وفجأة رأيتها أمام متجر ترتدى بنطالاً من الجينز وبلوزة حمراء، وفجأة تذكرت محيّاها بملابسها السوداء على الرصيف وأمامها صندوق السجائر، دعتك فجأة للدخول، وفوراً منحتك علبة سجائر، قالت إنها احتفظت بها لك وإنها هدية بمناسبة افتتاح محلها الجديد للملابس.

     حدث هذا سريعاً، دون أن تملك فرصة لإبداء دهشة. أفقت من المفاجآت المتوالية كطلقات رصاص ثم انتبهت، وبدأت تستعيد توازنك، ورأيتها تضع يدًا فى منتصف جسدها بدلال وتمد يدهـا الآخرى بعلبة السجائر، وكانت تضحك  وكنتَ تنظر هكذا فقط!

ثم أخيرا قررت فجأة ألا تذهب لعملك، لأنه يبدو لك يومًا غير عادي.

     قفلت راجعًا لتعود إلى نقطة انطلاقك بسرعة مشي مبالغ فيها، وكان الرجل الذى يسكن غرفة على سطح العمارة التى  تقطنها عائدًا يحمل حقيبة المتجر الشهير ولكنه تجنب الاصطدام بك هذه المرة. قلت له باضطراب “اسمع.. أنا آسف” و “لم أكن أقصد”، واستطعت أن تلمح جانبًا من تسوقه: لفة من الجبن الرومي وآخرى فلامنكو وعلبة مربى ولتر لبن وبرطمان عسل أبيض إلى جانب كيس كبير من “الكورن فلكس” والبطاطس المحمرة فاندهشت لوجبة إفطـار غير عادية في يوم غير عادي لرجل عادي.

    كان قد تجاوزك وعدت تفكر – فى هدوء هذه المرة – وأنت تتأمله. ولكنه استدار فجأة ومشى نحوك  قائلاً :

– ليس من اللائق أبدًا -أيها المحترم- ! أن تتجول هكذا! لن أسمح لك أبدًا!!

-….  ؟!      

– أنت حتى لا تفهم!  

-….  ؟!

ضحك الرجل الذى يسكن غرفة سطح  العمارة التى تقطنها.. ومضى بحقيبة تسوقه.

الآن تمر سيدة تعرفها جيدًا، تدفع أمامها عربة رضيع، كانت تتوقف بعد كل بضع خطوات وتنظر إلى العربة، وعندما تتأكد من وجود الرضيع يلتمع بريق ساحر فى عينيها،  نظرت إليك في غضب وهي تسوي الغطاء على جسد الرضيع، ثم تلفتت وصرخت  فيمن حولها..

– قولوا لهذا الشخص أن يتوقف عن التجول فى أحلامي!!       

 نظرت إليها بذهولٍ وبصمت من يرى أشياء لا تُرى، التفتّ ورأيت إمام المسجد القريب جالسًا على المقهى المقابل، مسترخيًا يضع قدمًا على قدم ويدخن الشيشة.. نظر إليك ضاحكًا بصوت مرتفع جداً..

–  تعال ودخن معي.. هيا..!

تركتهم وعدوت مسرعًا حتى آخر الشارع، لأنك قررت فجأة أن تذهب لعملك لتبتعد عن هذه الأجواء. كنت متأكدًا أنك لا تحلم، لأنك من الأشخاص الذين لا يحلمون أبدًا.

كل ما يمكن قوله: إنك ارتبكت وخالطك شعور بالجنون.  توقفت فى المكان الذي كانت تبيع فيه المرأة سجائرها ورأيتها تتطلع إليك من الجانب الآخر أمام دكانها، فى هذه اللحظة تحديدًا توقفت سيارة الأجرة التي كانت قد حملتك فى البداية، وقال السائق مبتسمًا : توجد أجرة ركوب حتى وأنت تتجول فى  أحلامي يا صديقي. تذكرت أنك قد نسيت كعادتك فى النسيان. أخرجت الأجرة وأنت تشعر بدوار.

وانطلقت السيارة أمامك، فشعرت بالرغبة فى البكاء، وناداك بائع الجرائد ليسألك إذا ما كنت ستشتري جريدة.. واندهشت من زيه وكان يرتدي بدلة سوداء ويدخن نوعًا فاخرًا من السيجار، تأملته وانطلقت منك ضحكات مباغتة….

تركته دونما هدف وأنت تضحك وتتحسس رأسك، وأخيرًا مضيت إلى حالك.

وحالك أوصلك إلى مقر عملك فى البنك.. جلست على مكتبك بعينين غائمتين متتبعًا تفاصيل اليوم، راصدًا كل شيء بدءًا من الشارع فمحطة المترو ثم تفاصيل الشارع حيث يقع البنك،، ورأيتها زميلة العمل فى المكتب المقابل لمكتبك، تتأمل صورة فوتوغرافية لشخص وتمسك وتمسك بيدها الأخرى وردًا، وعندما اقترب عميل لتوقع على شيكه بقبول الصرف رأيتها ترسم على الشيك قلبًا يخترقه سهم! وما أثار دهشتك أن العميل شكرها، وأن شباك الصرف فى ردهة البنك صرف الشيك بصورة طبيعية!!

إذاً لماذا؟!

تركت كل شئ واندفعت فى الشارع فى هذا اليوم غير العادي، وعدت تتأمل المارة والمحال والباعة مرتعشًا ومستغرقًا فى التفكير فى أنك ربما تحلم لأول مرة، ولا بد أن يتوقف كل  شيء. لكن الذى توقف ولد صغير يحمل أوراقًا وقلمًا فى يد وفى اليد الأخرى قرطاسًا من الأيس كريم.. نظر إليك كمن يتأمل تمثالاً وقال: إنه يود أن يكون مثلك !

 تركته ومشيت مسرعًا، التفتّ إليه من بعيد وكان ما يزال يشير إليك، وحين كفّ الصبى ومضى فى طريقه، تباطأ مشيك حتى توقفت أخيراً، التفتّ وصادفتك مرآة أحد المحال التجارية فاتسعت عيناك:

كيف لم تستطع أن تنظر في مرآة، لترى هذا الطيف الذى يشبهك حاملاً على يديه كتبًا وأوراقًا وفى اليد الأخرى قلمًا بطول قامتك! كيف لم تستطع أن تنظر أو تحاول مجرد محاولة، فى هذا اليوم غير العادي.

……………………….

iv

 هكذا وبينما أفكر فى ركوب الباص الذى توقف أمامى، كنت قد ركبته فعلاً. كان من تلك الباصات التى تتوقف بالقرى فى الليل، فيركب مسافرون، ويهبط آخرون. جلست باستسلام فتحرك الباص. كان يخب مهتزاً كجمل عجوز فى صحراء، مظلماً، والمسافرون كانوا نائمين.

هكذا تأتى هذه الأوقات التى تشعر فيها بالصفاء وبالرغبة فى التفكير، فكرت فى ذلك عندما استرخى كل جسدى، وفكرت أيضا أنه من الرائع أن تستقل باصا لا يعرفك فيه أحد، ولأنك فى مكان بعيد فلن يفاجئك شخص، تراه فجأة أمامك فيقطع كل أفكارك ويدمر – بغير قصد – لحظة لا تأتى إلا هكذا فجأة.

كانت بجوارى فلاحة تضع طرحة على رأسها، تضايقت من رائحتها، أردت أن أنهض، ولكن خيطا غامضا ربطنى بهذه الرائحة، كانت تشبه رائحة الفول الأخضر، مختلطة بقليل أو كثير برائحة الزبد الطازج، بريئة وبدائية، كانت النوافذ محطمة، وهواء الحقول يغمر الباص، فشعرت على الفور بأننى محاط بأجواء طالما أحببتها، وطالما افتقدتها، وفكرت لو أن هناك قمر يضئ الحقول بذلك البياض النائى والشفيف إذا لاكتمل كل شئ.

توقف الباص أمام قرية فتسلل ضوء أعمدة الكهرباء إلى الداخل، استطعت أن أرى طرحتها الخفيفة، كانت خضراء كالحة، وجلبابها أبيض منقوشا بزهور حمراء وصفراء، تحرك الباص مرة أخرى فدخل فى ظلمة الطريق المترب. سرحت قليلا، وغفوت متلذذا باهتزاز الباص.

عندما فتحت عينى كان كل شئ كما هو، هادئا بدائيا، والركاب نائمين، فعاودت التفكير فى أشياء جميلة، فرحت لأشياء وحزنت لأشياء، ابتسمت لأنى كنت غبيا فى أحيان كثيرة، وحيث لا أحد يرانى أنّبت نفسى. وعلى نحو غريب، وأنا صامت هكذا أفكر، انتابتنى رغبة فى أن أكون ذلك الرجل البسيط، الفلاح الذى يجلس متربعا فى داره مستندا إلى حائط، مبتسما بوجه أسمر رائقا كسحابة، وتمنيت بشدة، تمنيت كحلم أن يرفع أحد النائمين رأسه ويغنى موالا ريفيا، أو أن يخرج من جلبابه نايا ويعزف لحنا حزينا يصعد إلى السماء، كنت أتصور دائما أن السماء تجتذب إليها ألحان هذه الآلة، شرط أن تكون حزينة وريفية.

انتبهت فجأة إلى أنين خافت بجوارى، التفت، كانت الفلاحة تبكى، محاولة أن تكتم صوت البكاء، وكان يهبط ماء غزير من عينيها، شعرت أن بكاءها مرير إلى ما لا يمكن تصوره من مرارة، وفكرت فى أن روح الفلاحة، روحها الخالصة هى التى تبكى. عدت ألتفت أمامى، إلى ظلام الطريق، إلا أن رأسى هذه المرة تحركت محملة بحزن غامض. تركتها تبكى لأننى كنت أعتقد أنه من الرائع أن يبكى المرء، أن يستطيع البكاء هكذا، وأننا ودائما علينا أن نبكى كلما شعرنا برغبة فى ذلك، بالبكاء فقط من دون سبب، من دون أى شئ، لكن ذلك قادنى إلى تذكر ” بيسوا ” الشاعر الذى أحبه حين قال : ” أنا بحاجة إلى الرغبة فى البكاء، ولكن لا أعرف طريقة لاستثارة الدموع ” وبدأت أفكر فى إمكانية تقديس هذا البكاء الذى لا يجئ، يظل مكتوما كقطعة ثلج على موقد لا تنصهر أبدا. لكن الفلاحة انتشلتنى من كل هذا، عندما ارتفع صوت بكائها وبتلقائية أدهشتنى أمسكت يدها ضاغطا عليها، لم يبد عليها أى ردة فعل، فأبقيت يدى، وحين خفت بكاؤها فكرت فى آسى – أنه قليلا ما يتذكر الإنسان أن لديه دائما ما يشارك به الآخرين، ثم ولا أعرف ما دفعنى إلى ذلك، استدرت ببطء ووضعت يدى على وجهها، فعاد بكاؤها مرة أخرى، حارا فى حدة واندفاع سيف، مكتوماً، تجاهد أن تبقيه مكتوماً، وفجأة لم أشعر إلا بها بين ذراعى وقد أراحت رأسها على كتفى، ملتصقة كطفل خائف، خفت بكاؤها قليلا، فعدت أفكر وأنا أربت على كتفها، أن الحياة تعذبنا على نحو مروع. وبدأت أبكى بدورى، بكاء مريرا.

مر وقت طويل، لم أشعر بأى شئ، سوى أن هذه المرأة برائحة الفول الأخضر فى ملابسها ورائحة الزبد فى فمها القريب، استطاعت أن تدفعنى إلى البكاء، بكاء كنت احتاجه حتما.

تذكرت الحقول حولنا، والهواء الذى يندفع من النافذة، وفكرت أن هذه الفلاحة بإمكانها أن تجعلنى أجرى.. أجرى فى الحقول، وفقط أجرى، كطفل مبتسم يرتدى جلبابا، أذهب إليها.. أسفل شجرة، فتضحك وتبسط يدها المملوءة بالفول الأخضر، آكل من دون تفكير فى أى شئ، آكل، تضع شايا على نار هادئة لحطب العنب، فأشرب شايا دافئا وله نكهة العنب على الأشجار، حيث تكون السماء دائما زرقاء صافية. والسحاب دائما ابيض رقيقا ككومة قطن، والحقول خضراء، يدفعها الهواء فتتحرك كطرحة خفيفة على رأس فلاحة، وحين تدفعنى لأنهض، أقول لها فى توسل : أريد أن أبقى.. أبقى، فتأخذنى وتتركنى لأنام.. هكذا فى أحضانها، غارقا فى دفء جلباب أبيض بزهور حمراء وصفراء. لكن كل ذلك تهاوى فجأة كسماء من زجاج عالية ورحبة تهاوت على الأرض، فتهاوى كل شئ حين نهضت الفلاحة، هكذا رأيتها تنهض وتتركنى، فشعرت بضعف مفاجئ، وحين توقف الباص، أدركت أنها ستهبط، تحركت غائبا، وأفسحت لها مكانا لتمر، بسرعة هبطت، واختفت، وتحرك الباص.

بعد كم من الوقت أحسست بالفراغ بجوارى، فعاودنى البكاء مرة أخرى، أسندت رأسى على المقعد المقابل وفكرت فى أن وقتا طويلا سيمر، سنين ربما، حتى ألتقى مصادفة بفلاحة لها رائحة فول أخضر، ولفمها رائحة الزبدة، أبكى على كتفها باندفاع ومرارة، أبكى من جوفى من روحى الخالصة، وأشهق ممسكا يدها فى استماتة خالدة، فتشاركنى البكاء وتربت على كتفى فى الظلام، وسط مسافرين نائمين، فى باص محطم النوافذ، يخب مهتزاً.

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون