باتريك موديانو… الرّوائي الباريسي المشَّاء

باتريك موديانو .. الفرنسي الخامس عشر الذي يفوز بنوبل
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد المديني

خمسة وخمسون عامًا هو الزمن الأدبي للروائي الفرنسي باتريك موديانو (1954ـ) أصدر روايته الأولى “Place de l’étoile” (1968) وترجمت إلى العربية بعنوان “ساحة النجمة” والقصد ساحة قوس النصر الشهير.
وعن هذا العمل نال مباشرة جائزة أدبية مرموقة (Nimier et Fénéon) وتوالت رواياته عن دار غاليمار لتصل إلى ثلاثين عملًا، إضافة إلى مسرحيات وأشعار، بأسلوب متقشف جدًا، وحبكة بوليسية، وموضوع واحد متعدد الوجوه، متشعّب المناحي، يبدأ من الذات نحو المحيط والوجود لينكفئ إلى الذات، وحده اختص به بين أقرانه من الكتّاب الفرنسيين جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، الستيني خصوصًا وصُعدًا، فأهّلته رواياته للفوز بجوائز كبرى منها جائزة الأكاديمية الفرنسية للرواية (1972) يليها الغونكور عن روايته Rue des boutiques obscure (1978) ليُتوّج أخيرًا بجائزة نوبل (2014).
يُعاب على موديانو تكرارُه لعالم متشابه وشخصيات غامضة شبحية وبحث لا ينقطع عن مجهول الأشخاص ومنقرِض الأماكن لإزاحة رماد الزمن عنها والكشف عن أصلها واقتفاء مصيرها، فيما هذه تحديدًا مكامنُ فنه، ومواطنُ قوة روائيته، وفرادةُ عالمه تمييزًا عن غيره، تُختصر في: البحث عن هوية مفقود لإعادة تأسيسها، وعبرَها محاولةُ رؤية مجتمع محجوب المعالم بالتنقيب فيها، وفهم ما يكتنفه من غموض، هو بالتأكيد بحثٌ وجودي مصدره الأصلي السيرةُ الشخصيةُ لكاتبه وغموضُ منشأ أبيه وأصوله اليهودية الفرنسية الملتبسة، فتأتي الرواية على طراز تخييل ذاتي مستمر يشغل ضمير المتكلم فيها آخر حربائي وغامض.
عوالم المدينة
القفلُ والمفتاحُ لهذه السيرة والكتابة هو مسقط الرأس، ومرتَعُ الصبا والتربية، ومجال التفتح الأول على حياة عاش الطفل والفتى الذي سيصبح كاتبًا أطوارها الأولى معقدةً، مفككةً عائليًا، ومتنازعةً بين ماض لم يمت وحاضر يولد بعسر شديد.
مفتاحُ فهمها والمدخلُ الصحيحُ لقراءة روايات موديانو هو مدينة باريس أولًا وأخيرًا، هو ابنُها وهي فضاؤه الروائي بالكامل، لا تكاد رواية تخلو من حضور أحيائها وأزقتها الخلفية وتعمُر بناسها، وتتحددُ بأسماء شوارعها ومقاهيها، بعملِ الطبوغرافي وقياسِ مسّاح الأراضي، وعُدّة المعماري، ومجهر الكيميائي، ومطرقة الصائغ، عينه على الشاذة، ومن العارض المبتذل يستمد أحيانًا نواة قصته، الشيء الغفل عنده يتحول بفضول المحقق إلى مادة استقصاء، يكاد الروائي في عُرفه يعادل النبّاش، والحفّار(déterreur)، مثاله الساطع رواية رسخت قدمَه وكان لها أقوى الصّيت في مساره: Dura Bruder (1997) سلّ خيوطها من قراءة صدفة لعدد قديم من صحيفة “باري سوار” بتاريخ 31 كانون الثاني/ يناير 1941 نشرت خبرًا عن اختفاء فتاة في سن الخامسة عشرة تسكن في شارع (أورنانو)، فذهب يتقصّى أخبارها خطوة، خطوة، ويسرد، يصنع قصتها الحقيقية من مخيلة واقعية تنتهي إلى مصير الفتاة التي رحّلت إلى معسكرات النازية في أغسطس 1942.
في شوارع المدينة
كيف يفعل؟ خطته تبدو سهلة لأول وهلة، لم يعرف عنه أنه احترف أيّ مهنة، ولا حاز شهادة جامعية بارزة. بعد حصوله على البكالوريا (1965) في أرفع ليسي باريسي (هنري IV) سجّل بالسوربون في شعبة الفلسفة، لكن عُرف طالبًا شبحًا، نادرًا ما حضر ولم يكمل.
كان منذ صباه، وبرفقة أخيه رودي (الذي توفي صغيرًا) قد شرع في تعلم حرفة ممتعة وكشّافة، أن يتنقل في باريس، ويمشي في أحيائها ودوائرها العشرين، بدءًا من العناوين التي سكنت فيها الأسرة وامتدادًا إلى حيث تقوده قدماه وبصيرته لتقصّي المعلومات وجمعها عن أبطال وأماكن رواياته.
إنه “مشّاءُ باريس” (le Piéton de Paris) بامتياز وهذا عنوان كتاب للشاعر ليون بول فارج. منذ الصبا تحددت أمامه مسارات استراتيجية أفضل ما يمكن لباريسي، بدأت من مسكن أسرته الواقع في 105 Quai Conti على الضفة اليسرى للسّين وقبالته على اليمين بقليل قصر اللوفر وحدائق التويلري.
مثله مثل سَلفه بودلير، وُجد في نقطة تقاطع بين الضفتين اليسرى واليمنى. في الأولى، خالط المدرسة الابتدائية والأزقة المتداخلة خلف سان جرمان، ثم الليسي بهضبة البانتيون، وبعدهما السوربون ومحيطها، نطوي فترة نفيه إلى الضاحية الباريسية وإلى بوردو.
وفي الضفة اليمنى سكن مؤقت للعائلة والأقارب بين الدائرة 16 و18 ومونمارتر، وتلك النزهات في كليشي وبيغال، يرافق أمه وينتظرها وهي تمثل في مسرح لافونتين. من طفولته جمع المواد الأولى لذاكرة ما فتئت عبر السنين تغتني بالمشاهدات وبالأسئلة في آن، لأنه عاشها بين أبوين شبه منفصلين تقريبًا، ومتنقلًا عند أقارب وفي حِمى مربياتٍ وحراسةٍ وراء جدران الليسي حيث كان تلميذًا داخليًا محرومًا من مدينة تحيط به من كل جانب، إلا نهاية الأسبوع.
كان للكاتب ريمون كينون أقوى الأثر في تعليمه فنّ التعرف على باريس في الجولات التي اصطحبه معه فيها بانتظام يدله إلى زواياها الخفية، هو صاحب قصة “زازي في المترو”، بعدما لمس عنده فضول الإحساس بأهمية المكان، معرفتها بدقة ليُحيي فيها الإنسان، في سياق زمن، بدأ عنده من الاحتلال النازي للعاصمة.
روايته “ساحة النجمة” ترمز أيضًا إلى النجمة التي أجبر يهود فرنسا على وضعها علامة عنهم، ووالده الذي أفلت مرتين من الترحيل إلى معسكرات النازية، وسيرة هذا الوالد الغامضة الذي عمل في تجارة التهريب، والأم الغائبة في أماكن مجهولة أو خفية، وهو بينهما تأرجح بين عشرات الأمكنة بدون بوصلة، فاقدًا لمرتكز، فراح يبحث عن نفسه فيها ويعيد تأسيسها في الرواية من حزمة الذكريات، مرةً، ومن مشاهدات ولقطات الصدفة، أخرى، وطورًا لأن السارد الكاتب الشخصية تضرب في الأرض بحثًا عن معلوم مجهولٍ، ومجهول منظور محدوس به في باريس الخلفية، السّرية، تلك التي يجهلها الباريسيون أنفسُهم، يتنقل في رقعة واسعة ومتشابكة مثل خطوط المترو الباريسي وفي جيبه دائمًا خريطة وفوق منضدته هي تحت بصره.
أنت القارئ لن تجدها في يوميّاتك، وستبحث عنها عبثًا كي تعثر على معالمها بدقة، لن تجد سوى “باقي الوشم في ظاهر اليد” يد خوْلة، كما في معلقة طرفة بن العبد، وكما حاولت الكاتبة (Béatrice Commengé) اقتفت بنفسها خطوات موديانو، من ورائها شخصياته وأماكنها، الفضاء العام حيث نمت وتطورت، فوجدت أغلبها انطوى أثرُه وإمّا تغير معماره والأمثلة بلا حصر.
الزوال
هكذا، يضعنا أمام فكرة الزوال، لن تسعفها الأشواق، بث أشجانها رامبو في قصيدته النثرية لمّا رأى مدينته ينقلب عاليها سافلها بمعاول المعماري هوسمان ليجددها، فلم يملك أمام التغيير إلا الاكتئاب (le spleen) فيما خطة الروائي أن يحييها من رميم، من واقع وخيال، في الماضي الذي تقيم فيه ويجعلك تمشي في دروبه وأجوائه كأنه حقيقي وحي، لأن هذه هي الرواية.
يقول موديانو في حوار صحافي معه: “إن باريس التي عشت وأتنقل بداخلها في كتبي لم تعد موجودة، وإذا كتبت فلأستعيدها، إنها لم تعد كما في الماضي. كلّ ما هنالك أني صنعت من باريس مدينتي الداخلية، مدينةً حلمية، لا زمنية، حيث الأزمنة تتطابق فوق بعضها”. وهذا لا يمنع أنها موجودة، حسّية حتى العظم، اقرأ عناوين روايته لتجد التصاقَها بالمكان، والبحثَ الملحاح عن بقاياه في عتمة الذكريات وضياع الأسماء باستعادتها،(انظر مثالا: Dans le café de la jeunesse perdu(2007)” مقهى الشباب الضائع” عشرات المقاهي الباريسية، يمكن إحصاؤها، والعناوين الممحوة تنبش وتصقل، هذا فعل ما سمّاه جيرار جينيت الكتابة على الطِّرس (Palimpsestes)(1982).
برسم الختام، يقترن هذا البحث عند موديانو بحكاية وبحبكة (intrigue ) والمصطلح بالفرنسية يعني لغة مثار اللبس وما يشوّش، أي ثمة عقدة، والعقدة تُحبَك بخيوط وتشتبك بين كائن ومكان في زمن بعلائق إشكالية، تتطلب عنده طريقة، هي نفسُها التي اعتمدها جورج سيمنون صاحب الروايات البوليسية الشهيرة، الذي كان يحتاج أن يعرف في أي طبوغرافية وأي ديكور تعمل شخصياته وتنمو، ثم يبدأ الشغل، الانتقال من خارج (العام) إلى داخل (الخاص) يتقصّى الطفل والفتى الذي كان أثر ومناورات أشخاص مروا في حياته ووراءهم حكايات ملغزة وفي القلب امرأة ربما هي الأم وهو وراءهم في أماكن وبصبر الأركيولوجي سيفتح القمقم (انظر آخر مثال لهذه الخطة في رواية Chevreuse (2017)) ويتركك تظنه قد فُتح ويمضي. إلى أين؟ حين تلفنت سكرتارية الأكاديمية السويدية إلى بيت موديانو في الساعة 12 ظهرًا يوم الرابع من كانون الأول، أكتوبر 2014، حسب تقاليدها، لتعلمه بفوزه بنوبل، اعتذرت زوجته عن غيابه، سُئلت أين يكون، فأجابت ببساطة، أنه يمشي في باريس، فهذا شغله وعاد بهدوء ولم يطر فرحًا.

………………

*نقلا عن النهار العربي

مقالات من نفس القسم