رواية “بالأمس كنت ميتًا” .. رحلة وجدانية بين الماضي والحاضر

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ناصر اللقاني 

رواية ملحمية للكاتبة”رضوى الأسود”، فيها حكايات الحب والكراهية، وفيها تَّوق العقول والقلوب إلى الجمال، وفيها حنين النفوس إلى معاني الإنسانية، وفيها ملامح معركة بدأت ولم تنته، معركة يبدو أنه مازال علينا خوض غِمارِها، عن الرواية البديعة “بالأمس كنتُ ميتًا” أتحدث.

“بالأمس كنتُ ميتًا – حكاية عن الأرمن والكرد”، رواية تحمل رحلة وجدانية عقلية معرفية كاشفة من الماضي إلى الحاضر، هي سِكِّين يَفُض مظاريف قضايا مؤلمة وشائكة وملغومة، هي سفينة تَخوض بحرًا وقف التفكير بساحلِه وتجمدت متون السرد على شاطئِه.

🔹️ في الزمن القديم، قبل منتصف القرن التاسع عشر، نبتت جذور حكاية الفتاة الأرمنية بيروز آرام آرشاج منديكانيان، والشاب الكردي كِراون سالار فِرهَد منديكانيلي، الذَيِّن نزحا إلى مصر في وقت كارثة الإبادة الجماعية، لحظة سبقتها سنوات وعقود من صداقة أبوّيهما ومن قبلهما جدّيهما، في ظلال تاريخ العيش المشترك، والفُرقة والاضطهاد والدم والموت، تحت لواء الأتراك العثمانيين، وكانت فيها سنوات الأزمة تمد يديها لتُدوِّن صفحات سوداء في كتاب التاريخ.

عائلتيّ منديكانيان الأرمنية ومنديكانيلي الكردية كانتا عائلة واحدة كما تشي الأسماء، انقسمت بعد الزرادشتية بين المسيحية والإسلام، كالكثير من العائلات في ذلك الزمان والمكان، مثل باجرانونيان وباجرانيلي وغيرها، منديكانيان ومنديكانيلي، عاشوا أيامهم معًا، وتقاسموا أحلامهم وآلامهم معًا، وتبادلوا الود والحب ونبض الحياة، حتى قررت الدولة العثمانية تصفية أقلياتها مثلما ترائى لخفافيش الظلام.

شهدنا عندما وصل سالار إلى منتهى التنافر المعرفي: كان خطاب كراهية يزلزل بيت الحب.. بيت الله!
وكان آخر يوم لي في المسجد.

وعندما لحق به آرام حين طرح سؤال معضلة الشر: كيف يستقيم وجود الإله الكامل مع نقصان هذا العالم؟

ذاقوا طعم الحب، وذاقوا طعم الخوف والشقاء في وقت الأزمة، في زمن الحرب والكراهية، وشهدوا في يوم المأساة احتراق البيوت بساكنيها:
مع كل بيت يُحرق بساكنيه، فتندلع منه ألسنة لهب سوداء تطول عنان السماء، تصرخ في الإله: أين أنت؟!

أنهت الكاتبة هذا الزمن بعد سنوات من العذاب والألم، بوصول بيروز وكِراون إلى أرض مصر واستقرارهم بها في العقد الثاني من القرن العشرين.

🔹️ في الزمن الحديث، في نهاية القرن العشرين، كانت بقايا ذلك التاريخ تطل برأسها في حكاية لوسي حفيدة بيروز وكِراون، فتاة يملؤها الشغف، شعلة من الأمل والحلم وحب الحياة، مع ليلى المصرية الوديعة، ومالك الشاب المنفتح، الذي عثر على مذكرات جده الأكبر طلعت باشا، الذي كان المسؤول الأول عن عمليات الإبادة الجماعية للأرمن في أراضي الدولة العثمانية، كانت ليلى ولوسي هما الحياة بعرضِها الواسع وطَيفِها الكامل ونَفَسِها الجميل.

تحدثت لوسي عن الجبر والاختيار، عن الحتمية ووهم حرية الإرادة، شهدنا نقاء ليلى وصوفيتها، ونزق لوسي وانطلاقها، ووجودية مالك وعرفانيته، ثم ترحاله للبحث عن المعنى في الأديان الهندوسية والبوذية وفلسفات الشرق القديم، وفي النهاية رأينا ما حدث لبطلتنا لوسي من فوائض الكراهية المتبقية.

عرفنا ما حل بالأكراد فيما بعد، فالتعصب القومي هو أيضًا آفة ملعونة لا تقل عن التعصب الديني، كيف جعل الناس من الدين والقومية جناحين للتعصب والكراهية، ونقيضين للحب والإنسانية.
❞ آفة الناس الجهل ❝

عندما ذكرت بطلتنا لوسي رواية “العطر” وجون باتيست، تذكرت أيضًا فيلم “لوسي” وسكارليت چوهانسون، إذا كان فيلم “لوسي” يتحدث عن أننا نستخدم قدر محدود من قدرتنا العقلية ويمكن لتلك المادة المحفزة أن تطلق بقية القدرة، وإذا كانت رواية “العطر” تتحدث عن أننا نشعر بقدر محدود من رغبتنا الحسية وممكن لذلك العطر المستخلص من أجساد النساء أن يطلق بقية الرغبة، فإن رواية “رضوى الأسود” تتحدث عن أننا نحيا بقدر محدود من طاقتنا الإنسانية ويمكن للوعي السليم والحس النقي أن يطلق بقية تلك الطاقة، ويسحق الكراهية والتعصب والجهل والشرور، ساعتها سنستمتع بفوائض العقل والقدرة، والحس والرغبة، والنفس والمتعة، وطاقة الحياة.
الإنسانية اختيار، ولكن هناك من يصر على ألا يكون إنسانًا

أنهت رضوى الأسود الرواية بعد أن وضعتنا وجهًا لوجه أمام الحقيقة العارية، أدركنا أن ندبات التاريخ هي بقع فاسدة يملؤها صديد عفن، تقود إلى فقدان المعنى وضياع الحقيقة وتيه العقل وتشويه الوعي، ولن تبرأ تلك الندبات ونبرأ معها، إلا إذا نكأناها ونظفناها، وفهمنا أين تقبع المشكلات، وأين توجد الحلول، وعرفنا المعلوم من الإنسانية بالضرورة، وعشنا كلمات محي الدين بن عربي التي جاءت في نهاية الرواية.

🔹️ في مسيرتها منذ بزوغ الوعي، عرفت البشرية أقوامًا وأديانًا كثيرة على مدى آلاف السنين، بدَّل كل قوم دينه مرات عديدة على مر التاريخ، وفي هذه المنطقة من العالم تحديدًا، المنطقة التي جرت فيها أحداث الرواية، ظهرت أديان مصر القديمة وسومر وبابل وكنعان، وظهرت الزرادشتية والمانوية والأيزيدية والمندائية، كما ظهرت الأديان الإبراهيمية، اليهودية والمسيحية والإسلام، علاوة على أديان الهند وشرق آسيا وغيرها الكثير، عاشت كل الأديان ومرَّت على الأرض، وبَقي الإنسان، اهتزت إنسانيته كثيرًا بسبب اضطرابات الوعي، ولكن كان هناك دائمًا من يحاول التشبث بالإنسانية، التي هي القاسم المشترك لدى جميع البشر في مسيرتهم فوق هذه الأرض، وفي رحلتهم بين دفتي كتاب الوجود، يرفعون راية تحدي العدم، ويصِّرون على بناء الحياة فوق سطح هذا الكوكب.

كنا نسير مع رضوى الأسود وفقًا لإيقاع سردي مرسوم بعناية، في البداية فصول محملة بالتفاصيل التاريخية والاجتماعية والمعرفية، السرد فيها بديع ملحميّ، عندما تحدث عن بدايات الحكاية وشخصيات أجيال الأسلاف، يحمل روح ورائحة ذلك الزمان والمكان، وفي النهاية فصول متدفقة مع سريان النفس وتجلياتها حول أسرار الإنسان والوجود، السرد فيها بَاذِخ سَخِيّ، عندما غاص في أعماق شخصيات ليلى ولوسي ومالك، وامتلك زخمًا نفسيًا وفلسفيًا ورمزيًا كثيفًا.

كانت أصوات الرواية تتبدل وتختلط، راوٍ عليم ورواة من بين شخصيات الرواية، رأينا الأحداث تجري والسنوات تمضي والمعاني تتموضع، شعرنا أنه لا يهم من يكون الراوي، ومن دون أن ندري، وجدنا أن الرواية سردت نفسها في نعومة فائقة، وإبداع فريد.

وفي يوم الإبادة، وكذلك في صفحات النهاية، كان السرد مهيبًا، يبحث عن أنفاس الحياة المتقطعة، ويتمايل مع نبضات الفزع الصاخبة، ويتداخل مع نصوص الموت في تداعٍ عظيم، ثم ينظر في عين الحقيقة البائسة بتحدٍ واثق ومن دون تردد، عندها خجلت الحقيقة واهتزت، ولم يهتز السرد.

إن رضوى الأسود ليست مجرد أدبية قديرة، ومبدعة تمتلك أساليب سردية ساحرة وتقنيات فنية مبهرة، لكنها أيضًا كاتبة ومفكرة لديها رؤية وموقف، وقلم شجاع.

هذه رواية رائعة، عن العقلانية التي يحتاجها العالم للخروج من تخبطه في دروب الجهل والتعصب، عن الحب الذي تبحث عنه الإنسانية في سعيها المتعثر صوب أحلامها، عن الجمال الذي ينشده كل من لم يُلوِث قلبه ويُسمِم عقله وباء الكراهية اللعين، الذي اجتاح الأرض والسماء، في غفلة من الإنسان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب مصري 

مقالات من نفس القسم