دماء على البالطو الأبيض: تفكيك ظاهرة التطرف في كليات الطب

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أسعد سليم 

يعتبر كتاب “دماء على البالطو الأبيض: لماذا ظهر الطبيب الدرويش والدكتور الإرهابي؟” للدكتور خالد منتصر، الصادر عن دار ريشة للنشر والتوزيع عام 2024، جهدا بحثيا وعملا فكريا عميقا يتناول إحدى الظواهر الاجتماعية المعقدة: انزلاق بعض خريجى كليات الطب نحو التطرف الفكرى والدينى، بل وصول بعضهم ليصبحوا قيادات تنظيمات إرهابية كالجهاد والقاعدة. من خلال إحدى عشر فصلا، يقدم منتصر تحليلا شاملا لتلك الظاهرة من جميع جوانبها، مستعينا بخبرته كطبيب وشاهد عيان على هيمنة التيارات الإسلامية المتطرفة في كليات الطب ابتداء من سبعينيات القرن العشرين. يطرح الكتاب سؤالا مركزيا: كيف يتحول الطبيب، رمز الإنسانية والرحمة، إلى شخص يتبنى أفكارا متطرفة تتناقض مع جوهر مهنته؟ وما هي الحلول الممكنة لمواجهة تلك الظاهرة؟

في الفصل الأول، يفتتح الكتاب بتساؤل حول سبب اختيار المؤلف لكلية الطب كنقطة انطلاق رئيسية لدراسته، ويوضح أن اختياره مبنى على ثلاثة أسباب جوهرية: أولا، خبرته الشخصية كخريج طب القصر العينى عام 1983، مما جعله شاهدا على صعود وهيمنة الجماعات المتطرفة داخل القطاع الطبي. ثانيا، تناقض مهنة الطب الإنسانية مع أفعال القتل والإرهاب. ثالثا، نجاح التيارات الإسلامية في السيطرة على انتخابات اتحادات الطلبة والنقابات الطبية. يصف الدكتور خالد منتصر الأجواء المخيفة داخل الكلية، حيث كان الطلاب المتطرفون يفرضون طقوسا دينية مثل قراءة القرآن قبل المحاضرات، وإيقافها أثناء الآذان، وفصل الطلاب عن الطالبات بالمدرجات. ويشير إلى أن هذه الظاهرة الملفتة لم تقتصر على جامعة القاهرة، بل امتدت إلى الجامعات الإقليمية، مما جعل دراستها ضرورة ملحة. يطرح منتصر فرضية أن طريقة تدريس الطب الحالية، التي تعزز اليقين المطلق وتقلل من التفكير النقدى، تسهم في تكوين عقلية منغلقة تجذبها الأفكار المتطرفة، ويدعو إلى إدراج العلوم الإنسانية لتصبح جزءا من المناهج لترويض تلك العقلية.

يناقش في الفصل الثانى ما إذا كان ارتباط التطرف بكليات الطب ظاهرة حقيقية أم مجرد انطباع. يستعرض منتصر دراسات عديدة للإجابة عن ذلك السؤال، مثل دراسة سعيد عكاشة، التي تنفى ارتباط التطرف بطبيعة التعليم وتطالب بتقديم دراسات نفسية أعمق لتلك المعضلة. في المقابل، تؤكد دراسة سعيد المصرى أن 70 في المئة من قادة جماعة الإخوان المسلمين هم خريجو كليات علمية (طب، هندسة، علوم)، بينما لا يوجد بينهم من هم خريجو الفلسفة أو الأدب العربى، وقليل منهم من درس العلوم الدينية والشرعية. يربط منتصر هذه الظاهرة بغياب الحرية النقدية في التعليم العلمى، ومحاولات “أسلمة المعرفة” عبر الإعجاز العلمى مما يعزز اليقين المطلق والتعصب. يشير أيضا إلى أن خريجى هذه الكليات غالبا موظفون طامحون للوجاهة الاجتماعية، وليسوا من فئة المبدعين أو الباحثين العلميين.

في الفصل الثالث، يستعرض منتصر آراء باحثين ومفكرين لرصد وتفسير الظاهرة، ومنها رسالة قدرى حنفى، التي ترى أن طلبة الطب والهندسة يفتقرون إلى الشك الفلسفى ويؤمنون باليقين التام. كما يشير إلى مقالات في الجارديان البريطانية والشروق التونسية، التي تؤكد ارتباط التطرف بكليات الطب والهندسة عربيا وعالميا. وينقل عن حلمى النمنم رأيه بأن غياب العلوم الإنسانية وإقرار مجانية التعليم في الجامعات الحكومية يسهمان في الظاهرة. كما يلفت الكاتب النظر إلى الدراسة الهامة للباحثة في مجال علم النفس التونسية إقبال الغربى، والتي تتحدث فيها عن أن الذكاء المجرد الخاص بالفيزياء والرياضيات له علاقة محدودة بالتفوق والاندماج، فهذه النوعية من الذكاء تساهم فقط في ٢٠ في المئة من العوامل التي تحدد النجاح في الحياة، ويبدو أن نمو وتطور الذكاء المجرد يكون علي حساب تفتح الأنواع الأخرى للذكاء مثل الذكاء العاطفي، الجمالي، والاجتماعي الضرورية لنحت شخصية متماسكة ومتوازنة.

أما في الفصل الرابع، فيتناول منتصر العقلية السلفية من خلال قادة الدعوة السلفية في الإسكندرية، مثل ياسر برهامى وسعيد عبد العظيم، وهم أطباء تحولوا إلى قادة سلفيين، حيث يصف العقلية السلفية بأنها نصية، تقليدية، ومنغلقة، تعانى من انفصام عن الواقع وتميل إلى التعميم. ويستعين بإجابة من الشات جى بى تى لتأكيد تلك السمات، مشيرا إلى أن السلفيين يرفضون التجديد ويعارضون الديمقراطية وهو ما يعزز التطرف.

في الفصل الخامس، يحلل المؤلف فتاوى قادة التيار السلفى: ياسر برهامى ومحمد إسماعيل المقدم، وهما طبيبان تحولا إلى زعماء سلفيين. ويستعرض فتاوى برهامى المثيرة للجدل، مثل جواز نكاح الطفلة، تحريم تهنئة الأقباط، فرض الجزية، بالإضافة إلى آرائه المتشددة حول الديمقراطية وتكفير المثقفين مثل نجيب محفوظ. أما محمد إسماعيل المقدم، فيصف قاسم أمين بداعية السفور، ويعتبر كشف وجه المرأة كفرا، ويحرم العمل في مجالات مثل المحاماة. هذه الفتاوى الصادرة عنهم تعكس عقلياتهم المنغلقة والتي تتناقض مع العقلية العلمية.

بينما في الفصل السادس، يشير المؤلف إلي أقوال كل من: عبد الفتاح مورو، مالك بن نبي، هبة رؤوف عزت، أحمد سالم بخصوص افتقاد قيادات التيار الإسلامي لدراسة العلوم الإنسانية والاجتماعية وهو ما أضر بهم وأضر بالإسلام عموما. بعدها اختار المؤلف أن يتحدث عن جيل السبعينيات من الإخوان المسلمين الذي قام بتأسيس الجماعة للمرة الثانية، وكذلك مكتب الارشاد الذي نزل وقطف ثمار ثورة يناير عام 2011. ويشير إلى الدراسة التى تقول إن ١٥ شخص من بين كل ١٨ شخص ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين هم خريجو كليات الطب والهندسة والتقنية، بمعني أن حوالي ٨٥ في المئة من كبار قادة الإخوان ينتمون لتلك الكليات العلمية. ويوضح أنه من أهم أسباب دفع الجماعة لمنتسبيها بالانضمام للكليات العلمية هو الوجاهة الاجتماعية ومحاولة السيطرة علي النقابات مثل نقابة الأطباء والمهندسين. ومن بين أعضاء مكتب الارشاد للإخوان وقت وبعد ثورة يناير من الأطباء كل من: محمد بديع، أسامة نصر الدين، عصام الحداد، محمد عبد الرحمن، محمود أحمد أبو زيد، محمود عزت، محيي حامد، مصطفي الغنيمي، وكذا يمكن إضافة كل من عصام العريان وعبد المنعم أبو الفتوح. وأيضا محمد البلتاجي وحلمي الجزار. بعد ذلك بدأ المؤلف يحكي عن مشاهداته في كلية طب القصر العيني في السبعينيات والثمانينيات وتحكم تيار الإخوان في مفاصل الحركة الفكرية، قراءة القرآن وترديد الآذان بصوت عال داخل قاعة المحاضرات، تمزيق المجلات اليسارية، الاعتداء الجسدى على من يحضر الحفلات الموسيقية، محاولة فرض الحجاب علي الطالبات، وفصل الطلبة عن الطالبات بالمدرجات.

أما في الفصل السابع، يناقش منتصر مذكرات عبد المنعم أبو الفتوح، حيث يعرض بعض المقتطفات منها، والخاصة بكيفية تكوين تنظيم الجماعة الإسلامية داخل كلية طب القصر العينى والمواجهات التي تمت من أجل تحقيق الانتصار في انتخابات اتحاد الطلبة بما فيها لجنة الفنون التي كانوا يعتبرونها حراما شرعا، ثم بعد ذلك خروج أفكار التنظيم من داخل الجامعة إلى الشارع، وبدء فرضها على الآخرين مثل صلاة العيد في الخلاء. ويشير إلى إيمانهم المطلق بالعنف في تلك المرحلة للوصول إلى السلطة، وهو ما تم بالفعل في المحاولة الفاشلة بقيادة صالح سرية فيما عرف بأحداث الكلية الفنية العسكرية. ثم اجتماعهم مع مرشد الإخوان المسلمين في ذلك التوقيت عمر التلمسانى الذى وجههم إلى أساليب أخرى للسيطرة غير العنف.

يستكمل مؤلف كتاب “دماء على البالطو الأبيض” رحلته في الفصل الثامن، والذى يكشف من خلاله كيف خططت جماعة الإخوان المسلمين للسيطرة على نقابة الأطباء سيطرة شبه مطلقة منذ عام 1984، دون دخولها في صدام مع الدولة ولذلك فهي لم تترشح على منصب النقيب كنوع من أنواع التقية. لقد اكتشفوا أهمية السيطرة علي البسطاء من خلال تقديم الخدمات الطبية لهم، فقاموا بإنشاء العديد من المستوصفات الطبية الإسلامية، كما حولوا نقابة الاطباء لمشروع تجاري، بعمل المعارض الخاصة بالأجهزة الكهربائية ومستلزمات المنازل، وهو ما در عليهم أموالا طائلة، وكذلك قيامهم بإنشاء ما عرف بلجنة الإغاثة الإسلامية الدولية ومقرها برمنجهام ببريطانيا، والتي مثلت مورد دخل بالمليارات بينما كانت الحجة الظاهرة مساعدة أفغانستان، الصومال، باكستان، الشيشان، والبوسنة.

في الفصل التاسع، يشير المؤلف للتأثير الهائل للدكتور سيد إمام والشهير بالاسم الحركى الدكتور فضل علي جميع حركات العنف الإسلامي كالجهاد والقاعدة وغيرهما. من خلال كتابيه (العمدة في إعداد العدة) عام ١٩٨٨، وكتاب (الجامع في طلب العلم الشريف) عام ١٩٩٣، وكذا كتابه الذي لم يكتمل بسبب القبض عليه وهو (الإرهاب من الإسلام ومن أنكر ذلك فقد كفر)، حيث يعتبرهم المؤلف أخطر من كتاب سيد قطب الشهير (في ظلال القرآن).   ومن ضمن أفكار المنظر سيد إمام: جواز قتل النساء والأطفال من غير المسلمين، وطبعا اعتبار كل غير المسلمين كفرة، وكذلك تكفير المسلمين الذي يؤمنون بالقوانين الوضعية وليس القوانين الإلهية. لقد كان الرجل سفاح دماء ومنظرا فقهيا لكل جماعات العنف والتطرف الإسلامي، وكان صديقا صدوقا لأيمن الظواهري ولكن حدث بينهما خلافات خصوصا بعد المراجعات التي نشرها سيد إمام في السجن والتي مهدت لخروج العديد من الإسلاميين. ولم يحل تفوقه الطبي بينه وبين التطرف والانجراف إلى العنف والدعوة والتنظير له.

في الفصل العاشر، يحلل منتصر مسيرة أيمن الظواهري، ابن الذوات ذو الأسرة الثرية، جده كان رجلا شهيرا وليبراليا لكنه لم يتعلم منه شيئا، انضم للجماعات الإسلامية وهو بعمر ١٥ سنة فقط، ودخل كلية الطب لكنه لم يكن متفوقا كأستاذه سيد إمام، كان يركز منذ اللحظة الأولي علي العنف والتدمير كوسيلة للانقلاب والسيطرة علي الحكم، وأصبح زعيما لتنظيم القاعدة بعد وفاة أسامة بن لادن، شارك في معظم الهجمات الإرهابية التي حدثت في مصر وخارجها، ومنها قتل السادات، قتل رفعت المحجوب، أحداث الأقصر وغيرها الكثير والكثير.

يختتم منتصر الكتاب بالفصل الحادى عشر، والذى خصصه لتقديم حلول عملية لتلك القضية الشائكة والذى يتمثل في ضرورة تدريس مادة العلوم الإنسانية الطبية في كليات الطب، والتي تشمل العلوم الاجتماعية (علم النفس والاجتماع والانثروبولوجيا)، الفنون (الأدب والأفلام والموسيقي والتعبير البصري والمسرح)، العلوم الإنسانية (الفلسفة والتاريخ والأخلاق)، والطب (المناهج القياسية لبرامج البكالوريوس قبل المتوسطة في العلوم الفيزيائية)، وهي المجموعة التي لو تم تدريسها لطلبة كلية الطب سيتغير حالهم وتفكيرهم حسب وجهة نظر المؤلف وحينها سيصعب علي الجماعات الإسلامية اجتذابهم وتجنيدهم.

إن هدف كتاب “دماء على البالطو الأبيض” الأساسى هو محاولة تفكيك ظاهرة التطرف وتحديدا فهم أسباب تحول الأطباء إلى قادة متطرفين، من خلال تحليل العوامل التعليمية والنفسية والاجتماعية، مركزا على أن نظام التعليم الطبي بطريقته الحالية في الحفظ والتلقين لا يقدم سوى عقليات ضبابية منغلقة.

يتميز الكتاب بأسلوبه التحليلى الذى يجمع بين الخبرة الشخصية والدراسات العلمية، مما يجعله جذابا للقارئ العام والمتخصص. كما أنه يتضح للجميع مقدار الجهد الهائل المبذول في البحث والتدقيق، ورغم إعجابي الشديد بالكتاب ومحتوياته وأهدافه وطريقة عرضه إلا أنه افتقد في بعض الأحيان للبيانات الإحصائية والدراسات الكمية التي تدعم الافتراضات التي طرحها المؤلف، كما أن الدراسة التي قدمها الدكتور خالد منتصر في كتابه عملت على تحليل الظاهرة من الداخل، متناسية أهمية العوامل الخارجية في تشكيلها مثل السياق السياسى والاقتصادي، على سبيل المثال، الظروف السياسية في مصر خلال السبعينيات والثمانينيات، مثل صعود تيار الإسلام السياسى بعد سياسات الانفتاح الاقتصادى، ودعم الرئيس الراحل السادات للتيارات الإسلامية للعمل بكل حرية لضرب التكتلات الناصرية واليسارية، وأيضا تأثير التمويل الخارجي للجماعات المتطرفة.

يمثل كتاب “دماء على البالطو الأبيض” دعوة للتأمل في تناقضات العقل البشرى وقابليته للانحراف نحو التطرف، حتى في أوساط النخب العلمية، من خلال تحليل دقيق وأمثلة واقعية، محاولا تقديم حلول عملية تركز على إصلاح التعليم وتعزيز العلوم الإنسانية. فالكتاب ليس مجرد نقد للتطرف، بل مشروع فكرى يهدف إلى بناء مجتمع أكثر وعيا وتسامحا، مما يضعه في مصاف الكتب القيمة التي تحرك المياة الراكدة وتدعو للنقاش والتساؤل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب مصري 

مقالات من نفس القسم