إطلالةٌ على الدلالة العامة لشعر رفعت سلَّام

محمود أمين العالم
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمود أمين العَـالم

لن أضيف جديدًا إن قلتُ إن رفعت سلام ينتسبُ شعرُه إلى ما يُطلق عليه “شعراء السبعينيات”؛ فهو ينتسب بحق إلى هذه المدرسة الشعرية التي بدأت في السبعينيات، والتي تأسست بها رؤية شعرية مختلفة عن مرحلة الخمسينيات والستينيات؛ وإن كانت في تقديري امتدادًا لها من حيث البُعد الدلالي الوطني والاجتماعي، وإن تمايزت عنها من حيث التشكيل الجمالي. ولعل أهم ما يحدد ملامح الاختلاف بين مدرسة السبعينيات والمدرسة السابقة عليها هو الخروج على النسق التفعيلي (وإن استمر بمستوى آخر)، فضلًا عن التمرد على البنية التشكيلية للقصيدة؛ فلم تعد امتدادًا عضويًّا متسقًا أحاديَّ الاتجاه، تتراكم وتتنامى وتتسلسل معانيه بشكل منطقي، يفضي بعضه إلى بعض، مما يشكل في النهاية دلالةً عامةً محددة.

هذا إلى جانب بروز الموقف النقدي، بل النقض الجذري للأوضاع السياسية والاجتماعية والفكرية التي أخذت تسود ابتداءً من منتصف السبعينيات بوجه خاص مع بداية التوجه إلى سياسة الانفتاح على اقتصاديات السوق من جهة، وعلى التحالف مع الرأسمالية العالمية والتبعية لها والتصالح مع إسرائيل من جهة أخرى. ولهذا نقرأ في افتتاحية العدد الأول من مجلة إضاءة77، الذي صدر في يوليو 1977، مرتكزين محددين لهذه المدرسة الجديدة؛ المرتكز الأول، كما تقول الافتتاحية هو: “إن القائمين على هذا التوجه الجديد أصحابُ فكرٍ اشتراكي، وإن كانوا لا يغلقون أنفسهم دون كل جهد شاب جاد حقيقي فني وجمالي وفكري”. والمرتكز الثاني: “إن لهم مفهومًا للفن يرفض ثنائية الشكل والمضمون، ويرى في الفن إدراكًا جماليًّا للواقع لا يعكسه آليًّا، بل يخلقبطرائق التعبير المجازيموازاةً رمزيةً لهذا الواقع. ولهذا كان حرصهم على تقدمية الرؤية للعالم وللواقع، وحرصهم كذلك على القيم الجمالية الراقية للشعر”.

على أنه برغم هذه الملامح العامة لهذه المدرسة الشعرية، التي تختلف عن مدرسة الخمسينيات والستينيات على الأقل، من حيث البنية التشكيلية للشعر أو الحساسية الجمالية كما يقال، ففي داخلها كانت تتخلق تمايزات إبداعية، قد تختفي وراءها اجتهادات فكرية مختلفة، داخل الإطار الفكري العام المشترك.

ولهذا، فمن التعسف أن نوحد – في نمط فني فكري جمالي واحد – رؤية كل من حلمي سالم وحسن طلب وأمجد ريان وعبدالمنعم رمضان وجمال القصاص ومحمود نسيم ومحمد سليمان ووليد منير وماجد يوسف ورفعت سلام، وغيرهم من رواد هذه المدرسة. فبينهم تمايزات في الرؤية الجمالية والدلالية.

وفي تقديري، دون أن أدخل في تفاصيل تاريخية، أن رفعت سلام كان يستشعر هذا الاختلاف ويعبر عنه منذ البداية. ولعلي أتبين هذا في العدد الثالث من المجلة، في رده على مقال لحلمي سالم بعنوان: “نقد النقد الميكانيكي“. ويمكن تلخيص مقال حلمي سالم في قوله: “إن الفصل في الحكم على العمل الفني هو تشكيل هذا العمل لا مضمونه، فإذا كان المضمون ثوريًّا والتشكيل تقليديًّا يواصل النسق الشكلي السائد، فلا سبيل إلى الحكم عليه بأنه شعر ثوري”.

ولعل هذا الرأي كان تردادًا لنظرية أدونيس في العلاقة بين الشعر والثورة، التي أخرج بها الشعر الفلسطيني من الثورية، بسبب نسيجه التعبيري التقليدي. ويرد رفعت سلام على ذلك الرأي قائلًا: “إن الحديث عن تشكيل ثوري للقصيدة لا يخرج عن محض تأملات ذهنية مغرقة في المثالية، ويصبح بمقتضاه مفهوم الشعر الثوري هو مجرد التجديد الشكلي فحسب”. على أن الشعر الثوري في تقديره يتضمن بالضرورة الرؤية السياسية الثورية للواقع.

لا أريد أن أخوض في تفاصيل هذا الحوار البالغ الدلالة في ذلك الوقت، وإن كنت أعتقد أن الخلاف حول هذه المسألة قد انحسر خلال السنوات التالية بالممارسة الإبداعية نفسها. على أني أردت أن أقول إن رفعت سلام كان منذ البداية يحمل رؤيةً اجتماعيةً جذريةً ملتحمةً برؤية جمالية تشكيلية جذرية كذلك. ولعلنا نلمح هذه الرؤية الجمالية التشكيلية منذ البداية في الاختلاف بينه وبين حسن طلب حول تقييم قصيدة مبكرة لرفعت سلام هي قصيدة “منية شبين”. ففي العدد الأول من مجلة “إضاءة77، ينشر رفعت سلام هذه القصيدة، ويعلق عليها حسن طلب في العدد نفسه منتقدًا فيها – رغم تقييمه الإيجابي لها – أنها تكاد تنقسم إلى قسمين مختلفين، ولهذا فهي تفتقد البنائية والتنامي الإيقاعي. والواقع أننا نكاد نرى في هذه القصيدة المبكرة لرفعت سلام معالم المشروع الشعري الذي سوف نقرأه ونتابعه في أشعاره ودواوينه بعد ذلك.

ما أردت هنا أن أقف عند هذا الاختلاف في الرؤية الجمالية بين حسن طلب ورفعت سلام، وإنما أردت أن أقول إن رفعت سلام كانت له رؤيته الفكرية والجمالية الجذرية الخاصة منذ البداية المبكرة، التي تكاد تشكل مشروعه الشعري عامةً حتَّى آخر دواوينه التي أجتهد لقراءتها في هذه الإطلالة.

ولعل أبرز ما يميز هذه القصيدة المبكرة هي بالفعل ازدواجيتها الإيقاعية والصياغية التي انتقدها حسن طلب. فسوف نجد هذه الازدواجية في أشعار رفعت سلام، بل قد تتعدد الإيقاعات والصياغات، والتشكيل الطباعي كذلك، كما سوف نرى. ولكن إلى جانب هذه الازدواجية الإيقاعية والصياغية في هذه القصيدة الأولى، سنجد أن القصيدة تنتج دلالتها العامة من أمرين؛ الأول: هو المعطيات الحسية البسيطة المباشرة للحياة اليومية، والثاني: أنها تعبر عن هذه المعطيات في كلمات متقطعة، منفصلة، تتشكل دلالتها العامة من تسلسلها غير المترابط.

وعندما ننتقل إلى تأمل سريع لديوان “إشراقات رفعت سلام“، سنجد هذه الازدواجية الإيقاعية والصياغية تتحول إلى متن وهامش، وسنجد هذا التسلسل المسترسل للكلمات غير المترابطة يتحول إلى جمل صغيرة، منفصلة، متقطعة، دلالتها العامة أكبر من معانيها الجزئية المتشظية، وليست ثمرةً مباشرةً لها.

وهكذا، بهذه القصيدة المبكرة، نجد أنفسنا في قلب تجربة رفعت سلام الشعرية. وسأبدأ بإشراقاته. فما تمكنت من الحصول على ديوانه الأول “وردة الفوضى الجميلة”، وإن وجدت جمالية الفوضى التي تتجسد في وردة فنية في أكثر من موضع في إشراقاته ودواوينه التالية.

في إشراقاته، تطالعنا هذه الثنائية الصياغية المتوازية التي أشرت إليها، وإن لم تكن متوازنة؛ فهناك المتن الشعري الأساسي الذي يغلب عليه في العادة طابع قصيدة النثر، وإن كنت لا أحب هذا التعبير؛ إنه – في الحقيقة – نص شعري مرسل دون قافية أو إيقاع تقليدي. وعلى جانب هذا المتن الشعري هامش من المقطعات الشعرية المركزة التي تعد هوامش على بعض مواضع في المتن الشعري. وقد يبدو الأمر كأنها هي تفسير أو تعميق لبعض مواضع وكلمات في المتن.

وفي تقديري، إنها قصائد مستقلة ومميزة قد يثيرها ويفجرها معنًى أو كلمة في المتن، ولكنها لها دلالتها الخاصة المستقلة؛ بل أكاد أقول إنه من الممكن أن تُجمع في ديوان مستقل وتُقرأ باستقلال تام عن المتن. والواقع أن وجودها في الهامش يشرخ – في تقديري – التركيز الوجداني والجمالي عند محاولة تذوق المتن، بل قد يهمشه بسبب هذا الهامش، بدلًا من أن يعمقه أو يفسره، وخصوصًا أن هذه المقطعات أقرب إلى الغنائية من المتن الذي يغلب عليه الطابع السردي.

ونص “الإشراقات” يتألف من ثلاث إشراقات: الأولى، هي إشراقة المروق، وتتألف من أربع محطات ميمية، هي “مراودة” و”مراوغة” و”مراوحة” و”مكابدة”؛ تبدأ – كما نرى – من المراودة، وتنتهي بالمكابدة. ولهذا كان من الطبيعي أن تبدأ “إشراقة السفر” بعد المكابدة، ثم تأتي “إشراقة الغياب” التي تتألف من حروف مختلفة، تنتهي بحرف الياء؛ أي نهاية الأبجدية، ونهاية الإشراقات جميعًا.

و”الإشراقات”ليست مجرد إشراقات شعرية عامة، بل هي إشراقات محددة بصاحبها؛ إشراقات “أنا رفعت سلام”. ولهذا، فهي إفضاءات هذه الأنا الطاغية على الإشراقات جميعًا. وهي إفضاءات تنبع من ذكريات وأحداث وأحلام وخبرات ومرجعيات نصية تراثية متشابكة، تتجسد في عناصر ومعطيات حسية مباشرة، يتدفق التعبير المتواصل عنها بغير فواصل، رغم أنها لا تشكل بتواصلها تواصلًا معنويًّا منطقيًّا متسلسلًا. ولهذا، فمعانيها الجزئية تشكل دلالتها بتسلسلها المتصل، لا بهذه المعاني الجزئية؛ وهي دلالة عامة غير متعينة، رغم بنائها المتشكل من عناصر حسية ملموسة. انها رحلة الأنا في ماضيها وحاضرها ومنطلقاتها بحثًا عن غاية، أو على الأقل نهاية. وبتعبير أدق: بحثًا عن عالم مغاير للعالم السائد.

ولهذا، كان من الطبيعي أن تكون بداية الإشراقات هي “إشراقة المروق”، وهي التمرد على ما هو سائد قائم مهيمن. وهو مروق يتداخل فيه كل شيء بكل شيء آخر في حركته متعددة الاتجاهات، وفي اندفاع حيوي وتقييمي رافض كاره باغض، يبلغ حدًّا كبيرًا من العنف الخلاق والشر التخريبي المضيء في مواجهة هذا الواقع السائد. ولهذا، تتداعى الذكريات والعلاقات والإحالات الثقافية النصية، وتتنامى بغير تنمية، وتتراكم من غير تراكب؛ أي بغير دلالة معينة محددة، اللهم إلَّا الدلالة العامة التي ينتجها الرفض والدحض والعنف الشرس المأساوي الباحث عن بديل؛ فضلًا عن هذا التسلسل المتصل المنفصل من الكلمات والجمل. ولهذا تتحرك الأنا عاريةً، بلا نبوَّة ولا شهادة ولا رسالة تدَّعي قداسةً ما، تتحرك عاريةً من الأسماء والصفات والأحكام والخزعبلات والتواطؤات، وعاريةً من الأنماط التعبيرية السائدة كذلك. كأنما هي في نقطة البداية لكل شيء، رغم تداخلها مع كل شيء، بغير ترابط منطقي مضاد. ولهذا، نكاد نحس بمناخ كابوسي مسيطر، تصوغه هذه التداعيات الحرة من المشاعر والذكريات والأحداث والأحاسيس الغائرة بالأسى والخيبة والفجيعة والعنف الوحشي. لكننا لا نستشعر بدايةً أو نهايةً؛ بل نحن دائمًا في المنتصف. والمنتصف كلمة حاسمة في معجم رفعت سلام. نحن في منتصف الوقت، في منتصف الليل، في منتصف العويل، في منتصف كل شيء؛ إننا بين بين، نرفض، ننقُض، ولكننا لا نصل؛ نحن في حالة معلقة في فضاء كابوسي متصل، نكاد نسقط منه في هاوية محتومة.

وبرغم أن الرحلة الشعرية أقرب إلى المونولوج الذاتي للأنا، فإنها تصبح أحيانًا – وبشكل مباشر- ديالوجًا؛ حوارًا “معكم”. وهو – في الحقيقة – حوار مضاد، وإن لم يتم بشكل مباشر. وهو حوار متمرد رافض ناقض يتسلح بالإدانة والعنف الوحشي، بل بالشر والعدمية واللعنة والكراهية والرغبة العارمة في تهديم النظام القائم، الذي يتمثل في هذا الخراب المسيطر على الوطن، في عصر انفتاح الفخذين لعابري السبيل، في عصر تعاليم القبيلة المهيمنة والوجوه الراضية عنها، التي ليست سوى حشرات بلهاء. انها – باختصار شديد – رحلة إدانة وتهديم وتخريب لكل مظاهر الواقع السائد المهيمن، والرغبة المتفجرة لإشعال وردة الفوضى الجميلة في المدن والقرى وفي كل شيء، والانفلات لا في الرؤية فحسب، بل في التعبير الشعري كذلك، إلى الضفة الأخرى؛ إلى عالم مغاير تمامًا.

و”الإشراقات” تعبر عن هذا متسلحةً – كما ذكرت من قبل – بالعناصر الحياتية العارية المباشرة، وبالذكريات التي يغلب عليها التناص في مختلف تجلياتها، التراثية الدينية والصوفية، والتاريخية والأدبية القديمة والحديثة؛ بل لا تكاد صفحة من صفحات “الإشراقات” تخلو من فقرة أو أكثر من الإشارات والمرجعيات التراثية المختلفة، فضلًا عن استخدام المعاني الضدِّية والمفارقات الوصفية للأشياء والأحوال، عبر تسلسل العبارات والجمل المتداخلة، التي لا يوقفها فصل أو وصل، اللهم إلَّا الأرقام التي تحيل إلى المقطَّعات الشعرية في الهامش. ان “الإشراقات” تعبير ذاتي كابوسي عن معاناة عميقة مأساوية كارهة لعالم بشع مرفوض بشكل مطلق؛ ولهذا تكاد إطلاقية القيم والأحكام والدلالات والمواقف والإدانات أن تكون السمة التعبيرية، بل الجمالية العامة لـ“إشراقات رفعت سلام”.

والواقع أنني عندما كنت أقرأ “إشراقات رفعت سلام“، شعرت بحالة كابوسية شعرية أقرب إلى الحالة التي أشعر بها وأعيشها عندما أقرأ “فصل في الجحيم” لرامبو؛ وإن كنت أجدها – في الحقيقة – بشكل أخف في إشراقات رامبو. وسرعان ما صدق حدسي الشعوري عندما أخذت أقرأ ديوان رفعت سلام الأخير “هكذا قُلتُ للهاوية“، فأقرأ إشارةً واضحةً إلى رامبو، كما سوف نشير إلى ذلك من بعد.

أكتفي بهذه الرؤية العامة لديوان “إشراقات رفعت سلام“، متمنيًّا أن أعكف على التحليل المحايث لبنيته في دراسة أخرى، منتقلًا إلى إحاطة دلالية، سريعة كذلك، لديوانه الثاني “إنها تومئ لي“.

ومع هذا الديوان، كدت أستشعر أني أنتقل إلى المقطَّعات الشعرية في هامش ديوان “إشراقات”، وإن اختلفت مقطَّعات إشراقات عن القصائد الصغيرة لهذا الديوان. على أن هذا الديوان – في تقديري – قد يكون ديوانين لا ديوانًا واحدًا. الديوان الأول هو القصائد التي تتخذ كلٌّ منها عنوانًا محددًا، وهي أغلب الديوان، ثم مجموعة أخرى من المقطَّعات الشعرية الصغيرة تحت عنوان واحد، هو: “مَرأة الظل.. مرأةٌ لي“. والديوان، رغم ما نستشعر فيه أيضًا من استمرار للرؤية الكابوسية القاتمة، فإنه ديوان بالغ الرقة والعذوبة والشفافية الشعرية، وبخاصةٍ في جزئه الأخير “مَرأة الظل.. مرأةٌ لي“، إلى حد أنه يكاد يغلب عليه الطابع الرومانسي. وبعض مقطوعاته تعد من أجمل أشعار الحب، وإن يكن موضوع الحب فيها – رغم وجوده – أعمق من ظاهره الخارجي المباشر.

ستختفي الثنائية النسقية في هذا الديوان، وتسود القصائد والمقطوعات الشعرية الصغيرة، مما يعطي للديوان وحدته المتميزة؛ إلَّا أننا – مع ذلك – نستشعر الثنائية في الدلالة العامة، في هذا الصراع المتصل بين الأنا والواقع المرفوض، وفي اللقاء الملتبس بين الأنا و”هي”. الصراع بين الأنا والواقع المرفوض تكاد تبلوره هذه الصرخة العالية التي تكاد تعود بنا إلى ديوان “إشراقات“: “عَارِيًا أصُوغُ لِي جَهَنَّمَ الجَدِيدَة“. وهي تكاد تذكرنا كذلك بديوان رامبو “فصل في الجحيم”. اما اللقاء الملتبس بين الأنا و”هي”، فما أكثر المقطوعات التي تعبر عنه، وهي مقطوعات بالغة العذوبة والرقة، مثل:

تَخْرُجُ مِنِّي

يُصْبِح جَسَدِي يَتِيمًا

يَفْتَح سُرَادقَاتِه لِلْعَزَاء

……….

ومثل:

تَمْضِي إلَى الشَّاي، فِي المَطْبَخِ، عَارِيَةً.

تَنسَى عَلَى السَّرِيرِ رَائِحَتَهَا،

وَدِفْئَهَا،

وَالْمُلاَءَةَ المَبْلُولَة.

تَنسَى فِي جَسَدِي جَسَدَهَا.

ومع ذلك، ينتهي الديوان، وتنتهي هذه المقطوعة بالغة العذوبة والرقة إلى الرحلة الكابوسية نفسها التي تكاد تمهد للديوان الجديد بقوله:

مَرْأةٌ تَخْتَصِرُ سَبْعَةَ آلاَفِ سَنَةٍ مِن نِسَاء.

رَجَلٌ وَحْدَه.

عَلَى هَاوِيَةٍ

يَلْتَقِيَان.

إلاَّ أننا نستشعر في هذا الديوان بالأنا الشاعرة متضخمةً تضخمًا يكاد يبلغ حد الألوهية، وإن لم تفقد أحيانًا التباسها ومأساويتها وروح البحث والانتظار الغامض، مثل:

وَلِي حَشْدٌ مِن الأشْيَاء

يُشْعِلُنِي إلَهًا أو خَرِيفَا.

أو:

أنَا احْتِمَال

أو:

مَن يَدُلُّنِي عَلَى سَيْفِي البَصِير

وهي إشارة معدلة إلى بيت شعري لصلاح عبدالصبور في “مأساة الحلاج”، أو “وَلِي قَدَمَان تَخْتَرِعَان مَا أشَاءُ مِن دُرُوب“، و”لِي يَدَان تَأتِيَان لِي بِمَا أشَاء“، إلى غير ذلك.

ولعل هذه الأنا المتضخمة في هذا الديوان أن تفسر نُدرة الاتجاه التناصِّي فيه، على خلاف الأمر في ديوان “إشراقات“، كذلك كما قد تفسرها وتفسر هذه الندرة التناصِّيَّة العالقة بين الأنا و”هي”، فضلًا عن الطابع التفاؤلي العام للديوان، رغم التباسه المستمر.

وهكذا نستطيع أن ننتقل إلى ديوان “هكذا قُلتُ للهاوية“. ويكاد هذا الديوان أن يعود بنا إلى ديوان “إشراقات“؛ إلَّا أنه يختلف عنه من حيث تشكيله البنيوي والطباعي. فهو يتكون من قصائد دون عناوين تتألف من سرد شعري – لو صح التعبير – تقطعه في انتقالاته مساحات بيضاء، وتخترقه مقطوعات شعرية صغيرة في قلب بنيته السردية نفسها، وليس على هامشه، كما كان الشأن في “إشراقات“. كما تختلف أنماط الطباعة نفسها، فتؤكد بعض العبارات وتبرز بعض الكلمات. والعبارات ممتدة بعرض الصفحة أحيانًا، ولكن التسلسل السردي في الديوان يلتقي مع “الإشراقات” في أن تسلسل الفقرات الشعرية لا يشكل تسلسلًا معنويًّا، بل تحكمها الوثبات المتقطعة والمفاجئة بين الذكريات والأحداث والإحالات النصية العديدة، والشطحات الحلمية، فضلًا عن استخدام المفارقات الوصفية والترابطات بين المعاني الضدية والعلاقات شبه السحرية أحيانًا.

على أن مفردات الحياة العادية هي النسيج العام لقصائد هذا الديوان، وإن غلبت عليها في كثير من الأحيان العبارات ذات الثقل الثقافي. ومن مجموع هذه المعطيات تتشكل الدلالة العامة للقصائد وللديوان عامة. ويكاد هذا الديوان أن يعود بنا، بشكل أكثر عنفًا وحدةً ورفضًا ودحضًا والتباسًا ومأساويةً إلى الرؤية الإطلاقية الرافضة لكل شيء، وإلى المعاناة الكابوسية التي تدين كل شيء في ديوان “إشراقات“.

على أني أكاد أستشعر أن النغمة الدلالية الأساسية في الديوان، أو كما نقول في الموسيقى (leitmotif) هي قصيدة كفافيس حول محنة انتظار البرابرة الذين يطول انتظارنا لهم، لكنهم – يا للمأساة – لا يأتون. انه الانتظار المهزوم للمجزرة القادمة والهزيمة المتوقعة، في أكثر من موضع في الديوان:

 أُهَيِّءُ قَلْعَتِي لِلْغُزَاةِ القَادِمين.

أعرِفُهُم وَأنتَظِرهُم بِشَغَف.

 مَتَى يَجِيءُ القَرَاصِنَةُ الفَاتِنُون؟

 دَبِيبٌ قَادِم،

وَقَلْعَةٌ مُبَاحَة.

وَحِيدَا.

لِي الغُزَاةُ القَادِمِين.

 هَل يَأتِي البَرَابِرَةُ، أم مَرُّوا عَلَى نَوْمِيَ الوَثَنِي.

وإلى جانب هذه النغمة الدلالية الأساسية نتبين خلال إشارات مركزية وسريعة، وإن تكن جهيرةً، بشاعة الواقع السائد المرفوض الذي تفيض بسببه روح الإحساس بالهزيمة والعار واليأس والخيبة. وهي إشارات متنوعة تتراوح بين الجوانب العسكرية والقومية والسلطوية والثقافية نذكر منها، مثل:

 عَاصِفَةُ الصَّحرَاءِ تَقْصِفُ الخُزَعْبَلاَتِ الجَمِيلَة.

أو:

 رِمَالٌ أمَّةٌ لَهَا لُغَةٌ وَدِينٌ وَلِحًى أنِيقَة.

(لَهَا عَوَاصِفُ الصَّحرَاءِ أيضًا).

وعاصفة الصحراء إشارة فاجعة إلى العمل والتحالف العسكري الأمريكي العربي المصري المشترك، كما نعرف.

وأيضًا مثل:

 فَلْيَبْتَعِد المُلْتَصِقُونَ بِحِذَاءِ المُؤَسَّسَةِ كَذُبَابٍ بَذِيء.

أمَّا الحَرَافِيشُ فَلَهُم بَيْتِي وَأسْرَارُ شُرُورِي وَشَرِيعَتِي المُرِيبَة.

ومثل:

 هَل نَامَ الحَرَسُ وَالعَسَسُ وَالمُنَظِّرُونَ لاشتِرَاكِيَّةِ الدَّولَةِ البُولِيسِيَّة؟

 شُعَرَاءُ وَقَصَّاصُون وَنُقَّادٌ يَنَامُونَ عَلَى الرُّفُوفِ، وَيَتَغَطُّونَبِالغُبَارِ، زَهْرَةُ البُسْتَانِ وَقْتٌ قَتِيلٌ وَغُبَارٌ كَلاَم.

أو أخيرًا، هذه الصورة البشعة في التباسها المأساوي حول التناقض والمفارقة بين القدرة والعجز في واقعنا المصري:

حَقْلُ قَمْحٍ يَتَسَوَّلُ سِيجَارَةً أجْنَبِيَّة.

وفي مواجهة هذه الصور المأساوية المرة الساخرة، تقف الأنا “منكَسرةً لكنها لا تنحني”. وتبرز رؤية للأنا أكثر ثقلًا من الأنا في “الإشراقات“، ولعلها امتداد متطور للأنا في “إنها تومئ لي“، وهي تعلن بحسم طبيعة انتمائها وحقيقة موقفها الجمالي والدلالي. يقول:

لِمَاذَاحِينَ تَهُزُّ الرِّيحُ أغْصَانِي

يَسَّاقَطُ الحُطَيْئَةُ وبَشَّارُ وَرَامبُو وَالمُتَنَبِّي وَمَايَاكُوفْسِكِي وَأبُو نُواس وَامرُؤُ القَيْس وَرِيتْسُوس وَتَأبَّطُ شَرًّا… الخ؟

إنهم – في الحقيقة – شعراء مسيرته، شعراء الهجاء والرفض القاطع والانخلاع عن السائد، شعراء المواقف الحادة المطلقة التي ينتسب إليها، ويواصل تراثهم شاعرنا. وبهذا التراث يمضي الشاعر كطلقة:

خَاوِيًا مِن الطُّفُولَةِ وَالجِرَاحِ العَاطِفِيَّة.

ليست له بطولة، بل لعله أقرب إلى دون كيشوت عصري، فهو يدرك ما هو ضروري وواجب. ولكنه إدراك مأساوي ساخر مُر عاجز. يقول:

أهَيِّئُ نَفْسِي لِلْمَجْزَرَةِ القَادِمَة.

لَم أخْسَر فِي آخِرِ مَجْزَرَةٍ

غَيْرَ جُثَّتِي وَخَيْبَتِي المُتَكَرِّرَة.

إنه يمضي راضيًا كما يقول بسخريته المرة؛ ذلك أن:

المَاءُ فِي الكُوبِ، وَالقَتْلُ فِي الشَّوَارِعِ، البُومُ فِي الخَرَائِب، الجُثَثُ في الثِّيَابِ، الضِّبَاعُ فِي المُدُنِ وَالعَوَاصِم.

………..

أبنِيَةٌ لاَمِعَةٌ مَنذُورَةٌ لِبُومٍ قَادِم.

وَأوْرَاقٌ غَيْمَةٌ سَامَّة

تُمْطِرُ أشْلاَءَ بَاهِظَةً وَكَلاَمًا مِن عَطَن.

وَالأَنَاشِيدُ تَقْتَاتُ لَحْمَ الأطفَال.

ولهذا، يقول:

حِينَمَا اسْتَيْقَظْتُ.. كانَ مُنتَصَفُ اللَّيْل

(هَكَذَا سَبَقَنِي رَامْبُو)

لقد سبقه رامبو بهذه الرؤية الكابوسية التي اكتشفها هو كذلك حين استيقظ وعيه، في وطنه، في شعره، وكانت البشاعة قد بلغت شأنًا بعيدًا.

ماذا يفعل؟ إنه ينتظر المجزرة القادمة. وهو

سَيِّدُ الأفُول.

صَوْلجَانِي صَرْخَةٌ،

وَتَاجِي الذُّهُول.

ومع التباس في الرؤية بين الوعي والعجز، وثنائية في قلب “الأنا” بين الحق والباطل:

أنَا القَاتِلُ البرِيء

أنَا الخَائِفُ الجَرِيء

أنَا الفَاتِنُ الدَّنيء

أنَا الأبَدِيَّةُ الفَانِيَة

أنَا النَّبِيُّ الرَّجِيم

تقول له الوديان:

اخْلَعِ الآنَ نَفْسَكَ وَتَقَدَّمْ بِاليُسْرَى تَجِد رِيحًا وَرِيحَانًا وَحَلْبَةً مُبَاحَةً للانتِهَاكِ، انتَهِكْ، وَلا َتُبْقِ عَلَى خُزَعْبَلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأطْلِق الطُّيُورَ كُلَّهَا شَاهِرَةَ الأنيَابِ وَالمَخَالِبِ، إلَى أن يَشْبَعَ الجَوْعَانُ وَيَرْتَوِيالعَطْشَانُ، وَتَرْتَقِي سُدَّةَ العَرْشَ سَيِّدًا شَهِيدًا..

لكن أنَّى له ذلك؛ إنه وحيد، مجرد “حَجَر صاخِب“، وهم “رَعَايَا مِن غُبَار“، “جُمُوعٌ مُهَرْوِلَةٌ فِي اندِحَارِهَا”.

كما يقول الديوان في بدايته: لقد قتلوه فانفرط، تفكك وتشظَّى. وعندما انفرط، انفضح عجزه، ولم يعد له عاصم من الفجيعة القادمة، من المجزرة القادمة.

ولهذا يقول الديوان في مطلع قصيدته الأخيرة:

هَكَذَا يَتَفَتَّتُ الوَقْتُ وَالأرْضُ بَيْنَ أصَابِعِي، لاَ مَجَالَ لِلتَّرمِيمِ..

وتشده هاوية لا يراها.

إن رفعت سلام – في الحقيقة- لا يقول للهاوية، كما نقرأ في عنوان الديوان (هكذا قلت للهاوية)، وإنما يقول الهاوية للناس /لنا، ينسج لهم /لنا- بالذكريات والأحلام والإحالات النصية والتلاحمات التعبيرية الضدية والهلوسات الكابوسية – هذا الطريق المحتوم إلى الهاوية. هذه هي الدلالة العامة للديوان في تقديري، وهي لا تصور حتمًا قدريًّا أو حكمًا نهائيًّا، وإنما تتهم وتشير وتنذر برؤية شعرية مبدعة بالغة القسوة والحدة والمرارة والرفض والعنف الشرس والإطلاقية، تتهم وتشير وتنذر بما هو قائم وإلى ما يمكن أن يكون.

إن هذا الديوان- مع ديوان “إشراقات” – يمكن وصفهما بأنهما “فصل في جحيم مصري عصري“، استلهام وامتداد لـ”فصل في الجحيم” لرامبو، مع اختلاف الرؤية بين رامبو ورفعت سلام.

فلا شك أن الطابع الكابوسي والعنف التخريبي الفني والدلالي – في جحيم رفعت سلام – يقترب كثيرًا من الطابع العام لجحيم رامبو، بل قد نجد بعض التماثلات الجزئية بينهما. فسيادة اللون الأزرق مثلًا في جحيم رفعت سلام نجده – جزئيًّا- في جحيم رامبو وإشراقات رامبو؛ وكذلك مفهوم الوقت الذي يكاد يكون من المفاتيح الأساسية في جحيم رفعت سلام، فضلًا عن وجود بعض أوجه الشبه البلاغية؛ لعلي أشير إلى مثال منها هو قول رامبو في “فصل في الجحيم”:

 أجلستُ الجَمَالَ عَلى رُكْبَتَيَّ وَوَجَدْتُه مُرًّا، وَشَتَمْتُه.

الذي نقرأ ما يشابهه من حيث البنية والتعبيرية عند رفعت سلام، في قوله:

أُجْلِسُ البَحْرَ عَلَى يَدِي فِي الأصِيلِ وَأسْقِيه قَهْوَتِي

أو:

غُبَارٌ ذَهَبِيٌّ يَنَامُ عَلَى قَدَمِي قَرِيرًا.

بل لعلنا نجد ما هو أعمق من هذه المشابهات الخارجية؛ إذ تكاد رؤيتهما الجمالية للشعر أن تكون متقاربة. لست أشير – فحسب – إلى التداخل في الأحاسيس والمشاعر التي أصبحت اليوم مسحةً عامةً لشعر الحداثة عامة، وإنما أشير إلى عناية رفعت سلام في شعره بالذاكرة من ناحية، والرؤية الحسية المباشرة من ناحية أخرى؛ ويتلاقى في هذا مع قول رامبو في بعض كتاباته “إن ذاكرتك وحواسك هي غذاء دوافعك ونبضاتك الخلاقة”.

ليس في هذا أي مساس أو إقلال من القيمة الإبداعية المتميزة لتجربة رفعت سلام الشعرية؛ فالتأثر بشكل أو آخر لشاعر في مستوى رامبو ليس شيئًا معيبًا. والمهم هو توظيف هذا التأثر توظيفًا إبداعيًّا نابعًا من الذات. ولعلي أجد في كتابات بدر الديب بعض ملامح هذا التأثر كذلك؛ وقد خص بدر الديب رامبو بقصيدة موجهة إليه من أبدع قصائد ديوانه “حرف الحاء”. ولعلنا نذكر جميعًا مدى التأثر العميق لشعراء الخمسينيات والستينيات بشعر ت. س. اليوت، وبخاصة صلاح عبدالصبور، الذي تكاد بعض مقاطعه الشعرية أن تكون ترجمةً مباشرةً لبعض أشعار إليوت. ولا شك أن رامبو بالذات مدرسة بالغة الغنى في الإبداع الشعري، ما أجدرها بالدراسة والعناية.

وأكاد أقول كذلك إن هناك تماثلًا بين شعر رفعت سلام وشعر عفيفي مطر، رغم الاختلاف الشديد في رؤيتهما للعالم. ففي عالمهما الشعري هذا اللقاء الحميم بين الذاكرة والحلم والواقع الملموس المرفوض، بين كليات الأشياء وجزئياتها البسيطة، فضلًا عن العنف والحدة في بنية التعبير عند كليهما. على أنها ملاحظة عابرة، لعلي أختتم بها هذه الإطلالة العامة على شعر رفعت سلام.

لا شك عندي في القيمة الإبداعية الكبيرة لتجربة رفعت سلام الشعرية، ولا شك أن شعره هو رد فعل رافض حاد جاد إطلاقي الرفض للتدني الاجتماعي والإنساني والقيمي الذي يرين على حياتنا. ولكنني أخشى أن يكون تعبيره الشعري عن هذا الرفض يتخذ تشكيلًا يكاد يغرب ويخفي دلالته الفاعلة؛ ليست دعوةً مني إلى زدانوفية ستالينية، كما وصفني رفعت سلام ذات يوم، وليست دعوة إلى شعارية أوتعبوية خطابية سياسية في الشعر، وإنما دعوة إلى الفاعلية الجمالية الدالة، لو صح هذا التعبير المركب؛ أي أن تصبح القيم الجمالية المتجددة قادرةً على التواصل والوصول والاتصال، والفاعلية الجمالية والدلالية المؤثرة، ولا يصبح الشعر سعيًا وراء تجويده الفني، وحرصًا مشروعًا على ذلك، مجرد أقنوم جميل مصمت، أو ذرة روحية كذرات “ليبنتز” الخالية من النوافذ، أو بنية تعبيرية ملغزة معجزة طلسمية، نكتفي بتلقفها تلقفًا جماليًّا يثير من الغرابة أو الإبهام، أو محاولة الفهم العصي أكثر مما يثير من المتعة الإنسانية العميقة الشاملة.

لا أناقش قضية الغموض في الشعر. فالغموض طبيعي في كل إبداع أدبي وفني؛ لأنه بنية مغايرة لبنية الواقع، وإن كان مستمدًّا منها وتعبيرًا عنها؛ وإنما أناقش – مرةً أخرى – ما أسميه الفاعلية الجمالية الدالة التي نفتقدها في الشعر المعاصر، في كثير من الأحيان، أو نجهد تحليليًّا وعقليًّا للوصول إلى دلالتها، بل ربما إلى جمالياتها كذلك.

وأكاد أقول – مجتهدًا- إن سبب ذلك يرجع إلى مصدر الخبرة الشعرية نفسها عند الكثير من شعرائنا. فالملاحظ أن كثيرًا مما نطلق عليه شعر الحداثة تكاد مصادر خبرته الشعرية أن تكون ثقافيةً قرائيةً، معرفيةً أكثر مما هي خبرات إنسانية حية. ولعلنا نتبين هذا في غلبة الاتجاه إلى الإحالات التناصية التراثية والتاريخية والثقافية عامةً في هذا الشعر. ولهذا يغلب على هذا الشعر الطابع الثقافي التجريدي في نسيجه وفي صوره وفي دلالاته.

ليس معنى هذا بالطبع أنه يخلو من الخبرة الحية، وإنما اتخذ من غلبة المصدر الثقافي بديلًا عن مصدر الخبرة الإنسانية الحية. وليس معنى هذا كذلك استبعاد الفكر والثقافة والتناص من الشعر، وإنما المسألة موقف من الحياة والإنسان فنيًّا وشعريًّا.

ولعل هذا يفسر لي – شخصيًّا- لماذا كان ديوان “إنها تومئ لي” لرفعت سلام أكثر تواصلًا عندي من الديوانين الآخرين، رغم أن الخبرة والرؤية في الدواوين الثلاثة واحدة تقريبًا. ولكن الملاحظ – كما ذكرنا – محدودية التناص والإشارات خارج التجربة وملموسية الخبرة الحية وبروزها في ديوان “إنها تومئ لي“. وليس في هذا دعوة زدانوفية إلى نمط معين من الشعر، وإنما إلى مضاعفة اقترابنا من جسد الحياة والتعبير عنها بالشعر الحي، لا بالأقنعة الثقافية المتعالية (وخاصةً إذا كنا نتحدث عن شعر ثوري أو تقدمي)؛ فلا نجعل من الشعر مجرد إشارات ملغزة- في بعض الأحيان- يستلزم الأمر الخروج منها كي نعود إليها لنحسن فهمها وتذوقها.

هذه مجرد دعوة إلى المناقشة لا تقلل بحال من استمتاعي العميق بقراءتي المتأخرة- التي أعتذر عنها – لشعر رفعت سلام؛ وأرجو أن تكون مجرد تمهيد لقراءة أكثر غوصًا وعمقًا.

عودة إلى الملف

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم