رسالة الأسير الإسرائيلى

محمد سلماوي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد سلماوي

حبيبتى يائيل
أكتب لك هذا الخطاب من مكان لا أعرفه. هو يقع داخل غزة بالتأكيد، لكن أين بالتحديد؟ لا أعرف. أكتب إليك لأطمئنك علىّ، فأنا بخير. حقيقة بخير. صدقيني. لم يصبنى خدش، ونعامل أنا وبقية الجنود الإسرائيليين معاملة جيدة ممن أسرونا. أنا وحدى فى هذا المكان الذى أودعونى فيه وسط مجموعة من الشباب الفلسطينيين يعملون على حراستى ولا أراهم كثيرا. فأنا غير مقيد اليدين ولا معصوب العينين، لكن تحت حراسة مشددة، وهى حراسة أرى أنه لا لزوم لها، فأين سأذهب إذا هربت من محبسى هذا؟ إلى جموع الفلسطينيين فى الخارج؟ وماذا سيفعلون بى إذا وجدونى بينهم؟ إن هذا المكان الذى لا أعرفه هو الأكثر أمانا بالنسبة لي. وأتصور أن بقية الجنود يلاقون نفس المعاملة. لا أعرف مكانهم، فقد فرقونا ولم يعد اثنان منا فى مكان واحد. نادوا علينا بالأسماء بعد أن كشفوا عن هوياتنا وذهب كل من سمع اسمه فى صحبة أحد الشباب الفلسطينيين إلى مكان مختلف. مضى أكثر من عشرة أيام الآن فيما أظن، لا أعرف بالتحديد فلم أعد قادرا على متابعة توالى الأيام وتواريخها. طوال تلك الفترة لم أتعرض لأى أذي، فالمعاملة إنسانية وإن كانت حيادية.

وفى هذا فأنا مدين لحكومتنا التى تحرص كل الحرص على حياة المواطنين، وتبذل قصارى جهدها لاستعادتهم من الأسر سالمين، ومن هنا كان حرص الفلسطينيين على حياتنا لأننا السلاح الذى سيستخدمونه للتفاوض مع السلطات الإسرائيلية حين يأتى وقت إطلاق سراحنا، وهذا الخطاب إذا وصلك سيكون هو الدليل على صحة كلامي، فقد طلبت من الحارس الشاب المسئول عنى واسمه باسم، إن كان من الممكن أن أطمئن خطيبتى عبر رسالة هاتفية، فذهب واستطلع الرأى ثم عاد يقول أن هذا غير ممكن لأن الجانب الإسرائيلى سيتمكن من معرفة مكانى عبر تتبع منشأ الرسالة. فكرت وقتها فى صمت فيما لم يكن يعرفه حارسى باسم ولا يعرفه زملاؤه الذين أسروني، وهو تلك الشريحة الإلكترونية الصغيرة التى زرعت تحت الجلد فى اليد اليسرى لكل منا بين السبابة والإبهام، والتى تمكن قيادة الجيش من معرفة موقعنا أينما كنا عن طريق نظام GPS لكنى ابتسمت ولم أتكلم حتى لا أفشى السر.

ثم فوجئت بباسم يقول لى إن باستطاعته أن يأتى لى بورقة وقلم إذا أردت أن أبعث لخطيبتى برسالة مكتوبة، وقال إن لديهم وسائلهم فى توصيل الرسالة إلى شبكة البريد داخل إسرائيل، لكن شريطة أن تطلع قيادته على مضمون الرسالة قبل إرسالها. وبالرغم من دهشتى الأولية من هذا العرض الذى لم أطلبه إلا أنى أيقنت أنه يخدم هدف الجانب الفلسطينى الذى يهمه أن يعلم السلطات الإسرائيلية أننا أحياء نضيف إلى قوته التفاوضية. لكن حدث بعد ذلك شيء غير متوقع، فقد انكشفت قصة الشرائح هذه والتى اكتشفوها بالصدفة حسبما علمت حين أجروا أشعة على يد أحد الجنود لإصابته بالتواء فى يده أثناء القبض عليه أدى إلى تورمها وأراد الطبيب أن يعرف إن كان قد أصيب بكسر أو بشرخ فى عظام اليد. عندها قاموا بالكشف علينا جميعا واستخرجوا الشرائح من أيدينا، وذهبت تلك الشرائح مع المخلفات الطبية الخارجة من غرفة العمليات إلى أحد صناديق القمامة بالطريق العام. وهنا كان الحدث الذى غير مجرى حياتى لأنه كشف لى عن الحقيقة التى كنت غافلا عنها طوال عمري.

حبيبتى يائيل

لعلك تذكرين الحديث الذى دار بينى وبين شقيقك دافيد ليلة الضربة التى قامت بها حماس ضدنا، وكيف حاول إقناعى برفض الخروج فى العملية التى كنا نستعد لها صباح اليوم التالى فى غزة كما رفضها هو، وكيف أننى شرحت له أن وضعه يختلف عن وضعي، فهو مدنى مستدعى من الاحتياط، أما أنا فجندى نظامى واجبى أن أطيع الأوامر دفاعا عن الوطن، لكنه قال لى إن حكومة نتانياهو لا يعنيها أمرى ولا أمر الوطن وأنها على استعداد أن تضحى بالجنود جميعا وبالوطن نفسه فى سبيل البقاء فى السلطة، وأخذ دافيد يحثنى على رفض الخدمة وقال إنه وقع مع مئات من جنود الاحتياط على وثيقة يرفضون فيها الخدمة بالجيش، وقال إن من بينهم طيارين مقاتلين وأفراد من وحدات القوات الخاصة، وأكد لى أن القانون يعطيهم هذا الحق ولا يسمح بمعاقبتهم. وتذكرين كيف قلت له إن الامتناع عن الخدمة وقت الحرب يعد فى نظرى خيانة، فقال إن نتانياهو أعلن الحرب كى يهرب من محاكمته فى قضايا الفساد المنظورة أمام القضاء وليس بغرض القضاء على حماس التى ساهمت إسرائيل فى قيامها، ثم أخذ يتحدث عن حقوق الفلسطينيين فقلت له إنه لا يجوز أن يحدثنى فى هذا الشأن وأنا ذاهب للقتال فى اليوم التالي، ثم احتدم بيننا النقاش واتهمته صراحة بالخيانة وكدنا نتشابك بالأيدى لولا تدخل والدك.

لقد أمضيت يا يائيل وقتا طويلا هنا أفكر فى هذا الحديث وفيما قاله دافيد، فأنا أمضى الساعات هنا وحدى وكأنى فى زنزانة انفرادية إلى أن يدخل على باسم مرتين أو ثلاثة فى اليوم ليقدم لى الطعام أو يقودنى إلى دورة المياه، وقد يحدثنى قليلا فأحاول إطالة وقت الحديث قدر استطاعتي، لكنى أمضى بقية الساعات الطويلة وحدى أفكر فى نفسى وفى حياتى وما فعلته بها، ولا أجد جميلا فى حياتى إلا أنت يا يايئل، يا من كنت دائما سندى الذى لا أستغنى عنه، وإنى أتمنى الآن أن تكونى لى هذا السند فى القرار الذى توصلت إليه والذى سأقوله لك بعد قليل.

لقد حدث يا يائيل ما لم أكن أتوقعه أو أتخيله، فقد وقع من بضعة أيام انفجار مدو على مقربة من مكانى هذا هز أرجاء المبنى بعنف، فهل تعلمين ما هو الهدف الذى صوبت إليه طائراتنا قذائفها التى أحدثت ذلك الإنفجار؟ لن تتخيلي. إنه صندوق القمامة الواقع على مسافة ليست بعيدة عن مكانى هذا. هل كنت تتصورين أن يصدر المجرم نتانياهو أمرا بضرب الموقع الذى دلت الشرائح على وجود الأسرى فيه حتى يضعف موقف الجانب الفلسطينى ويبطل تأثير وجود أكثر من مائتى جندى رهينة فى يد الفلسطينيين؟ هل كنت تتخيلين ألا يعبأ بحياة الجنود الذين جازفوا بحياتهم تنفيذا لأوامره القتالية؟ للأسف أن شقيقك كان على حق، فنتانياهو لا يهمه إلا البقاء فى السلطة وهو مستعد بالفعل للتضحية بالجنود وبالجيش كله متمسكا بالسلطة التى تجنبه المحاكمة.

لقد هزتنى هذه الواقعة بشدة كما هز الانفجار المبني، حيث انقلبت الآية فوجدت من أسرونى يدافعون عن بقائى حيا، وحكومتى تضرب المكان الذى تصورت أننا محتجزون فيه ــ القذائف ــ لتقتلنا. لقد ثبت لى بالدليل العملى صحة ما قاله شقيقك وما يقوله كثيرون فى إسرائيل كنت أعدهم خونة. أرجو أن تخبرى دافيد يا يائيل أننى أعتذر له عما بدر مني، فإن ما حدث هنا نزع عن عينى غشاوة لم أكن مدركا لوجودها. ولست أعلم إن كان بقية الجنود الأسرى يعرفون ما عرفته، فقد تم توزيعهم كما قال لى باسم، على أماكن متفرقة وقد لا يكونون قريبين مثلى من مكان الانفجار، لكنى سأقول لهم إذا واتتنى الفرصة للقائهم مرة أخري. بل سأقول للعالم كله ما حدث.

حبيبتى يائيل

لقد اتخذت قرارا بعد تفكير طويل بألا أعود إلى إسرائيل فى ظل الحكومة الحالية، وحين يجيء يوم الإفراج عنا (إذا جاء ذلك اليوم) فإنى سأذهب إلى حيث يقيم شقيقى الأكبر دانيال فى لوكسمبورج لأقوم بفضح هذا النظام المجرم الذى يسيطر على الحكم فى إسرائيل منذ سنوات طالت بأكثر مما ينبغي. فهل تقبلين أن تكونى معي؟

قـبلاتى

آرون

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون